الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث والعشرون
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا خَيْبَرَ، فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِغَلَسٍ، فَرَكِبَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَكِبَ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَنَا رَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ، فَأَجْرَى نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ، وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ حَسَرَ الإِزَارَ عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ قَالَ:"اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ". قَالَهَا ثَلَاثًا. قَالَ: وَخَرَجَ الْقَوْمُ إِلَى أَعْمَالِهِمْ فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَالْخَمِيسُ. يَعْنِي الْجَيْشَ، قَالَ فَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً، فَجُمِعَ السَّبْيُ، فَجَاءَ دِحْيَةُ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَعْطِنِي جَارِيَةً مِنَ السَّبْي. قَالَ:"اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً". فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ سَيِّدَةَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، لَا تَصْلُحُ إِلَاّ لَكَ. قَالَ:"ادْعُوهُ بِهَا". فَجَاءَ بِهَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"خُذْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْي غَيْرَهَا". قَالَ فَأَعْتَقَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَتَزَوَّجَهَا. فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، مَا أَصْدَقَهَا؟ قَالَ: نَفْسَهَا، أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالطَّرِيقِ جَهَّزَتْهَا لَهُ أُمُّ سُلَيْمٍ فَأَهْدَتْهَا لَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَأَصْبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَرُوسًا فَقَالَ "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَجِيء بِهِ". وَبَسَطَ نِطَعًا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالسَّمْنِ. قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَدْ ذَكَرَ السَّوِيقَ، قَالَ فَحَاسُوا حَيْسًا، فَكَانَتْ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قوله: غزا خيبر، أي غزا بلدة تسمى خيبر، وهي بلغة اليهود حِصن، وقيل: أول ما سكن فيها رجل من بني إسرائيل يسمى خيبر، فسميت به، وهي بلدة في
جهة الشمال والشرق من المدينة النبوية، على ستة مراحل، وكانت لها نخيل كثير، وكانت في صدر الإِسلام دارًا لبني قريظة والنضير، وكانت غزوتها سنة سبع من الهجرة، قاله ابن سعد. وقال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من الحديبية، ذا الحجة وبعض المحرم، وخرج في بقيته غازيًا إلي خيبر. وقوله: بغَلَسٍ، بفتح الغين واللام، وهو ظلمة آخر الليل. وقوله: فركب نبي الله، أي ركب مركوبه، وأخرج التِّرمذيّ والبيهقيّ عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة والنضير على حمار، ويوم خيبر على حمار مخطوم برسن ليف، وتحته إكاف من ليف.
وقال ابن كثير: والذي ثبت في الصحيح عند البخاريّ عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرى في زقاق خيبر حتى انحسر الإزار عن فخذه، فالظاهر أنه كان يومئذ على فرس لا حمار، ولعل هذا الحديث، ان كان صحيحًا، محمول على أنه ركبه في بعض الأيام وهو محاصرها. وقوله: في زقاق خيبر، بضم الزاي وبالقافين، وهي السكة، يذكر ويؤنث، والجمع أزقة. وقوله صلى الله عليه وسلم: ثم حسر الإزار عن فخذه حتى أني انظر، وفي رواية الكشميهنيّ "لأنظر" والصواب أنّ حَسَرَ، بفتح المهملتين، ويدل على ذلك تعليقه الماضي في أول الباب، فإنه قال: وقال أنس حَسَر النبي صلى الله عليه وسلم، وضبطه بعضهم بضم أوله على المبناء للمفعول، بدليل رواية مسلم "فانحسر"، وليس ذلك بمستقيم، إذ لا يلزم من وقوعه كذلك في رواية مسلم أن لا يقع عند البخاريّ على خلافه، وقد رواه بلفظ "فانحسر" أحمد والطبرانيّ، ورواية "فانحسر" لا دلالة فيها على أن الفخذ ليس بعورة، لدلالتها على أنه وقع بغير اختياره، لضرورة الإجراء.
وأما رواية حَسَر، بفتحتين، ففيها دلالة على أن ذلك كان باختياره، فتدل على أن الفخذ ليس بعورة، ولكن قال بعض العلماء: إن اللائق بحاله، عليه الصلاة والسلام، أن لا ينسب إليه كشف فخذه قصدًا، مع ثبوت قوله عليه الصلاة والسلام "الفخذ عورة" ولعل أنسًا لمّا رأى فخذه عليه الصلاة والسلام مكشوفًا، وكان عليه الصلاة والسلام تسبب في ذلك بالإجراء، أسند الفعل إليه.
