الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه، والتبادر علامة الحقيقة، فدل ذلك بأن الوجه هو المقصود الأعظم من الجمال، وأنه هو موضع الجمال طلبا وخيرا.
الدليل الثاني: أن أي إنسان يعرف مواضع الفتن، ورغبات الرجال لا يمكنه أن يقول بجواز كشف الوجه، مع وجوب ستر القدمين، أو الساق، أو النحر، وينسب ذلك لأكمل الشرائع وأحكمها؛ لأنه لا يعقل أن نقول بأن الشريعة الإسلامية الكاملة، التي جاءت من لدن حكيم خبير توجب على المرأة ستر القدم، أو ستر النحر، وتبيح لها كشف الوجه، فإن ذلك يوجب التناقض؛ لأن تعلق الرجال بالوجوه أكثر من تعلقهم بالأقدام، أو النحور، فهل علمتم برجل يبحث عن زوجة، فيقول للخاطب أو الخاطبة: ابحث لي عن قدميها أهي جميلة، أو غير جميلة، ويترك الوجه؟ هذا محال.
بل إن المباح وهو مباح قد يكون محرما إذا كان وسيلة لمحرم، ولذا فقد حرم بيع العنب على من يقوم بعصره خمرا، فبيع العنب حلال، ولكن حرم؛ لأنه صار وسيلة لمحرم، فكيف بالقول بجواز كشف موطن فتنة الرجال، مع ما نراه من ضعف الدين في نفوس كثير من المسلمين والمسلمات.
ثانيا: أدلة القول الثاني:
وقد استدلوا على جواز كشف وجه المرأة بأدلة من الكتاب
والسنة والمعقول:
فمن الكتاب:
قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1).
وجه الاستدلال الأول من الآية: بأنه قد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر قوله: ({إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (2)) بالوجه والكفين (3) وهو ترجمان القرآن، فدل ذلك على جواز كشف الوجه.
ونوقش من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا التفسير قد خالفه تفسير ابن مسعود رضي الله عنه بأن المستثنى من النهي هو زينة الثياب، أي: لا يبدين زينتهن (الباطنة والظاهرة) إلا ما ظهر من الثياب التي يلبسنها، بغير إرادة منهن (4) وقول الصحابي إذا خالفه صحابي آخر تعين الترجيح بينهما بالدليل.
الوجه الثاني: أن التفسير بهذا المعنى فيه إجمال: فيحتمل أنه أراد بذلك الزينة الممنوع إظهارها فيكون بذلك موافقا لتفسير ابن
(1) سورة النور الآية 31
(2)
سورة النور الآية 31
(3)
انظر تفسير ابن كثير ج 3، ص 284، تفسير ابن أبي حاتم ج 8، ص 2567.
(4)
المرجع السابق
مسعود رضي الله عنه بأن المقصود هو ظاهر الثياب، وما لا يمكن إخفاؤه قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره للآية:". . . . عن ابن عباس {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ} (1)، قال: وجهها وكفيها والخاتم، وهذا يحتمل أن يكون تفسيرا للزينة التي نهين عن إبدائها ". . ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسيرا ما ظهر منها بالوجه والكفين " اهـ (2). والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال.
الوجه الثالث: بأنه قد ثبت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - في أكثر من موضع - أنه قد فسر قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (3) بقوله: " أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها "(4)، وقال أيضا في هذه الآية:" أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب يبدين عينا واحدة "(5) فقد فسر إدناء الجلباب
(1) سورة النور الآية 31
(2)
انظر تفسير ابن كثير ج 3، ص 284.
(3)
سورة الأحزاب الآية 59
(4)
تفسير القرطبي ج 14، ص 243.
(5)
تفسير ابن أبي حاتم ج 10، ص 3154، ح 17783، وانظر تفسير ابن كثير ج 3، ص 519.
بأنه يشمل تغطية الوجه فلا تبدي منه إلا عينا واحدة. وهذا يقوي الاحتمال الذي ذكره ابن كثير، وإلا كان هذا تناقضا.
