الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: حكم زيارة المقابر للرجال:
اختلف العلماء في حكم زيارة المقابر للرجال على أربعة أقوال:
القول الأول: إن زيارة المقابر للرجال مستحبة، وقال بهذا أكثر الحنفية (1) والمالكية (2) والشافعية (3) وهو المذهب عند الحنابلة، وعليه أكثر الأصحاب (4)
أدلة هذا القول:
استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1 -
عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها (5)» وفي رواية: «فمن أراد أن يزور قبرا فليزره، ولا تقولا هجرا (6)»
2 -
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم:
(1) ينظر: فتح القدير 2/ 150، البحر الرائق 2/ 210.
(2)
ينظر: مواهب الجليل 2/ 237، الشرح الصغير 1/ 368.
(3)
ينظر: مغني المحتاج 2/ 506، المجموع 5/ 285.
(4)
ينظر: المغني 3/ 517، الفروع 2/ 299.
(5)
أخرجه مسلم 2/ 672، رقم (977).
(6)
أخرج هذه الرواية النسائي في الجنائز، باب زيارة القبور 4/ 394، برقم (2032)، وأحمد 5/ 361، وأصل هذا الحديث عند مسلم، كما تقدم تخريجه قريبا.
«إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإن فيها عبرة (1)» .
3 -
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هجرا (2)»
فهذه الأحاديث السابقة تدل على أن زيارة القبور مندوب إليها على الوجه الشرعي (3)
4 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: " استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكر بالموت (4)»
(1) أخرجه أحمد 3/ 38، 63، 66، والحاكم في الجنائز 1/ 530، برقم (1386)، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 61، رجاله رجال الصحيح.
(2)
أخرجه الحاكم من طريقين في كتاب الجنائز 1/ 532، برقم (1393)، (1394)، وأحمد 3/ 237.
(3)
ينظر: المجموع 5/ 285.
(4)
أخرجه مسلم في الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه في زيارة قبر أمه 2/ 671، برقم 976.
وهذا دليل على استحباب زيارة القبور، حيث فعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من أدنى درجات الفعل الجواز والمشروعية.
5 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل البقيع بقيع الغرقد (1)»
حيث دل هذا الحديث على استحباب الزيارة، والسلام على أهل القبور، والدعاء لهم، والترحم عليهم، لفعله صلى الله عليه وسلم.
6 -
إن زيارة المقابر فيها نفع للحي والميت، وذلك أن الحي يتعظ ويتذكر الموت، وما بعده، وهذا يؤدي به إلى عمل الطاعات، واجتناب المعاصي والسيئات. أما الميت فينتفع بالسلام عليه، والدعاء له بالمغفرة والرحمة، وهذا كله أمر مطلوب شرعا، ومندوب إليه.
القول الثاني: إن زيارة المقابر للرجال مباحة.
(1) أخرجه مسلم في الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور، والدعاء لأهلها 2/ 669، برقم (9740).
وقال بهذا بعض الحنفية (1) وبعض المالكية (2) وهو رواية عند أحمد (3)
أدلة هذا القول:
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1 -
حديث (بريدة) - السابق - وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «ونهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور قبرا فليزره (4)»
قالوا: هذا أمر بعد الحظر، فيدل على الإباحة، ولا سيما وقد قرنه بما هو مباح، وهو ادخار لحوم الأضاحي، والانتباذ في كل سقاء، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث:«ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكرا (5)»
ونوقش هذا الدليل:
لا نسلم بأن الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة فقط، فهناك أوامر
(1) ينظر: بدائع الصنائع 1/ 320، والدر المختار 2/ 242.
(2)
ينظر: التفريع 1/ 373، والتاج والإكليل 2/ 237.
(3)
ينظر: الفروع 2/ 299، والإنصاف 2/ 561.
(4)
أخرجه مسلم 2/ 672، رقم (977).
(5)
أخرجه مسلم 2/ 672، رقم (977).
أفادت الوجوب، وقد وردت بعد الحظر، مثل قوله تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (1).
ونحو ذلك كثير في القرآن والسنة.
ولو سلمنا بذلك فإنه في زيارة القبور وردت قرائن أخرى تدل على الاستحباب من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله - كما بينا ذلك سابقا -.
وأما دلالة الاقتران؛ فإنها دلالة ضعيفة، بل ردها جمهور أهل العلم من الأصوليين (2) فلا حجة فيها.
القول الثالث: أن زيارة القبور مستحبة، وهي فرض ولو مرة في العمر.
وقال بذلك ابن حزم من الظاهرية (3)
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
هذا القول مبني على قاعدة أصولية، وهي أن الأمر بعد الحظر
(1) سورة التوبة الآية 5
(2)
ينظر: إرشاد الفحول 1/ 285.
(3)
ينظر: المحلى 5/ 160.
يفيد الوجوب، قال ابن حزم: فإذا نسخ الحظر نظرنا فإن جاء نسخه بلفظ الأمر فهو فرض واجب، فعله بعد أن كان حراما (1)
ونوقش هذا الدليل بما يلي:
لا نسلم بأن الأمر بعد الحظر يفيد الوجوب، بل الأمر بعد الحظر يعود إلى ما كان عليه قبل ورود المنع.
ويدل على ذلك الكتاب والسنة (2)
يضاف إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الأمر بزيارة القبور على الإرادة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: ". . . «فمن أراد أن يزور قبرا فليزره (3)» . .
وهذا دليل على عدم الوجوب.
القول الرابع: أن زيارة القبور مكروهة.
وهذا القول مروي عن ابن سيرين وإبراهيم النخعي
(1) الإحكام في أصول الأحكام 3/ 333.
(2)
ينظر: روضة الناظر، مع شرحها نزهة الخاطر العاطر 2/ 66.
(3)
أخرجه مسلم 2/ 672، رقم (977).
والشعبي (1)
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1 -
ما روي عن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من زار القبر فليس منا (2)»
2 -
قال الشعبي: " لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابنتي "
ونوقش هذا الدليل بما يلي:
لا نسلم بهذا النهي لما ذكرنا من الأدلة السابقة التي تدل على الاستحباب.
وما استدلوا به من النهي، فإنه منسوخ، كما دلت على ذلك السنة الصحيحة الصريحة.
ولعل هؤلاء لم يبلغهم الناسخ لهذا النهي.
(1) ينظر: المصنف لابن أبي شيبة 3/ 225، والمصنف لعبد الرزاق 3/ 569.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في الجنائز، باب في زيارة القبور 3/ 569، برقم (6705)