وقال القرطبيّ: حديث أنس وما معه إنما ورد في قضايا معينة في أوقات مخصوصة يتطرق إليها من احتمال الخصوصية، أو البقاء على أصل الإباحة، ما لا يتطرق إلى حديث جرهد وما معه؛ لأنه يتضمن إعطاء حكم كليّ، وإظهار شرع عام، فكان العمل به أَوْلى، ولعل هذا هو مراد المؤلف بقوله: وحديث جرهد أحوط.
وأجابوا عن حديثَيْ عائشة وحفصة السابقين بما قاله أبو عمر: الحديث الذي رووه عن حفصة فيه اضطراب، وقال البيهقيّ: قال الشافعيّ: والذي روي في قصة عثمان من كشف الفخذين مشكوك فيه؛ لأن الراوي قال "فخذيه" أو "ساقيه" كما في بعض الروايات، وقال الطَّبريّ في "تهذيب الآثار" الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل عليه أبو بكر وعمر، وهو كاشف فخذه، واهية الإِسناد، لا تثبت بها حجة في الدِّين، والأخبار الواردة بالأمر بتغطية الفخذ والنهي عن كشفها، أخبار صحاح. ومما احتج به القائلون بأنه ليس بعورة قول أنس في هذا الحديث "وإن ركبتي لَتَمسُّ فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم" إذ ظاهره أن المس كان بدون حائل، ومس العورة بدون حائل لا يجوز، وقالوا: إنّ رواية مسلم، ومن وافقه، في أن الإزار لم ينكشف بقصد منه عليه الصلاة والسلام، يمكن الاستدلال بها على أن الفخذ ليس بعورة من جهة استمراره على ذلك؛ لأنه، وإن جاز وقوعه من غير قصد، لكن لو كان عورة، لم يقر على ذلك، لمكان عصمته صلى الله عليه وسلم، ولو فُرض أن ذلك وقع لبيان التشريع لغير المختار، لكان ممكنًا، لكن فيه نظر من جهة أنه كان يتعين حينئذ البيانُ عقبه، كما وقع في قصة السهو في الصلاة، وسياقه عند أبي عُوانة والجَوزقي عند عبد العزيز، ظاهر في استمرار ذلك، ولفظه "فأجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر، وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم، وإني لأرى بياض فخذيه".
هذا ما قيل في أوله: الفخذ من الطرفين، وقد مر عند قول المصنف: وحديث أنس أسند، بيان مَن قال إنه عورة، ومن قال إنه غير عَورة، وحقيقة العورة من الرجل والأَمة قُنة أو ذات سائبة ما بين سُرَّة وركبة، وكذلك من الحرة
مع الحرة ومع المحرم عند الشافعية، وعند المالكية يجوز للرجل من الحرة المحرم، نظر أطرافها، وهي القدمان والذراعان وما فوق المنحر، وقد شهد بعض علماء المالكية أن الأولى للمحرم المالكي تقليد الشافعية، فقد روى الحارث بن أبي أسامة "عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته" وقيس بالرجل الأمة، بجامع أن رأس كل منهما ليس بعورة. وفي السنن أن عورتها ما بين مَعْقِد إزارها إلى ركبتها، وعند المالكية أن السُّرَّة والركبة خارجتان من العورة في المشهور. وقال القسطلانيّ: يجب ستر بعض السرة والركبة ليحصل الستر. وقيل: هما عورة، وقيل: الركبة عورة دون السرة، لحديث الدارقطني "عورة الرجل ما دون سرته حتى يجاوز ركبتيه". وصحيح مذهب أبي حنيفة وأحمد أنهما ليسا بعورة أيضًا.
وقيل: إنهما عورة عند أبي حنيفة، وقيل: الستر عورة دون الركبة، وقيل بالعكس، وعورة الحرة في الصلاة وعند الأجنبي جميع بدنها إلَّا الوجه والكفين، أي اليدين ظاهرًا وباطنًا إلى الكوعين، كما فسر به ابن عباس قوله تعالى {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] وأصح الروايتين عند أبي حنيفة أن قدم المرأة ليس بعورة، لأنها مبتلاة بإبداء قدميها عند المشي؛ لأنها ربما لا تجد الخف. وقال الشافعي: إن الخلوة يجب فيها ستر العورة الكبرى، وهي السوأتان، ويكره له نظرهما من نفسه. وعند المالكية يندب ستر السوأتين وما والاهما في الخلوة، ويباح للأجنبية أن ترى من الأجنبي ما يراه من محرمه، وترى المحرم من محرمها ما يراه من الرجل. وقال القسطلانيّ: والخنثى كالأنثى، فلو استتر كالرجل بأن اقتصر على ما ستر ما بين سرته وركبتيه، وصلى، لم تصح صلاته على الأصح، للشك في الستر. وصحح في التحقيق صحتها، ونصت المالكية أيضًا على أن حكمه في الستر حكم الأنثى.