الوجه الرابع: أن قول الصحابي: لا يكون حجة إذا خالف قوله صحابي آخر، فيكون الترجيح بين القولين بالدليل، فلو لم يصح عنه سوى القول الذي ذكرتم، فليس قوله حجة تعارض بها دلالة الكتاب والسنة التي دلت دلالة صريحة على وجوب تغطية الوجه، فكيف مع وجود الموافقة بما تقدم؟
الوجه الخامس: بأن الجمع بين التفسيرين ممكن: فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة، وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم. . فإذا كن مأمورات بالجلباب؛ لئلا يعرفن، وهو ستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب، فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين "(1).
الوجه السادس: أن تفسير ابن مسعود رضي الله عنه أوفق
(1) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية في الفقه، جمع بن قاسم ج 22 ص 110 - 111.
للصواب لما يلي:
أولا: أن الآية تدل على أن هناك زينتين: زينة لا يجوز إبداؤها، وهي قوله:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (1)، والزينة الثانية: هي الزينة التي استثناها من النهي بقوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (2)، يعني إلا الزينة التي تظهر من الزينة الأولى. فإذا جعلنا الوجه هو المستثنى، مع أنه هو أصل الزينة، فما هي الزينة المستثنى منها؟
فإن قيل: هي الزينة المكتسبة، كالكحل، والقرط، والخاتم، قيل: هذا لا يستقيم مع قوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (3)، فلو كان المقصود بالزينة ما ذكر لقال:(إلا ما أظهرن منها)، فالزينة المكتسبة هي التي تحتاج إلى إظهار بفعل المرأة، ولكنه قال:{إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (4)، فدل على أن الزينة المنهي عنها بقوله:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (5) شاملة للزينة الأصلية، والزينة المكتسبة، ويدخل في الزينة المكتسبة الثياب والحلي ونحو ذلك، فيكون المستثنى هو ما ظهر من هذه الزينة من غير قصد منها.
ثانيا: ولأنه قد تقرر في العقول والفطر بأن الوجه أصل الزينة، كما ذكر القرطبي رحمه الله تعالى (6) وهو بلا نزاع القاعدة الأساسية
(1) سورة النور الآية 31
(2)
سورة النور الآية 31
(3)
سورة النور الآية 31
(4)
سورة النور الآية 31
(5)
سورة النور الآية 31
(6)
انظر تفسير القرطبي ج 12، ص 229.
للفتنة بالمرأة، بل هو المورد والمصدر لشهوة الرجال؛ فتحريم إبدائه آكد من تحريم كل زينة تحدثها المرأة في بدنها.
الوجه السابع: أنه سبحانه وتعالى قال في الموضع الآخر من الآية: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (1) فهذه الزينة المنهي عنها تشمل بعمومها كل زينة، والوجه هو أعظم زينة للمرأة، فيكون دخوله في هذا النهي أولى من أي زينة أخرى، سواء كان زينة خلقية أو مكتسبة، وإنما استثنى الزينة التي تبدو بغير قصد منها في الآية السابقة، وهي قوله تعالى:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (2) ففي الآية الأولى بين الزينة التي يعفى عنها، ثم بين لها في الآية الثانية من تبدى لهم الزينة، وعلى القول بأن المستثنى من الزينة في قوله:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (3) هو الوجه والكفان يلزم منه أمران:
الأول: أن يكون ذكر الزينة الثانية في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (4) تكرارا لا معنى له؛ لأننا إذا قلنا بأن الوجه والكفين يباح كشفهما، وتحرم الزينة المكتسبة في الوجه والكف، كالكحل، والقرط، والخاتم فما هي - إذا - الزينة المقصودة بالنهي عن إبدائها في الآية الثانية؟
فإن قيل: بأن المقصود بالزينة المذكورة هو الشعر، والحلي، والكحل، والقرط؛ لأن الآية الأولى استثنت الوجه والكفين.
(1) سورة النور الآية 31
(2)
سورة النور الآية 31
(3)
سورة النور الآية 31
(4)
سورة النور الآية 31
قلنا: بأن قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (1) عموم لا مخصص له من الكتاب والسنة، فيشمل كل ما يصح أن يطلق عليه زينة، سواء كان زينة أصلية أو زينة مكتسبة، وعموم القرآن الكريم، والسنة المطهرة لا يجوز تخصيصه إلا بالقرآن الكريم، أو بما ثبت من السنة المطهرة، أو بإجماع سلف الأمة، وليس ثمة شيء من ذلك فيبقى على العموم.
