المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآنسة جرترود لثيان بل - مجلة لغة العرب العراقية - جـ ٤

[أنستاس الكرملي]

فهرس الكتاب

- ‌العدد 35

- ‌سنتنا الرابعة

- ‌قرطاجنة

- ‌نظرة في إصلاح الفاسد من لغة الجرائد

- ‌أخوان الأدب

- ‌دجلة

- ‌المعاهدة العراقية الإنكليزية التركية

- ‌حروف الكسع في الألفاظ العربية والمعربات

- ‌أوضاع عصرية

- ‌جميل صدقي الزهاوي والآنسة مي

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 36

- ‌أأوضاع خالدة

- ‌المعاهدة العراقية الإنكليزية التركية

- ‌إخوان الأدب

- ‌معنى اسم بغداد

- ‌اللغة العامية

- ‌دفع المراق في كلام أهل العراق

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌باب الانتقاد

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 37

- ‌بعد القطيعة

- ‌عقوبات جاهلية العرب

- ‌الآنسة جرترود لثيان بل

- ‌اللكنة العامية

- ‌تاريخ الطباعة العراقية

- ‌فوائد لغوية

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌باب التقريظ

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 38

- ‌القارعة

- ‌حقائق عن تاريخ العراق

- ‌تاريخ الطباعة العراقية

- ‌مشاهير العراق

- ‌نموذج من تراجم الظرفاء

- ‌دفع المراق في كلام أهل العراق

- ‌استفتاء

- ‌جواب الاستفتاء

- ‌فوائد لغوية

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 39

- ‌الدرع الداودية

- ‌المحامل العربية

- ‌علم العقود

- ‌الألفاظ الارمية

- ‌الزهر القتيل

- ‌تاريخ الطباعة العراقية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 40

- ‌أوروكاجينا

- ‌المحفى العراقي الجديد

- ‌الألفاظ الارمية

- ‌نموذج من تراجم العلماء

- ‌دفع أوهام

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌الملا عثمان الموصلي

- ‌معنى كلمة عراق

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 41

- ‌البطائح الحالية

- ‌المحفى العراقي الجديد

- ‌نموذج من تراجم العلماء

- ‌الوصل في لغة عوام العراق

- ‌الألفاظ الارمية

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌بقلم قسطاكي الياس عطار الحلبي، الجزء الأول طبع

- ‌في القاهرة سنة 1936 في 86 ص بقطع الثمن

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 42

- ‌الشاعر

- ‌أصل كلمة العراق ومعناها

- ‌بحث في الهاء

- ‌نظرة وابتسامة

- ‌السوارية

- ‌الضمائر في لغة عوام العراق

- ‌الألفاظ الارمية

- ‌تاريخ الطباعة في العراق

- ‌البطائح الحالية

- ‌فوائد لغوية

- ‌أنوفلس لا أبوفلس

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌المصري

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌باب التقريظ

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 43

- ‌فلب أو فلبس العربي

- ‌كتاب وفيات الأعيان

- ‌صفحة من تاريخ البصرة والمنتفق

- ‌معرفة يوم الشهر القمري من يوم الشهر الشمسي

- ‌نموذج آخر من تراجم الشعراء

- ‌الطربال ومعانيه وأصله

- ‌الدكتور ارنست هرتسفلد

- ‌الضمائر في لغة عوام العراق

- ‌الجزائر

- ‌الألفاظ الارمية

- ‌تاريخ الطباعة في العراق

- ‌فوائد لغوية

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌باب التقريظ

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 44

- ‌مكشوفات أور

- ‌نزوات اللسان

- ‌جليبة أو بئر ربقة

- ‌الجزائر

- ‌نموذج آخر من تراجم الشعراء

- ‌ترجمة البيتوشي

- ‌الألفاظ الارمية

- ‌الكبائش أو الجبايش

- ‌تاريخ الطباعة في العراق

- ‌الفعل في لغة عوام العراق

- ‌فوائد لغوية

- ‌الكمرك والديوان والمكس

- ‌باب المكاتبة والمذاكرة

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

الفصل: ‌الآنسة جرترود لثيان بل

‌الآنسة جرترود لثيان بل

بلينا وما تبلى النجوم الطوالع

وتبقى الجبال بعدنا والمصانع

(لبيد بن ربيعة)

يجدر بي أن اصدر ترجمة فقيدة العلم والسياسة بهذا البيت للبيد بن أبي ربيعة لأن صديقتنا الراحلة كانت مولعة به وقد حلت به جيد كتابها الإنكليزي المعنون (من مراد إلى مراد). اجل لقد ماتت الآنسة بل ويليت. ولكن أعمالها نجوم طوالع في سماء

ص: 128

العلم وآثار همتها جبال راسية تكافح عوادي الدهر ومصانعها في السياسة تحدث بها الأجيال المقبلة وهذا كله خالد لا يبلى يرويه الخلف عن السلف.