وقوله: فلما دخل القرية، مشعر بأن الزقاق كان خارج القرية. وقوله: خَرِبت خيبر، أي صارت خرابًا، قاله على سبيل الإخبار، فيكون من الأنباء بالمغيبات أو على جهة الدعاء عليهم، أو التفاؤل لما رآهم خرجوا بمساحيهم
ومكاتلهم التي هي من آلات الهدم. وقوله: وخرج القوم إلى أعمالهم، أي إلى مواضع أعمالهم، أو "إلى" بمعنى اللام، أي خرجوا لأعمالهم التي كانوا يعملونها. وقوله: وقال بعض أصحابنا، البعض هو محمد بن سيرين، كما أخرجه المؤلف من طريقه، أو ثابت البنانيّ، كما أخرجه مسلم من طريقه، والأوَّل مرّ في الأربعين من الإيمان، ومرّ الثاني في تعليق بعد الخامس من كتاب العلم.
وقوله: والخميسُ، بالرفع عطفًا على محمد، أو بالنصب على أن الواو بمعنى مع. وقوله: يعني الجيش، تفسير من عبد العزيز أو ممن هو دونه، والمعنى أن عبد العزيز لم يسمع لفظة الخميس من أنس، بل إنما سمع منه "قالوا: جاء محمد" فقط، وسمع من بعض أصحابه "والخميس" وسُميّ الجيش بالخميس لأنه خمسة أقسام: مقدمةٌ وساقَةٌ وقَلْب وجناحان. وقيل: من تخميس الغنيمة، وتعقبه الأزهريّ بأن التخميس إنما ثبت بالشرع، وقد كان أهل الجاهلية يسمون الجيش خميسًا، فالتفسير الأول أوْلى، والتفسير مدرج.
وقوله: عَنْوة، بفتح العين وسكون النون، أي قهرًا في عنف، أو صلحًا في رفق، ضد. ومن ثَمّ اختُلف هل كانت صلحًا أو عَنوة أو إجلاءًا، وصحح المنذريّ أن بعضها أُخذ صلحًا وبعضها عنوة وبعضها إجلاءًا، وبهذا يندفع التضاد بين الآثار. وقوله: فجُمع السبي بضم الجيم مبنيًا للمجهول. وقوله: فخذ جارية إنما أذِن صلى الله عليه وسلم لدَحْيَة في أخذ الجارية قبل القسمة؛ لأن له عليه الصلاة والسلام صَفِيّ المَغْنَم، يعطيه لمن يشاء، أو تنفيلًا له من أصل الغنيمة، أو من خُمس الخُمس بعد أن يتميز، أو قبل، على أن تحسب منه إذا يتميز، أو أذن له في أخذها لتقوم عليه بعد ذلك، وتحسب من سهمه.
وقوله: فجاء رجل، قال في الفتح: لم أعرف اسمه. وقوله: قريظة، بضم القاف وفتح الراء والظاء المعجمة المُشالة. وقوله: والنضير، بفتح النون وكسر الضاد المعجمة الساقطة، قبيلتان من يهود خيبر. وقوله: خذ جارية من السبي غيرها، يعني وارتجعها منه؛ لأنه إنما كان أذن له في جارية من حشد السبي،
لا في أخذ أفضلهن؛ لأنها كانت من بيت النبوءة من ولد هارون عليه السلام، وبيت الرياسة لأنها بنت سيد قريظة والنضير، مع الجمال، فلما رآه أخذ أنفس السبي نسبًا وشرفًا وجمالًا استرجعها منه، لئلا يتميز دَحْيَة على سائر الجيش، مع أن فيهم من هو أفضل منه، وأيضًا لما فيه من انتهاك حرمتها مع علو مرتبتها، وربما ترتب على ذلك شقاق أو غيره مما لا يخفى، فكان اصطفاؤه عليه الصلاة والسلام لها قاطعًا لهذه المفاسد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام هو أكمل الخلق في هذه الأوصاف، بل في سائر الأخلاق الحميدة.
