الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ح قَالَ وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ النَّضْرِ قَالَ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ قَالَ أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَقِيرُ قَالَ أَخْبَرَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً".
قوله: وحدثني سعيد بن النضر قال: أخبرنا هُشيم، إنما لم يجمع البخاريّ بين شيخيه مع أنهما حدثاه به عن هشيم لأنه سمعه منهما مفترقين، وكأنّه سمعه من محمد بن سنان مع غيره، فلهذا جمع فقال: حدثنا محمد بن سنان وسمعه من سعيد وعده، فلهذا أفرد فقال: وحدثني، وكأنَّ محمدًا سمعه من لفظ هشيم، فلهذا قال: حدثنا، وكأنّ سعيدًا قرأه أو سمعه يُقرأ على هشيم، فلهذا قال: أخبرنا. ومراعاة هذا كله على سبيل الإصطلاح ثم إنّ سياق المتن لفظ سعيد ح، وقد ظهر بالاستقراء من صنيع البخاريّ أنه إذا أورد الحديث عن غير واحد يكون اللفظ للأخير، ومدار الحديث جابر هذا على هشيم بهذا الإِسناد.
وله شواهد من حديث ابن عباس وأبي موسى وأبي ذَرٍّ من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، رواها كلها أحمد بأسانيد حسان وقوله: أُعطيتُ خمسًا، بيّن عمرو بن شعيب في روايته أن ذلك كان في غزوة تبوك، وهي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: لم يُعطهنَّ أحد قبلي، زاد في الصلاة من الأنبياء.
وفي حديث ابن عباس "لا أقولهن فخرًا" ومفهومه أنه لم يختص بغير الخمس
المذكورة، لكن في حديث أبي هريرة عند مسلم مرفوعًا "فضلت على الأنبياء بستٍّ" فذكر أربعًا من هذه الخمس، وزاد خصلتين وهما "وأُعطيت جوامع الكَلِم، وخُتِم بي النبيّون" فتحصَّل منه ومن حديث جابر سبع خصال.
ولمسلم أيضًا عن حذيفة "فضلنا على الناس بثلاث خصال: جُعِلت صفوفنا كصفوف الملائكة" وذكر خصلة الأرض كما مرَّ، وذكر خصلة أخرى مبهمة، وبينهما ابن خُزيمة والنَّسائيّ وهي "وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش" يشير إلى ما حطه الله عن أمته من الإِصر، وتحميل مالا طاقة لهم به، ورفع الخطأ والنسيان، فصارت الخصال تسعًا. ولأحمد عن عليّ "أعطيتُ أربعًا لم يُعطهن أحد من أنبياء الله: أُعطيت مفاتيح الأرض، وسُميت أحمد، وجُعلتْ أمتي خير الأمم" وذكر خصلة التراب فصارت الخصال ثنتي عشرة خصلة. وعند البزّار عن أبي هُريرة مرفوعًا "فُضلت على الأنبياء بست: غُفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وجُعِلت أمتي خير الأمم، وأعطيتُ الكوثر، وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه" وذكر ثنتين مما تقدم. وله عن ابن عباس، رفعه "فضلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافرًا فأعانني الله عليه فأسلم" قال: ونسيت الأخرى، فانتظم بهذا سبع عشرة خصلة، ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع. وذكر أبو سعيد النَّيسابوري في كتاب "شرف المصطفى" أن عدد الذي اختُص به نبينا صلى الله عليه وسلم ستون خصلة. وطريق الجمع بين الروايات المتقدمة هي أن يقال لعله اطلع أولًا على بعض ما اختص به، ثم اطلع على الباقي، ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يدفع هذا الإِشكال من أصله.
وقوله: نُصرتُ بالرعب، زاد أبو أُمامة كما عند أحمد "يقذف في قلوب أعدائي" وقوله: مسيرة شهر، مفهومه أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة، ولا في أكثر منها، وأما ما دونها فيمكن. لكن لفظ عمرو بن شعيب "ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر" فالظاهر اختصاصه به مطلقًا، وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق، حتى لو كان
وحده بغير عسكر، وهل هي حاصلة لأمته من بعده؟ فيه احتمال.
وليس المراد بالخصوصية مجرد حصول الرعب، بل هو وما ينشأ عنه من الظفر بالعدو. والحكمة في جعل الغاية شهرًا هي أنه لم يكن بينه وبين الممالك الكبار التي حوله ممثر من شهر، كالشام والعراق ومصر واليمن، فليس بين المدينة النبوية وبين الواحدة منها إلَاّ شهر فما دونه، وللطبراني عن السائب بن يزيد "شهرًا أمامي وشهرًا خلفي" وهذا غير مناف لحديث جابر. وله أيضًا عن أبي أُمامة "شهرًا وشهرين" وهذا التردد بي الشهر والشهرين إما أن يكون الراوي سمعه كما في حديث السائب، واما أنَّه لا أثر لتردده، لجزم غيره بالشهر.