عرفتها عالمة ورحالة وسياسية. عرفت نفسيتها في مظاهر روح الإنسان المختلفة. أخذت ترجمتها عنها ونشرتها في مجلة المقتطف (نوفمبر 1922) فصداقتنا الوثيقة العرى ووقوفي على ما انطوت عليه تلك النابغة من الهبات. يؤهلاني لكتابة ترجمتها وتحليل نفسيتها.

ولدت الآنسة جرترود لثيان بل في 14 تموز سنة 1868 من أسرة عريقة في الحسب، كثيرة النشب، موطنها شمالي بلاد الإنكليز في تخوم اسكتلندة وقد كان جدها الأعلى أول من سعى في تأسيس المعامل الكبرى لتعدين الفحم والحديد. إذ ارتقت الصناعة ارتقاءها العظيم في الثلث الأول من القرن الماضي، ولا يزال والدها السر هيو بل حيا يرزق، وقد زار العراق سنة 1920 وهو شيخ قد اشتعل رأسه شيبا.

إن البيئة التي ولدت فيها جرترود بل بيئة سعادة ورفاهية؛ بيئة غنى وشرف باذخ. كانت تغنيها عن مكابدة الأتعاب والمشاق، وتجشم المخاطر والأهوال، ولكن نفسها العظيمة التواقة إلى

ص: 129

السمو والمعالي رفعتها عن مواطن الراحة التي تخلد إليها الغواني والسيدات الموسرات وأنزلتها حلبة الجهاد العلمي والاجتماعي والسياسي ساخرة بالطارف والتليد، مغرمة بالرفعة العقلية، متلذذة بطيب أثمار المساعي الذاتية.

توفرت الأسباب للراحلة الكريمة لترفعها إلى مصاف العظماء والعظيمات. ولكن قامت بوجهها عراقيل وعقبات كافية لتثبيط همم الرجال فضلا عن همم الآنسات: أما هي فقد

عرفت كيف تستفيد من الأولى، وكيف تذلل الثانية. فخرجت من المعترك حاملة لواء النصر على قمم الدهور وخلدت لها اسما عظيما في التاريخ.

جاهدت الجهاد الحسن في كل أدوار حياتها منذ كانت تلميذة في مدرسة (كوينس كوليج) ثم طالبة علم في كلية (ليدي مرغريت) في اوكسفورد حيث بزت رفقاءها ورفيقاتها ونالت الشهادة العليا وبقيت كذلك حتى دعاها داعي الحمام على ما يأتي.

مدارك سامية، علو همة، إرادة فولاذية، هي أركان ثلاثة قامت عليها شهرتها. نعم إن مداركها لسامية بكل معنى الكلمة؛ تشهد بذلك مؤلفاتها الكثيرة. وكتاباتها وخطاباتها وأحاديثها الطيبة المملوءة حكمة وفائدة؛ كلها دلائل واضحة على فكرة وقادة

ص: 130

ودماغ جوال، وحافظة حافلة بما حسن وطاب، وذاكرة سريعة، ومحاكمة صحيحة. سريعة الكتابة تسير بقلمها سير الفارس بجواده وقلما تعصيها كلمة، أو تتمرد عليها عبارة، أو تخونها ذاكرتها في أيراد اسم شخص أو محل. كأن دماغها ينبوع فياض يتدفق منه الماء عفوا.

إن هذه المزايا والهبات أهلتها لتعلم لغات عديدة وعلوم شتى فإنها كانت تعرف ما عدا لغتها الإنكليزية، الفرنسية والألمانية والعربية والفارسية. وقد امتازت بالتاريخ، وعلم الآثار، والأنساب.