الثاني: أن ذلك يقتضي بأن يجعل ما هو أقل فتنة وهو الزينة المكتسبة منهيا عنه، وأصل الزينة الباطنة وهي الوجه تكون مما يباح إظهارها. وهذا تناقض، من جهة أن الوجه هو أصل الزينة بلا نزاع في النقل ولا في العقل، والله جلت قدرته حرم على المرأة إبداء شيء من زينتها إلا لمن استثنى بقوله:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (2) الآية، فكيف يسوغ تحريم الفرع، وهو الزينة المكتسبة، وإباحة أصل الزينة في المرأة، وهو الوجه الذي هو الزينة الأساسية؟ هذا تناقض، وحاشا كلام الله أن يقع فيه ذلك.
وجه الاستدلال الثاني من الآية: قالوا بأنه قد حصل الإجماع على وجوب ستر العورة على كل مصل في صلاته، وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها، فإذ كان ذلك من جميعهم إجماعا، كان معلوما بذلك أن
(1) سورة النور الآية 31
(2)
سورة النور الآية 31
لها أن تبدي من بدنها ما لم يكن عورة، كما ذلك للرجال؛ لأن ما لم يكن عورة فغير حرام إظهاره، وإذا كان لها إظهار ذلك كان معلوما أنه مما استثناه الله تعالى ذكره بقوله:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1)؛ لأن كل ذلك ظاهر منها، ونوقش من وجوه:
الوجه الأول: بأنه قياس مع الفارق، فليس نزاعنا في كون الوجه عورة في الصلاة، وإنما النزاع هو في كون الوجه عورة من جهة النظر أم لا، وقد دلت أدلة الكتاب والسنة، على أن جميع بدن المرأة عورة خارج الصلاة من غير استثناء، فلا يجوز القياس على حالها في الصلاة.
الوجه الثاني: بأننا قدمنا الأجوبة الدالة على أن ما ظهر منها هو ظاهر الثياب، وهو التفسير الذي تعضده الأدلة من الكتاب والسنة.
واستدلوا بأدلة من السنة منها:
الدليل الأول: حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها: «دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها، وقال: يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا، وأشار إلى وجهه وكفه (2)»
(1) سورة النور الآية 31
(2)
سنن أبي داود ج 4، ص 62، ح 4104، وقال:" هذا مرسل؛ خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها "، قال الزيلعي في نصب الراية ج 1، ص 299:" قال أبو داود: هذا مرسل؛ خالد بن دريك لم يدرك عائشة، قال ابن القطان: ومع هذا فخالد مجهول الحال. قال المنذري: وفيه أيضا سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن البصري، نزيل دمشق مولى بني نضر، تكلم فيه غير واحد. وقال ابن عدي في الكامل: هذا حديث لا أعلم رواه عن قتادة غير سعيد بن بشير. وقال فيه مرة: عن خالد بن دريك، عن أم سلمة بدل عائشة، انتهى كلامه ". وقال ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية ج 1، ص 123:" أخرجه أبو داود، وقال: إنه منقطع بين خالد بن دريك، وعائشة، وأخرجه ابن عدي، وقال: رواه خالد مرة أخرى، فقال عن أم سلمة، وعن قتادة مرفوعا: إن المرأة إذا حاضت لم يصلح أن يرى منها إلا وجهها ويداها إلى المفصل، وهذا معضل ".
والجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا الحديث ضعيف جدا، فيه علل كثيرة:
1 -
أنه مرسل، قال أبو داود: هو مرسل؛ خالد بن دريك لم يسمع من عائشة رضي الله عنها، ففيه شخص مجهول بين الراوي وعائشة رضي الله عنها، من الأمور المسلمة في علم الحديث أن الحديث إذا كان فيه مجهول فلا يقبل.
2 -
أن خالد بن دريك نفسه مجهول الحال، كما ذكر ابن القطان.