وقوله: وجُعِلَت لي الأرض مسجدًا أي موضع سجود، ولا يختص السجود بموضع منها دون موضع، ويمكن أن يكون مجازًا عن المكان المبني للصلاة وهو من مجاز التشبيه، لأنه لما جازت الصلاة في جميعها كانت كالمسجد في ذلك. وقال التيمي: قيل: المراد جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وجعلت لغيري مسجدًا ولم تجعل له طهورًا لأنَّ عيسى كان يسيح في الأرض ويصلي حيث أدركته الصلاة، وسبقه الداوديّ إلى هذا وقيل: إنما أبيحت لهم في موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الأمة، فأبيح لها في جميع الأرض إلاّ فيما تيقنوا نجاسته. والأظهر ما قاله الخطابيّ وهو أنّ من قبله إنما أُحلت لهم الصلاة في أماكن مخصوصة كالبِيَع والصوامع. ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ "وكان من قبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم" وهذا نص في موضع النزاع، فتثبت الخصوصية، ويؤيده ما أخرجه البزار عن ابن عباس نحو حديث الباب، وفيه "ولم يكن من الأنبياء أحدٌ يصلي حتى يبلغ محرابه". قلت: فعلى هذا فلعل ما روي عن عيسى عليه الصلاة والسلام من كونه يصلي حيث أدركته الصلاة، لم يثبت. وقوله: وطهورًا، استدل به على أن الطَّهور هو الطهر لغيره؛ لأن الطهور لو كان المراد به الطاهر لم تثبت الخصوصية، والحديث إنما سيق لإثباتها. وقد روى ابن المنذر وابن الجارود بإسناد صحيح، عن أنس مرفوعًا "جُعلت لي كل أرض طيبة مسجدًا وطهورًا" ومعنى طيبة طاهرة، فلو كان معنى
"طهورًا" طاهرًا للزم تحصيل الحاصل، واستدل به على أن التيمم يرفع الحدث، لاشتراكهما في هذا الوصف، وفيه نظر، ويأتي ما فيه.
وقوله: فأيما رجلٌ أي مبتدأ فيه معنى الشرط. وما زائدة للتأكيد. واستدل بقوله طهورًا على أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض، وقد أكد في رواية أبي أُمامة بقوله:"وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجدًا وطهورًا" وهو قول مالك وأبي حنيفة ويحيى بن سعيد الأنصاريّ وابن خزيمة، ورواية عن أحمد وعند الشافعية. والرواية الأخيرة عن أحمد لابد من التراب التي يعلق منها شيء باليد، محتجين بقوله تعالى {وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] جاعلين مِنْ للتبعيض، وجعلها الأولون لابتداء الغاية، أو صلة، بدليل حذفها في آية النساء، واحتج الأولون بما مرَّ وبعموم "فأيما رجل" فإنه يتناول جميع أجزاء الأرض، لقوله في الجواب "فليصل" يعني بعد أن يتيمم، ولا يقال هو خاص بالصلاة؛ لأنا نقول، لفظ حديث جابر مختصر، وفي رواية أبي أُمامة عند البيهقيّ فأيما رجل من أمتي أتى الصلاة وجدَ الأرض طهوراً ومسجدًا. وعند أحمد "فعنده طهوره ومسجده". وفي رواية عمرو بن شعيب "فأينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت". وقد مرَّ قريبًا بيان أن معنى طهورًا في الحديث مطهر لا طاهر، واحتج ابن خزيمة لجواز التيمم بالسبخة، التي هي غير منبتة، بحديث عائشة في شأن الهجرة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال:"أُريت دار هجرتكم سبخة ذات نخل" يعني المدينة. قال: وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة طيبة، فدل على أن السبخة داخلة في الطيب، واحتج من خص التيمم بالتراب بحديث حذيفة عند مسلم بلفظ "وجُعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء" وهذا خاص، فينبغي أن يحمل العام عليه، فتختص الطهورية بالتراب.
ودل الافتراق في اللفظ حيث حصل التأكيد في جعلها مسجدًا دون الآخر على افتراق الحكم، وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقًا كما في حديث الباب. ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ التربة على خصوصية التيمم بالتراب، بأن
قال: تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره. وأجيب بأنه ورد في الحديث المذكور بلفظ التراب أخرجه ابن خزيمة وغيره. وفي حديث عليّ "وجعل التراب لي طَهورًا" أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد حسن، ويقوي القول بأنه خاص بالتراب أن الحديث سيق لإِظهار التشريف والتخصيص، فلو كان جائزًا بغير التراب لما اقتصر عليه.