أما همتها: (فحدث عن البحر ولا حرج) بنت دلال وترف. غادة دواوين لندن، خريجة اوكسفورد، نحيفة البنية؛ تمتطي الأهوال، تقطع الفيافي والبراري مع نفر قليل على ظهور الخيل والإبل، تجول البحار، وترتقي الجبال، وتركب متن الهواء غير هيابة ولا وجلة؛ تخوض غمارات الحرب، وتقطع أشواطا كبيرة في السياسة. أليس هذه الأعمال من مشاهد الهمة البعيدة؟ همة لا تعرف الكلل ولا يعتورها الملل. تصل الليل بالنهار في الكتابة والعمل والمقابلة، وتنتقل من موضوع إلى آخر وهي على نشاط من عزمها لا تتبرم ولا تمل. وهي على كثرة أعمالها كانت

ص: 131

شديدة الشغف بالمحافظة على الوقت؛ وعلى نظام المواعيد لا تتقدم دقيقة ولا تتأخر.

إرادتها - ما اعظم الإرادة التي كانت تتغلغل بين ثنايا ذلك الجسم النحيف والقد الأهيف؛ أن أرادت أمرا اندفعت إليه وأن اعتقدت بصلاحه أنجزته؛ فلا تنكل عن خطة ولا تثبطها عقلة. لاقت الأمرين من بعض المعارضين لفكرتها من رجالات البريطانيين في السياسة

التي وجب على بريطانية العظمى اتباعها في العراق؛ إلَاّ أنها قاومتهم مقاومة الأبطال بمعاونة الرجال الذين كانوا على فكرتها فكان النجاح في جانب حزبها فقام في العراق دولة عربية عزيزة الجانب يرأسها ملك عربي من البيت الهاشمي الرفيع المجد. وقصارى القول أن أعمالها اليومية كانت على هذا الغرار من قوة الإرادة ومضاء العزيمة. ولا غرو أن التي تتخذ رائدها الإرادة وشعارها الهمة القعساء. تكون صريحة في أقوالها صراحة يستصعبها بعضهم ويشجبها الآخرون، ولا سيما أولئك الذين لم يتعودوا الجرأة الأدبية ولم يأنسوا مظاهر التربية الاستقلالية التي تكاد تكون ميزة أبناء التيمز وبناته.

مع تلك المنزلة العالية. والإرادة الفولاذية، والصراحة الاستقلالية؛ لم تكن متصلبة في آرائها، مكابرة في أفكارها مغالية

ص: 132

في مناحيها، بل كانت ترجع عن رأي يفند ببرهان وتعدل عن فكر يظهر لها خطأه وتميل عن مناح تجد اصلح منها. كل هذا مما يشف عن عظمة في نفسها ونبوغ في دماغها.

أما عاطفتها - فقلبها أشبه شيء بالكنارة ذات الأوتار يحفظ نظامها عقلها السليم؛ فتسكت أنغام تلك الأوتار أن عالجت صعاب الأمور أو تعاطت أعمالا مع الساسة وأعاظم الرجال؛ وتسمعك أنغاما شجية وإيقاعا محزنا أن كان موضوعها مؤاساة لبشرية المتألمة، أو الأخذ بساعد بعض البؤساء ومسح دموع المنكوبين والمبتلين. وخلاصة القول تذرعت بإرادة الرجال، ولم تفقد عاطفة الإناث.

الرحالة والمؤلفة

نشأت المس بل شديدة الشغف بالرحلات والتأليف: نضرب هنا صفحا عن أسفارها العديدة في الأقطار الأوربية ونخص بحثنا برحلاتها في الشرق ذلك الشرق الذي أحبته حبا جما حتى قضت نحبها فيه وضم جثمانها.

رحلت إلى الشرق لأول مرة سنة 1899 مع زوج خالها المستر سفرنك لسلس سفير بريطانية العظمى في طهران آنئذ؛ وولعت هناك بدراسة اللغة الفارسية حتى اقتبست جانبا منها وترجمت قسما

ص: 133

من قصائد حافظ الشاعر الفارسي الشهير إلى الإنكليزية. وفي السنة التالية 1900 زارت سورية وطافت في جبل الدروز وأطراف البادية؛ وكان غرضها من هذا السفر تعلم لغة الضاد فظفرت بغيتها؛ إلا أن حبها للعرب ولسانهم دفعها مرة ثانية سنة

1903 إلى زيارة سورية وثابرت هناك على الدرس والمطالعة فاتسع لها المجال للوقوف على أسرار العربية وضبط شواردها؛ ومنذ ذلك الحين أخذت ترحل كل سنتين رحلة إلى بلاد الشرق، وكانت تدوم كل رحلة ستة أشهر. فسافرت سنة 1905 إلى الأناضول وفي سنة 1907 نقبت في أطلال قرب قونية.