3 -
وقال المنذري: وفيه أيضا سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن البصري نزيل دمشق، مولى بني نضر، تكلم فيه غير واحد (1)
4 -
أن في سنده مدلسين: الأول منهما قتادة، وقد رواه عن
(1) انظر تخريج الحديث ص 379.
خالد بن دريك بعن، والمدلس الثاني: الوليد بن مسلم.
ولو لم يكن فيه إلا علة واحدة من هذه العلل لكفت في رده، فكيف بها إذا اجتمعت (1)؟
الوجه الثاني: لو سلمنا بصحة الحديث فيحمل على ما كان في أول الإسلام، قبل فرض الحجاب، فيكون هذا منسوخا بالأمر بالحجاب كما تقدم.
(1) انظر مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 5/ 46.
الدليل الثاني: ما جاء في الصحيحين: «كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر (1)»
وجه الاستدلال: قالوا: إن قوله في الحديث: ينظر إليها، وتنظر إليه دليل على جواز كشف الوجه.
والجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن الحديث ليس فيه دليل على أنها كانت كاشفة وجهها، وإنما هو احتمال ضعيف؛ لأن المرأة عموما مدعاة للنظر
(1) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، صحيح البخاري ج 2، ص 551، ح 1442، باب وجوب الحج وفضله، صحيح مسلم ج 2، ص 973، ح 1334، باب الحج عن العاجز لزمانه وهرم ونحوهما أو للموت.
إليها فهي محل فتنة، ويحتمل أن الريح كشفت شيئا من حجابها، فرأى الفضل شيئا من وجهها دون غيره؛ لأن من روى الحديث غيره لم يذكروا حسنها.
الوجه الثاني: أن الإحرام ليس مانعا من تغطية وجهها بغير النقاب، كما تقدم نقل الإجماع على ذلك، وقد تقدم نقل الأئمة الإجماع على أن المحرمة إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها، فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها، وقال ابن قدامة:" ولا نعلم فيه خلافا. . . وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوهما مما يعد لستر الوجه "(1)، وغير المحرمة أدعى أن يرى شيء من بشرتها؛ لأنها تلبس البرقع كما هي عادة نساء البادية، والبرقع قد يرى منه شيء من المحاسن.
الوجه الثالث: أن ليس فيه أمر ولا نهي، وإنما هو مجرد فعل، فليس فيه حجة في مقابل النصوص الصريحة والصحيحة في وجوب تغطية الوجه.
الوجه الرابع: أن القاعدة في الأدلة أن يرد المتشابه منها إلى المحكم، وقد جاءت الأدلة الثابتة، والمحكمة، التي لا لبس فيها في
(1) انظر المغني ج 3، ص 154.
وجوب غطاء الوجه، فلا يجوز الأخذ بالمتشابه في مقابل المحكم.
الدليل الثالث: ما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكرهن، فقال: تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم، فقامت امرأة من سطة فقالت: لم يا رسول الله، قال: لأنكن تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير، قال: فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتمهن (2)»
وجه الاستدلال: قالوا: إن قوله في الحديث: سفعاء الخدين أن هذه المرأة كانت كاشفة وجهها، فهذا نص صحيح وصريح يدل على جواز كشف الوجه للمرأة.
والجواب عنه: أن هذا محمول على ما قبل إنزال الأمر
(1) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، صحيح مسلم ج 2، ص 603، ح 885، كتاب صلاة العيدين.
(2)
(1) النساء سفعاء الخدين
بالحجاب، فلا يجوز أن نأخذ بأمر منسوخ كما في الخمر، فإنه كان مباحا في أول الإسلام، ثم حرم، ومثله نكاح المتعة كان مباحا ثم حرم، وهكذا غطاء الوجه كان جائزا في أول الإسلام ثم حرم، والعبرة إنما تكون بالحكم الناسخ، أما الحكم المنسوخ فلا يجوز الأخذ به بعد النسخ.
ودليل النسخ ما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك وفيه: ". . . «وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي (1)»
ويستدل به من وجهين:
الوجه الأول: أنه حديث صحيح وصريح في وجوب تغطية الوجه، وإذا وجب على أمهات المؤمنين مع علو أخلاقهن، وبعدهن عن كل ما يشين المرأة، فغيرهن من باب أولى.