قلت: الظاهر عندي أن ما أجيب به كله لا جواب فيه، أما الجواب بأن التربة وردت في الحديث بلفظ التراب، فهو دال على ترادف لفظ التربة والتراب، وهو الذي في القاموس وغيره من كتب العربية، فما قيل في التربة يقال في التراب. وما ذكر في الاستدلال بتفرقة اللفظين يقال فيه إن التعبير باللفظين إنما هو تفنن في العبارة، فإن التراب هي الأرض، ولذلك اقتصر على الأرض في حديث الباب وحديث أبي أُمامة، ومن أين لنا بأن الأرض والتراب متغايران لغة؟ وقد قال الله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم: 20] وقال في آية أخرى {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه: 55] برجوع الضمير إلى الأرض، وما ذلك إلَاّ لترادفهما. وقد قال كثير من المفسرين إن المرادَ أصلكم آدم، ومعلوم أن آدم خلق من جميع أجزاء الأرض كما هو منصوص، وكتب العربية يجعلون التراب هي الأرض، وعموم ذكر الأرض في حديث الباب مخصوص بما نهى الشارع عن الصلاة فيه، ففي حديث أبي سعيد الخدريّ مرفوعًا "الأرض كلها مسجد إلاّ المقبرة والحمام" رواه أبو داود وقال الترمذيّ: حديث فيه اضطراب، ولذا ضعفه غيره.
وفي حديث ابن عمر عند التِّرمذيّ وابن ماجه "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإِبل، وفوق ظهر بيت الله الحرام" قال الترمذيّ: إسناده ليس بالقوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قَبل حفظه. قلت: ولأجل الكلام في الحديثين المذكورين حمل مالك النهي في المسائل المذكورة على كراهة التنزيه في قول ضعيف عنده، والمشهور منه التفصيل في المسائل المذكورة، فتكره في معطن
الإبل وتحرم على ظهر الكعبة الفريضة خاصة وتبطل، وفي النافلة قولان: وتجوز في غير هاتين إن أمنت النجاسة.
وقوله: فليصل، خبر المبتدأ الذي هو أي، وعرف مما مرَّ أن المراد فليصل بعد أن يتيمم.
وقوله: وأحلت لي الغنائم للكشميهنيّ المغانم، وهي رواية مسلم، وللمصنف في الجهاد "أحل الله لنا الغنائم، رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا" وفي رواية سعيد بن المُسَيّب "لما رأى من أمر ضعفنا" وفيه إشعار بأن إظهار العجز بين يدي الله تعالى يستوجب ثبوت الفضل. قال الخطابيّ: كان من تقدم على ضربين، منهم من لم يؤذن له في الجهاد، فلم تكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئًا لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته إن كان مقبولًا. وقيل: المراد أنه خص بالتصرف في الغنيمة، يصرفها كيف شاء. والأول أصوب، وهو أن من مضى لم تحل لهم الغنائم أصلًا، بل تجمع، فالمقبولة تنزل عليها نار من السماء فتأكلها، وغير المقبولة لا تنزل عليها نار، وتبقى.
ومن أسباب عدم القبول الغُلُول، كما يأتي في الجهاد، وقد مَنّ الله على هذه الأمة ورحمها، لشرف نبيها عنده، فأحل لهم الغنيمة، وستر عليهم الغلول، فطوى عنهم فضيحة أمر عدم القبول ودخل في عموم أكل النار الغنيمة السبيُ، وفيه بعدٌ؛ لأن مقتضاه إهلاك الذُّرِّية ومن لم يقاتل من النساء، ويمكن أن يستثنوا من ذلك، ويلزم استثناؤهم من تحريم الغنائم عليهم، ويؤيده أنهم كانت لهم عبيد وإماء، فلو لم يجز لهم النبي لما كان لهم أرقاء، ويشكل على الحصر أنه كان السارق يسترق، كما في قصة يوسف عليه السلام، ولم أرَ مَنْ صرح بذلك. قاله في الفتح.
واستدل ابن بطال بما ذكر على جواز إحراق أموال المشركين، وتعقب بأن ذلك كان في تلك الشريعة، وقد نسخ بحل الغنائم لهذه الأمة، وأجيب عنه بأنه لا يخفى عليه ذلك، ولكنه استنبط من إحراق الغنيمة بأكل النار جواز إحراق
أموال الكفار إذا لم يوجد السبيل إلى أخذها غنيمة، وهو ظاهر لأن هذا القدر لم يرد التصريح بنسخه، فهو محتمل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ. قلت: هذا لا يتردد فيه؛ لأن إضرار العدو واجب بحسب الإِمكان.
