الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب وفيات الأعيان
حضرة الأستاذ الفاضل الأب انستاس ماري الكرملي المحترم:
أرجوكم نشر هذه الأسطر على صفحات مجلتكم الزاهرة أن رأيتم لذلك مناسبة وعلمتم أن فيه خدمة للأدب العربي ولكم الفضل سيدي:
بينا كنت أطالع في تاريخ وفيات الأعيان للقاضي شمس الدين ابن خلكان لاستخراج فهرس لما فيه من الشعر الرائق خدمة لذلك المصنف الجليل إذ عثرت على بضع غلطات ظننتها لأول وهلة أنها سهو مطبعي في النسخة التي تحت يدي وهي المطبوعة في مطبعة بولاق مصر سنة 1275هـ التي وقف على تصحيح الجزء الأول منها خلا نحو ست ملازم (ناظر دار الطباعة المصرية رب الفصاحة والبلاغة والألمعية حضرة علي أفندي جودة وأما الجزء الثاني فكان تصحيحه بمعرفة الفاضل نصر الهوريني) كما ذكر في آخر الكتاب. فراجعت الجزء الأول المطبوع في باريس سنة 1838م والنسخة المطبوعة في المطبعة الميمنية في مصر سنة 1310هـ والنسخة المطبوعة في بولاق مصر سنة 1299هـ ونسخة أخرى قسم الكتاب طابعة إلى ثلاث مجلدات ولم اقف على اسم المطبعة لفقدان آخر ورقة منه فكانت الأغلاط في جميع النسخ كما هي في نسختي فأحببت بيان ذلك خدمة لذلك التاريخ الجليل.
الأولى
في ترجمة أبي الحسن السري بن أحمد بن السري الكندي الرفاء الموصلي الشاعر المشهور. قال وله أيضا:
وفتية زهر الآداب بينهم
…
أبهى وانضر من زهر الرياحين
راحوا إلى الراح مشى الراح وانصرفوا
…
والراح يمشي بهم مشي البراذين
وقد علقت في الذهن هذه الأبيات كما يأتي:
وفتية زهر الآداب بينهم
…
أبهى وانضر من زهر الرياحين
مشوا إلى الراح مشي الرخ وانصرفوا
…
والراح تمشي بهم مشي الفرازين
وفيه تشبيه بديع في حركات الرخ والفرزان في رقعة الشطرنج لأن الرخ لا يتحرك إلَاّ
معتدلا فلا يميل يمنة ولا يسرة بل هو أن تقدم تقدم معتدلا وأن تيامن أو تياسر أو تقهقر لا يمشي إلَاّ معتدلا وأما الفيل فلا يمشي في كل حركاته إلَاّ منحرفا من زاوية إلى زاوية فهو يقطع من ركن إلى ركن. وأما الفرزان فهو يمشي مشيتي الرخ والفيل فتارة معتدلا وأخرى منحرفا وهو الطف تشبيه لمشي السكران؛ فكأنه يقول إنهم راحوا بعقولهم يمشون مشي الرخ: وبعد شربهم الراح عادوا والراح تمشي بهم (لأنهم بلا شعور) مشي الفرازين.
الثانية
في ترجمة أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين قال: وكان عبيد الله قد مرض فعاده الوزير فلما انصرف عنه كتب إليه (ما أعرف أحدا جزى العلة خيرا غيري، فإني جزيتها الخير وشكرت نعمتها علي إذ كانت إلى رؤيتك مؤدية فأنا كالأعرابي الذي جزى يوم البين خيرا فقال:
جزى الله يوم البين خيرا فأنه
…
أرانا على علاته أم ثابت
أرانا ربيبات الحجال ولم نكن
…
نراهن إلَاّ بانبعاث البواعث
وقد كتب مصحح طبعة بولاق الأولى والطبعة ذات المجلدات الثلاثة ما عبارته (قوله البواعث فيه مع ثابت في البيت قبله من عيوب القافية الإجازة) وكتب مصحح طبعة بولاق الثانية ما عبارته (قوله البواعث فيه مع ثابت في البيت قبله من عيوب القافية الأكفاء) والحل لا أرى معنى للبواعث وليس في الشعر نفسه من عيب في قافيته إنما جرى قلم الناسخ الأول بتحريف طفيف فتبع بعضهم بعضا والأصل الصحيح فيما أراه (في انبعاث البواعث) جمع باغتة ولا يمكن أن تخرج العربية سافرة إلَاّ في أمر جلل يقع بغتة.