وذكر الشافعيّ في الأم، عن سِيرة الواقديّ، أنه عليه الصلاة والسلام أعطى دحية أخت كِنانة بن الربيع بن أبي الحَقيق، وكان زوج صفية، فكأنه عليه الصلاة والسلام طيّب خاطره لمّا استرجع منه صفية، بأن أعطاه أخت زوجها وفي سيرة ابن سيد الناس أنه أعطاه ابنتَيْ عم صفية. وفي رواية لمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى صفية منه بسبعة أرؤس، وإطلاق الشراء على ذلك على سبيل المجاز، وليس في قوله "سبعة أرؤس" ما ينافي قوله هنا "خذ جارية" إذ ليس هنا دلالة على نفي الزيادة.
وقوله: أعتقها وتزوجها، أَخذ بظاهره من القدماء سعيدُ بن المسيب وإبراهيم النخعيّ وطاوس والزُّهريّ، ومن فقهاء الأمصار الثَّوريّ وأبو يوسف وأحمد وإسحاق. قالوا: إذا أَعتقَ أَمَتَه على أن يجعل عتقها صداقها، صح العقد والعتق والمهر. وذهب الجمهور كمالك وأبي حنيفة والشافعيّ ومحمد وزُفَر واللَّيث وابن شُبْرُمة إلى أنه ليس لأحد أن يفعل هذا، فيتمَّ له النكاح بدون صداق، غير النبي صلى الله عليه وسلم. لأن الله تعالى لما جعل له أن يتزوج بغير صداق، كان له أن يتزوج على العِتاق الذي ليس بصَدَاق. ثم إن فعل هذا وقع العتاق، ولها عليه مهر المِثل، فإن أبت أن تتزوجه تسعى له في قيمتها عند أبي حنيفة ومحمد، وقال مالك وزفر: ولا شيء له عليها. وفي الأحكام لابن بُزيزة، وقال الشافعيّ وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن: ان كرهت نكاحه غرمت له قيمتها، فإنْ كانت مُعْسِرة استسعت في ذلك، وقال مالك وزفر: وإن كرهت فهي حرة، ولا
شيء له عليها، إلا أنْ يقول: لا أعتق إلَّا على هذا الشرط، فإن كرهت لم تعتق؛ لأنه من باب الشرط والمشروط. وأغرب التِّرمذيّ فقال: إن الشافعيّ قائل بقول أحمد، والمعروف عند الشافعية أن ذلك لا يصح، ونص الشافعيّ على أن من أعتق أمته على أن يتزوجها، فقبلت، عتقت ولم يلزمها أن تتزوج به، لكن يلزمها له قيمتها، لأنه لم يرض بعتقها مجانًا، فصار كسائر الشروط الفاسدة، فإن رضيت وتزوجته على مهر يتفقان عليه، كان لها ذلك المسمى، وعليها له قيمتها، فإن اتحدا تقاصّا.
وممن قال بقول أحمد من الشافعية ابن حبان، صرح بذلك في صحيحه. وقال ابن دقيق العيد: الظاهرُ مع أحمد ومن وافقه، والقياس مع الآخرين، فيتردد الحال بين ظن نشأ عن قياس، وبين ظن نشأ عن ظاهر الخبر، مع ما تحتمله الواقعة من الخصوصية، وهي، وإن كانت على خلاف الأصل، لكن يتقوى ذلك بكثرة خصائص النبي صلى الله عليه وسلم في النكاح، وخصوصًا خصوصيته بتزويج الواهبة من قوله تعالى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50]
…
الآية، وممن جزم بأن ذلك من الخصائص يحيى بن أكثم فيما أخرجه البيهقيّ قال: وكذا نقله المزنيّ عن الشافعيّ. قال: وموضع الخصوصية أنه أعتقها مطلقًا، وتزوجها بغير مهر ولا ولي ولا شهود، وهذا بخلاف غيره.