وقوله: وأُعطيتُ الشفاعة، قال ابن دقيق العيد: الأقرب أن اللام فيها للعهد، والمراد الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها، وبذا جزم النّوويُّ وغيره. وقيل: الشفاعة التي اختُص بها أنه لا يرد فيما يسأل وقيل: الشفاعة في خروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ لأن شفاعة غيره تقع فيمن في قلبه أكثر من ذلك. قاله عياض،. والظاهر أن هذه مرادة مع الأولى لأنه يتبعها بها، كما في حديث الشفاعة الآتي إن شاء الله في كتاب الرقاق. وقال البيهقيّ في البعث: يحتمل أن الشفاعة التي تختص بها أن يشفع لأهل الصغائر والكبائر، وغيره إنما شفع لأهل الصغائر دون الكبائر، قلت: الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر، فلا يمكن أن يوجد من له صغائر بدون الكبائر، ونقل عياض أن الشفاعة المختصة به شفاعة لا ترد، وهذا هو عين القول الثاني.
وقد وقع في حديث ابن عباس "وأُعطيتُ الشفاعة، فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئًا" وفي حديث عمرو بن شعيب "فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله" والظاهر أن المراد بالشفاعة المختصة في هذا الحديث، إخراج من ليس له عمل صالح إلا التوحيد، وهو مختص أيضًا بالشفاعة الأُولى، لكن جاء التنويه بذكر هذه لأنها غاية المطلوب من تلك، لاقتضائها الراحة المستمرة، وقد ثبتت هذه الشفاعة في رواية الحسن عن أنس، كما يأتي في التوحيد "ثم أرجع إلى ربي في الرابعة، فأقول: يا رب، ائذن لي في من قال لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله". ولا يعكر على ذلك ما وقع عند مسلم قبل قوله "وعزتي" فيقول: "ليس ذلك لك، وعزتي
…
الخ"، لأن المراد أنه لا يباشر الإِخراج كما في المرات الماضية، بل كانت شفاعته سببًا في ذلك في الجملة.
وقوله: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامةً، وقع في رواية مسلم "وبُعثت إلى كل أحمر وأسود" فقيل: المراد بالأحمر العجم، وبالأسود العرب. وقيل: الأحمر الإِنس، والأسود الجن، وعلى الأول التنصيص على الإنس من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنه مرسل إلى الجميع. قلت: لعل في العبارة قلبًا، وأصلها التنبيه بالأعلى على الأدنى؛ لأن الإِنس أعلى من الجن، وظاهر قوله في الحديث "لم يعطَهن أحد قبلي" يقتضي أن كل واحدة من الخمس المذكورات لم تكن لأحد قبله، وهو كذلك، ولا يُعترض عليه بأن نوحًا عليه السلام كان مبعوثًا إلى أهل الأرض بعد الطوفان؛ لأنه لم يبق إلاّ من كان مؤمنًا معه، وقد كان مرسلًا إليهم؛ لأن هذا العموم لم يكن من أصل بعثته، وإنما اتفق بالحادث الذي وقع، وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس، وأما نبينا عليه الصلاة والسلام فعموم رسالته من أصل البعثة، فثبت اختصاصه بذلك.
وأما قول أهل الموقف لنوح عليه السلام، كما صح في الحديث: أنت أول رسول إلى أهل الأرض، فليس المراد به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله، وعلى تقدير أن يكون مرادًا، فهو مخصوص بتنصيصه، سبحانه وتعالى، في عدة آيات على أن إرساله كان إلى قومه، ولم يذكر أنه أُرسل إلى غيرهم. واستدل بعضهم بعموم بعثته بكونه دعا على جميع من في الأرض فأُهلكوا بالغرق، إلّا أهل السفينة، فلو لم يكن مبعوثًا إليهم لما أُهلكوا، لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإِسراء: 15] وقد ثبت أنه أوّل الرسل، والجواب القاطع عندي هو أنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلاّ قومه، فبعثته خاصة، لكونها إلى قومه فقط، وهي عامة في الصورة، لعدم وجود غيرهم، لكن لو اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثًا إليهم، قلت: نص الآية صريح في أن المغرقين قومه، قال تعالى:{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] فيدل ذلك على أنه بعث إلى قومه خاصة، ولكن لم يكن موجودًا سواهم حينئذ، وأجيب بجواز أن يكون غيره أُرسل إليهم في أثناء مدته، وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا، فدعا على من لم يؤمن من قومه ومن غيرهم، فأجيب: ويرد هذا الجواب