الثالثة
في ترجمة أبي الحسن علي بن العباس بن جريج المعروف بابن الرومي قال: وكان سبب موته رحمه الله تعالى أن الوزير أبا الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير الإمام المعتضد كان يخاف من هجوه وفلتات لسانه بالفحش فدس عليه ابن فراش فأطعمه خشكانجة مسمومة وهو في مجلسه فلما
أكلها أحس بالسم فقام فقال له الوزير إلى أين تذهب فقال إلى الموضع الذي بعثتني إليه فقال له سلم لي على والدي فقال له ما طريقي على
النار وخرج من مجلسه واتى منزله وأقام أياما ومات وكان الطبيب يتردد إليه ويعالجه بالأدوية النافعة للسم فزعم أنه غلط في بعض العقاقير وقال إبراهيم بن محمد ابن عرفة الازدي المعروف بنفطويه رأيت ابن الرومي يجود بنفسه فقلت له ما حالك فأنشد:
غلط الطبيب عليَّ غلطة مورد
…
عجزت موارده عن الإصدار
والناس يلحون الطبيب وإنما
…
غلط الطبيب إصابة المقدر
والذي علق في الذهن أن الشطر الأخير هو:
غلط الطبيب إصابة الأقدار
فالإصابة للقدر لا للمقدر إذ لا معنى لذلك وأن تمحل له بعضهم أن مراده المقدار الوارد بمعنى القدر كما يذكره اللغويون فإني أرى أن الأقدار أوقع للقافية ولا أظن ذلك إلَاّ من سهو الناسخ الأول.
الرابعة
في ترجمة أبي خالد يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة قال: وقد ذكره الحافظ المعروف بابن عساكر في تاريخ دمشق فقال بعد ذكر أحواله وولاياته أن يزيد بن حاتم قال لجلسائه انسقوا لي ثلاثة أبيات فقال صفوان بن هفوان من بني الحرث بن الخزرج أفيك؟ فقال فيمن شئتم؛ فكأنها كانت في فمه. فقال:
لم ادر ما الجود إلَاّ ما سمعت به
…
حتى لقيت يزيدا عصمة الناس
لقيت أجود من يمشي على قدم
…
مفضلا برداء الجود والباس
لو نيل بالمجد جود كنت صاحبه
…
وكنت أولى به
قال صفوان ثم كففت فقال أتمم فقلت من آل عباس. وقلت لا يصلح، فقال لا يسمعن هذا منك أحد.
والذي أراه إن الشاعر قد قال (لو نيل بالجود مجد) فحرفه النساخ لأنه إنما وصفه بالجود الذي كان لا يعرف منه إلَاّ ما سمع به حتى رأى جود يزيد عصمة
الناس، فلا معنى لقوله لو نيل بالمجد جودا، وخاصة لأن بني العباس كانوا الملوك فلهم طريف المجد، ولم يشتهر عنهم الجود ولذا قال: لو نيل المجد بالجود لكنت بجودك أولى بالمجد من بني العباس.
الخامسة
في ترجمة أبي المكشوح يزيد بن سلمة بن سمرة المعروف بابن الطثرية روى له أبياتا يقول في آخرها:
وكنت كذي داء تبغى لدائه
…
طبيبا فلما لم يجده تطيبا
وهنا قوله تطيبا ظاهر فيه السهو وهو تطببا ببائين موحدتين وفي جميع النسخ ما خلا طبعة بولاق الأخيرة وطبعة باريس التي لم اقف على المجلد الثاني منها (تطيبا) وهو تحريف بين.
السادسة
في ترجمة أبي يعقوب يوسف بن عمر بن محمد الثقفي قال: وقال المدائني أيضا كان على شرطة يوسف بن عمر بن العباس بن سعيد المزي وكان كاتبه فخدم سليمان بن ذكران وزياد بن عبد الرحمن مولى ثقيف وعلى حرسه وحجابته جندب وفيه يقول الشاعر:
أتانا أمير شديد النكال
…
لحاجبه حاجب حاجب
والذي أراه أنه أراد وصفه بأنه لا يمكن الوصول إليه لكثرة الحجاب وأنه لعظمته ونكاله جعل حاجبه له حاجبا فلا يمكن الوصول إليه أيضا فقال:
أتانا أمير شديد النكال
…
لحاجب حاجبه حاجب
فلا يمكن الدخول على حاجب حاجبه إلَاّ باستئذان الحاجب واسترضائه حتى يدخل عليه ثم يتلطف به حتى يدخل على حاجبه ثم كذلك حتى يمكنه الوصول إلى حضرته وقد تكلف أحد الأدباء تأويلا للبيت فقال إنما أراد الشاعر بقوله (لحاجبه حاجب حاجب) أن الحاجب كان مقطب الحاجبين بحيث لا يستطيع المستأذن أن يخاطبه فكأن الحاجبين المقطبين حاجب آخر.
هذا ما عن لي ذكره وفوق كل ذي علم عليم، ولا يخلو الإنسان من سهو إذ العصمة لله وحده.
عبد اللطيف ثنيان