الوجه الثاني: قولها «وكان رآني قبل الحجاب (2)» فيه دليل على أن الحجاب لم يكن واجبا في أول الإسلام، ثم وجب بعد ذلك، فوجب حمل الأحاديث التي جاء فيها كشف وجه المرأة أنها كانت قبل فرض الحجاب، فهذا حديث صحيح، وصريح في محل النزاع وسالم من المعارض، فهو حديث محكم لا مناص من الأخذ به.
(1) من حديث عائشة رضي الله عنها، صحيح البخاري ج 4، ص 1517، ح 3910، باب حديث الإفك، صحيح مسلم ج 4، ص 2129، ح 2770، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف.
(2)
صحيح البخاري تفسير القرآن (4750، 4750)، صحيح مسلم التوبة (2770، 2770)، مسند أحمد (6/ 198، 6/ 198).
واستدلوا بالمعقول: قالوا: بأن المسألة محل خلاف بين أهل العلم، ولا إنكار في مسائل الخلاف، فلا يجوز لأحد من الناس أن يحجر على الناس برأي واحد، فلكل أحد أن يأخذ بما يراه من أقوال أهل العلم. وجواب ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن الاجتهاد والتقليد محرم بالإجماع فيما يلي:
1 -
إذا كان في أصول العقيدة، فلو قلد عالما من العلماء في الشرك فلا يقبل الاجتهاد ولا التقليد، ولا يعذر أي منهما في ذلك.
2 -
إذا كان في مقابل الإجماع، أو كان الاجتهاد والتقليد في مقابل النص الثابت من الكتاب والسنة.
3 -
ويحرم الاجتهاد والتقليد بعد ظهور الدليل.
كما يحرم على المقلد أن يقلد من ليس أهلا من العلماء، ويحرم عليه أن يتتبع الرخص التي تنشأ من خلاف العلماء؛ لأن بعض العلماء مهما علا شأنهم يقعون في زلات كبيرة في بعض ما يفتون به، فلا يجوز لأحد أن يقلدهم في ذلك، وقد حذر الأئمة الأربعة من ذلك، وأطبقوا على القول: بأنه إذا صح الحديث فهو مذهبي (1)
الوجه الثاني: أن الخلاف إما أن يكون ممن لا يعتد به من العلماء، فهذا لا عبرة لخلافه، وإما أن يكون ممن يعتد به من العلماء
(1) انظر تفصيل ذلك في أعلام الموقعين 2/ 259 فما بعدها.
ولكنه ليس بحجة في مقابل الدليل الثابت، وإذا كان قول الصحابي يرد إذا خالف الدليل الثابت، فكيف بمن دونهم؟
الوجه الثالث: قال في الموافقات: ". . . ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف، فإن له نظرا آخر، بل في غير ذلك.
فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع فيقال: لم تمنع والمسألة مختلف فيها؟ فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد متعمدا، وما ليس بحجة حجة. حكى الخطابي " عن بعض الناس أنه قال:" إن الناس لما اختلفوا في الأشربة، وأجمعوا على تحريم خمر العنب، واختلفوا فيما سواه حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه، وأبحنا ما سواه "، قال: وهذا خطأ فاحش، وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، قال: ولو لزم ما
ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف ونكاح المتعة؛ لأن الأمة قد اختلفت فيها، قال: وليس الاختلاف حجة، وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين، هذا مختصر ما قال.
والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، ويجعل القول الموافق حجه له، ويدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه.
ومن هذا أيضا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال، وعدم التحجير على رأي واحد. . . وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور، أو الموافق للدليل، أو الراجح عند أهل النظر، والذي عليه أكثر المسلمين، ويقول له: لقد حجرت واسعا، وملت بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج، وما أشبه ذلك، وهذا القول خطأ كله، وجهل بما وضعت له الشريعة، والتوفيق بيد الله " (1).
الترجيح:
بعد ذكر الأقوال والأدلة، وبيان ما يرد عليها فإن القول بوجوب ستر وجه المرأة مطلقا قول يعضده الدليل من الكتاب والسنة والإجماع،
(1) انظر الموافقات ج 4 ص 141 - 142.