وأول مرة نزلت العراق كانت سنة 1909، وفي سنة 1911 سافرت مع أخيها إلى الهند واليابان ثم جاءت وحدها إلى العراق وفي سنة 1913 سافرت من الشام إلى حائل ونزلت ضيفا على أبن الرشيد؛ وفي ربيع سنة 1914 أي قبل الحرب العامة جاءت إلى بغداد ومنها ذهبت إلى الأستانة. فواجهت فيها غير واحد من وزراء المملكة العثمانية كجمال باشا وغيره.

ولما نشبت الحرب العامة انتظمت في جمعية الصليب الأحمر وقضت سنة في لندن؛ ثم سافرت إلى فرنسة. وفي شتاء 1915 هبطت مصر وانضوت إلى إدارة السياسة. وبقيت هناك حتى

ص: 134

أواخر شباط 1916 فانتقلت إلى البصرة؛ وفي سنة 1917 انتقلت إلى بغداد بصحبة السربرسي كوكس.

إن حبها للعلوم ورحلاتها العديدة وتقلبها في المناصب السياسية بعثت فيها رغبة التأليف والكتابة فزاولتها ونجحت فيها نجاحا اكسبها شهرة بعيدة بين علماء الشرق والغرب؛ وقد ساعدتها معرفتها اللغات على الإجادة فيما كتبته؛ وقد خلفت من الكتب ما يأتي: (1) الغامر والعامر (2) من مراد إلى مراد هذا الكتاب وصفت رحلتها من حلب إلى بغداد إلى قونية سنة 1909 وصدرتها بمقدمة إلى اللورد كرومر؛ مع مصور للبلدان؛ فيه خطوط تدل على الطرق التي قطعتها. (3) ألف بيعة وبيعة كتبت هذا الكتاب باشتراك المستر رمزي (4) الأخيضر وهو بحث مطول عن تاريخ قصر ترى أطلاله في العراق (5) تركية آسية كتبته في إبان الحرب في البصرة (6) بيان عن الإدارة الملكية في العراق

إن آثارها المذكورة تظهر نفسية الكاتبة فإنها تدقق النظر في رواية الأخبار وتنقلها بأمانة وإخلاص إلَاّ إذا التاث عليها الأمر

ص: 135

في بعض المواضيع شأن كل الرحالين الإفرنج؛ يصدق هذا الكلام على بعض مرويات في كتابها من (مراد إلى مراد) أما من حيث مجموعها فأنها

آثار خالدة ولا سيما كتابتها عن قصر الاخيضر وعن آثار سامرآء وأطلالها؛ وكل ما كتبته بعد الحرب العامة. وتمتاز كتابتها بدقة الوصف فان قلمها هناك بمثابة ريشة المصور أو النقاش تمثل لك الأشياء والوقائع تمثيلا رائقا كأنك أمام صورة أو أمام المشاهد أو الحوادث عينها. ولا تتعمد في تأليفاتها الخيال إلَاّ ما ندر. بل أنها تغوص على الحقيقة وبعد أن تظفر بها تخرجها وتعرضها على قرائها كما يعرض الغواص الدرة اليتيمة إذا عثر عليها.

السياسة

مهما بلغت من الشأو البعيد في الرحلات والتأليف فإنها لم تنل شهرة طبقت الخافقين عند الخاصة والعامة، إلَاّ بعد أن انخرطت في سلك السياسة. ولم تكد تأتي مصر سنة 1915 على ما مر بنا حتى أخذت شهرتها تسبقها إلى البلاد الشرقية؛ ثم زادت شهرة عند نزولها البصرة سنة 1916 واشتغالها بإدارة الحاكم الملكي؛ وعظمت منزلتها في بغداد بعد أن احتلتها جيوش البريطانيين؛ وبقيت تلك المنزلة في قمة المجد حتى يوم موتها. وقد كان لها

ص: 136

الكلمة الراجحة والرأي النافذ في جميع تطورات السياسة في العراق وكانت في دار الاعتماد (الكتوم الشرقية)؛ ثم تولت مديرية المتحفة العراقية فخرا. وتولت أيضاً مديرية خزانة السلام؛ وقامت بتشييد مستشفى للسيدات الموسرات جمعت قسما من نفقاته من العراقيين.