وقال القرطبيّ: منع من ذلك مالك وأبو حنيفة لاستحالته، وتقرر استحالته من وجهين: أحدهما أن عقدها على نفسها إما أن يقع قبل عَتقها، وهو محال، لتناقض الحكمين: الحرية والرق، فإن الحرية حكمها الاستقلال، والرق ضده. وإما بعد العَتق، فلزوال حكم الجبر عنها بالعتق، فيجوز أن لا ترضى وحينئذ لا نكاح إلا برضاها. الوجه الثاني: أنّا إذا جعلنا العتق صَداقًا فإما أن يتقرر العتق حالة الرق، وهو محال لتناقضهما، أو حالة الحرية فيلزم أسبقيته على العقد، فيلزم وجود العتق حالة فرض عدمه، وهو محال لأن الصَّداق لابد أن يتقدم تقرره على الزوج إما نصًا وإما حكمًا، حتى تملك الزوجة طلبه، فإن اعتلوا بنكاح التفويض، فقد تحرزنا منه بقولنا "حكمًا" فإنها، وإن لم يتعين لها
حالة العقد شيء، لكنها تملك المطالبة، فثبت أنه يثبت لها حالة العقد شيء تطالب به الزوج، ولا يتأتّى مثل ذلك في العتق، فاستحال أن يكون صداقًا.
قال في الفتح: وتُعُقب ما ادعاه من الاستحالة بجواز تعليق الصّداق على شرط إذا وُجد استحقته المرأة، كأنْ يقول: تزوجتك على ما سيستحق لي عند فلان، وهو كذا، فإذا حل المال الذي وقع العقد عليه استحقته. قلت: القرطبيّ مالكيّ، وما ذكر أنه متعقب عليه به فاسد في مذهبه، لا يجوز عنده هذا الشرط، فإذا كان جائزًا في مذهب صاحب الفتح لا يعترض عليه به، إذ لا يصح الاعتراض على مذهب بمذهب، وأجاب القائلون بعدم صحته، ذلك عن ظاهر الحديث، بأجوبة أقربها إلى لفظ الحديث أنه إنْ أعتقها بشرط أن يتزوجها فوجبت له عليها قيمتها، وكانت معلومة فتزوجها بها، ويؤيده قوله في رواية عبد العزيز بن صهيب: سمعت أنسًا قال: سبى النبي صلى الله عليه وسلم صفيةَ فأعتقها وتزوجها. فقال ثابت لأنس: ما أصدقها؟ قال: نفسها فأعتقها. هكذا أخرجه المصنف في المغازي، وفي رواية ثابت وعبد العزيز عن أنس قال: وصارت صفية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تزوجها، وجعل عتقها صداقها، فقال عبد العزيز لثابت: يا أبا محمد، أنت سألت أنسًا ما أمهرها؟ قال: أمهرها نفسها، فتبسم. وهذا ظاهر جدًا في أن المجعول مهرًا هو نفس العتق، وهو الذي أوَّلَ به بعضهم فقال: إنه جعل نفس العتق مهرًا أو أنه من خصائصه، وجزم بذلك الماورديّ.
قال في الفتح: والتأويل الأول لا بأس به، فإنه لا منافاة بينه وبين القواعد، حتى لو كانت مجهولة، فإن في صحة العقد بالشرط المذكور وجهًا عند الشافعية. وقال آخرون: قوله "أعتقها وتزوجها". معنا أعتقها ثم تزوجها، فلما لم يعلم أنه ساق لها صداقًا قال: أصدقها نفسها، أي لم يصدقها شيئًا فيما أعلم، لم ينف أصل الصَّداق ومن ثُمّ قال أبو الطيّب الطَّبريّ من الشافعية وابن المرابط من المالكية، ومن تبعهما: إن قول أنس قاله ظنًا من نفسه، ولم يرفعه، وربما تأيد ذلك عندهم بما أخرجه البيهقي عن أُميمة، ويقال أَمة الله بنت رزينة عن أمها أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وخطبها وتزوجها وأمهرها رزينة، وكان أتى بها
مسبية من قريظة والنضير. وهذا لا تقوم به حجة، لضعف إسناده، ويعارضه ما أخرجه الطبرانيّ وأبو الشيخ عن صفية نفسها قالت: أعتقتي النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل عتقي صداقي، وهذا موافق لحديث أنس، وفيه رد على من قال: إن أنسًا قال ذلك بناء على ما ظنه.
وقد خالف هذا الحديث أيضًا ما عليه كافة أهل السير، من أن صفية من سبي خيبر، قلت: يمكن أن يكون قوله "مسبية" راجع إلى رزينة لا إلى صفية، إذا لم يثبت أن رزينة من غير قريظة والنضير، ولم أرهم توخوا لنسبها في تعريف الصحابة، ويحتمل أن يكون أعتقها بشرط أن ينكها بغير مهر، فلزمها الوفاء بذلك، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره. ويحتمل أنه أعتقها بغير عوض، وتزوجها بغير مهر في الحال، ولا في المال. قال ابن الصلاح: معناه أن العتق يحل محل الصداق، وان لم يكن صداقًا. قال: وهذا كقولهم: الجوع زاد من لا زاد له. قال: وهذا الوجه أصح الأوجه، وأقربها إلى لفظ الحديث، وتبعه النوويّ في الروضة، وهو من خصائصه عليه الصلاة والسلام.
وأخرج الطحاويّ عن ابن عمر في قصة جُوَيرية بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عتقها صداقها، وهو مما يتأيد به حديث أنس، لكن أخرج أبو داود عن عائشة في قصة جُويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما جاءت تستعين به في كتابتها:"هل لك أن أقضي عنك كتابتك وأتزوجك؟ قالت: نعم، قال: قد فعلت". واستشكله ابن حزم بأنه يلزمه منه إن كان أدى عنها كتابتها أن يكون ولاؤها لمكاتبها.، وأجيب بأنه ليس في الحديث التصريح بذلك؛ لأن معنى قوله "قد فعلت" رضيت، فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم عوَّض ثابت بن قيس عنها، فصارت له، فأعتقها وتزوجها، كما صنع في قصة صفية، أو يكون ثابت، لما بلغه رغبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهبها له.
وقوله: حتى إذا كان بالطريق، يعني سد الصهباء، وهي على بَريد من خيبر، غلط من قال سد الروحاء؛ لأنها على نيف وثلاثين ميلًا من المدينة من جهة مكة. وقوله: فأهدتها له من الليل، بالهمز، وفي بعض الروايات "فهدتها" بغير همزة. وصُوِّبِ لقول الجوهريّ: الهداءُ مصدر هديت أنا المرأة إلى زوجها.
وقوله: عروسًا، على وزن فعول، يستوي فيه المذكر والمؤنث ما داما في أعراسهما، وجمعه عُرُس، بضمتين للرجل، وعرائس للأنثى.
وقوله: وبسط نطعًا، أي بكسر النون وفتح الطاء المهملة، وعليها اقتصر ثعلب، وتجوز فتح النون وسكون الطاء وفتحهما، وكسر النون وسكون الطاء، وهو بساط من أديم، ويجمع على أنطاع ونُطوع. وقوله: وأحسبه قد ذكر السويق، وفي رواية عبد الوارث الجزم بذكر السويق. وقوله: فحاسوا حَيْسًا، أي خلطوا وتَخِذوا، والحَيْس بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية: السمن والتمر والأقط. قال الشاعر:
التمرُ والسمنُ جميعًا والأقط
…
الحيسُ إلَّا أنه لم يختلط
وقد يخلط مع هذه الثلاثة غيرها كالسويق، وربما عوض الدقيق عن الأقط. وقوله: فكانت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي طعام عُرْسه من الوَلْم، وهو الجمع، سمي به لاجتماع الزوجين.
وفي الحديث أن للسيد أن يتزوج أَمَتَه إذا أعتقها من نفسه، ولا يحتاج إلى وليّ ولا إلى حاكم، وقد اختلف السلف في ذلك، فقال مالك، وأبو حنيفة وأكثر أصحابه، والأوزاعيّ والثَّوريّ واللَّيث: يزوج الولي نفسه، ووافقهم أبو ثَور. وعن مالك: لو قالت الثَّيِّب لوليها: زوجني بمن رأيت، فزوجها من نفسه، أو ممن اختار، لزمها ذلك، ولو لم تعلم عين الزوج. وقال الشافعي: يزوجها السلطان أو ولي آخر مثله، أو أقعد سنة. ووافقه زُفَر وداود، وحجتهم أن الولاية شرطٌ في العقد، فلا يكون الناكح منكحًا، كما لا يبيع من نفسه.
وقال ابن الجوزي: فإن قيل: ثواب العتق عظيم، فكيف فوته حيث جعله مهرًا، وكان يمكن جعل المهر غيره؟ فالجواب أن صفية بنت ملك، ومثلها لا يقنع إلَّا بالمهر الكثير، ولم يكن صداقها نفسها وذلك عندها أشرف من المال الكثير. واستنبط منه مطلويية الوليمة للعرس، وأنها بعد الدخول، وجوز النوويّ كونها قبله أيضًا، وعند المالكية أنها مندوبة، وكونها بعد الدخول ندب آخر.