أما الخطة التي انتهجتها في سياستها في العراق فهي أنها سعت السعي المتواصل للتوفيق بين السيادة القومية العراقية واستقلال البلاد وبين مصالح بريطانية العظمى في هذا القطر. فهي بريطانية مخلصة لبلادها وصديق حميم للعرب والعراقيين. وكانت عليمة بتطورات القضية العربية منذ يوم نشأتها؛ إذ كانت تراقب سيرها قبل الحرب عن كثب وتجتمع بزعمائها عند مرورها بسورية وتحادثهم بقضيتهم التي كان يدور محورها يومئذ على الحكومة اللامركزية. وقد قالت لي يوما: (إن لم يدر في خلدها آنئذ أن الأتراك ينكرون على العرب طلبهم حتى يتسع الخرق على الراقع وتخرج البلاد من حكمهم).

ولقد اعترضتها عراقيل كثيرة في نهجها السياسي من غلاة ساسة البريطانيين الذين اختلفوا في الرأي عنها في أوضاع إدارة العراق وسياسته إلا أنها انتصرت عليهم. ولما تقرر مصير العراق

ص: 137

بتبوؤ جلالة الملك فيصل الأول عرشه وعقدت المعاهدة العراقية البريطانية

في عهد الوزارة النقيبية واصدر جلالة الملك فيصل ذلك البلاغ التاريخي في 13 أوكتوبر 1922 فاستبشرت به كل الاستبشار وأعربت عن سرورها في إحدى رسائلها الخالدة: فقالت ما تعريبه: (إن هذا اليوم خير! أليس كذلك؟ فأني اذهب إلى أن بلاغ جلالته هو من أبدع ما ينادي به ملك شعبه وأعظمه تأثيرا فيهما)

وكانت شديدة الإعجاب بجلالة الملك فيصل إذ ترى فيه البطل المغوار الذي أعده الدهر وزينه بأصالة الرأي ليتولى عرش العراق وكانت ترى في شبان العراقيين عنصرا عليه قوام هذه المملكة الحديثة وهم رواد مستقبلها الباهر.

إن منزلتها العلمية والسياسية ووظيفتها في ديوان الحاكم الملكي العام؛ ثم في ديوان المعتمد السامي ونفوذها الأدبي والسياسي اكسبها شهرة بعيدة وأصدقاء كثيرين من جميع الطبقات. ولذا تسمع الأعراب والبدو يدعونها (كوكسة) ظنا منهم أن كوكس اسم وظيفة وكوكسة مؤنثها و (الحاكمة) أما لقب (الخاتون) فكاد يحل محل اسمها؛ وكان يقصدها العراقيون من كل الطبقات لقضاء حاجات لهم أو الأخذ برأيها في صعاب الأمور وحل المشكلات.

ص: 138

وقد بذلت أقصى الجهد في تأسيس المتحفة العراقية وتنظيمها وكانت حتى آخر يوم من حياتها قد صرفت معظم وقتها في ترتيب العاديات والآثار القديمة في دارها الجديدة.

وفي أبان همتها داهمتها المنية غيلة فأصبحت يوم الاثنين 12 تموز 1926 جثة هامدة؛ ونعتها مديرية المطبوعات بإذاعة رسمية جاء فيها: (إن هذه المديرية تذيع هذا النبأ المحزن بمنتهى الأسف نظرا لما للمس المرحومة من الأعمال الباهرة والمساعدات الثمينة في سبيل خدمة العراق؛ ولقد فقد هذا القطر بموتها يدا كبيرة عاملة وصديقة له) وبمثل ذلك نعتها كتومية (سكرتيرية) رئاسة الوزراء

وكان موكب دفنها فخما اشترك فيه ممثلو الملوك والأمراء والوزراء ونواب الأمة وأعيانها؛ حتى ردد بعضهم ببيت المتنبي القائل:

مشى الأمراء حوليها حفاة

كأن المرو من زف الرئال

ولا عجب أن جاء في كتاب المعتمد السامي إلى رئيس وزراء الحكومة العراقية ما يأتي: (أني متأكد أن المس بل لو تمكنت من رؤية ما كان البارحة من مظاهر الحزن والحنو عليها لشعرت بذاتها أنها كوفئت مكافأة تامة على ما قامت به طيلة السنوات العشر التي

قضتها في العراق في الجهاد والتجرد للعمل ونكران

ص: 139