الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَلَئِنْ أَذَقْناهُ} آتيناه، واللام: لام القسم {رَحْمَةً مِنّا مِنْ بَعْدِ ضَرّاءَ} سعة بعد شدة، والرحمة هنا: سعة العيش والصحة، والضراء ضيق العيش والمرض ونحوهما {هذا لِي} بعملي أي هذا ما أستحقه لما لي من العمل والجهد الحسنى الجنة والكرامة {فَلَنُنَبِّئَنَّ} لنخبرن {غَلِيظٍ} شديد لا يمكنهم التخلص منه.
{وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ} جنس الإنسان {أَعْرَضَ} عن الشكر {وَنَأى بِجانِبِهِ} تكبر وانحرف وتباعد، والجانب: مجاز عن النفس كالجنب في قوله تعالى: {فِي جَنْبِ اللهِ} [الزمر 56/ 39]. {فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ} كثير مستمر، وهو أبلغ من الطويل، إذ الطول قد يشمل الشيء الدقيق.
سبب النزول:
هذه الآيات نزلت في كفار، قيل: في الوليد بن المغيرة، وقيل: في عتبة بن ربيعة، وكثير من المسلمين وغيرهم يتصفون بوصف أولها من دعاء الخير.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى تبدل أحوال الكفار بين الدنيا والآخرة، الذين كانوا في الدنيا مصرّين على إثبات الشركاء والأضداد لله، ثم تبرؤوا عن تلك الشركاء في الآخرة، أردفه ببيان أحوال الإنسان في جميع الأوقات، وتغير أطواره ومناهجه، فإن جاءه خير تعاظم، وإن تعرض لبلاء ومحنة تصاغر وذبل، وهذا دليل الطيش، والحرص على جمع المال، والجهل، وضعف الإيمان.
التفسير والبيان:
{لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ، وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ} أي لا يملّ الإنسان من دعاء ربه بالخير، كالمال والصحة والسلطان والرفعة ونحوها، وإن أصابه الشر من بلاء وشدة أو فقر أو مرض، كان شديد اليأس من
روح الله، بالغ القنوط من رحمة الله، حتى يظن أنه لا يتهيأ له بعد هذا خير، أو يظن عدم زوال ما به من المكروه.
والآية تصوّر طبع الإنسان، وإن ظهر ذلك كثيرا في الكافر، كما قال تعالى:{إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} [يوسف 87/ 12] وقد جعل بعض المفسرين الآية خاصة بالكافر، وقال: هذه صفة الكافر، بدليل الآية المتقدمة:{إِنَّهُ لا يَيْأَسُ..} .. والظاهر إرادة الجنس، فكثير من المسلمين يصدر منهم هذا التغير والتبدل، كما تقدم بيانه.
ونظير الآية قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً، ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ، إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ، وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ، إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود 9/ 11 - 11].
ثم ذكر الله تعالى خصالا ثلاثا أقبح مما سبق، فقال:
1 -
{وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنّا مِنْ بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ: هذا لِي} أي ولئن آتيناه خيرا بتفريج كربه من بعد شدة أصابته، كغنى بعد فقر، وصحة أو عافية بعد مرض، وجاه بعد ذل، ليقولن: هذا شيء أستحقه على الله لرضاه بعملي وجهدي وخبرتي، متناسبا فضل الله وإحسانه، جاهلا أن الله يبتلي عباده بالخير والشر، ليتبين له الشاكر من الجاحد، والصابر من الجزع. وهذا دليل على أن ذلك اليائس القانط لو عاودته النعمة، لعاد إلى الجحود والكفر.
2 -
{وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً} أي وما أعتقد أن القيامة ستقوم، كما يخبرنا به الأنبياء، فلا رجعة ولا حساب ولا عقاب على ذنب في الدنيا. ولأجل أنه رزق نعمة يبطر ويفخر ويكفر، كما قال تعالى:{كَلاّ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى} [العلق 6/ 96 - 7].
والشك في البعث لا يكون إلا من الكافرين أو المنافقين المظهرين الإسلام المبطنين الكفر.
3 -
{وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى} أي ولئن كان ثمّ معاد على فرض صدق الأنبياء بما أخبروا به من حصول البعث والنشور، فليحسنن إلى ربي كما أحسن إلي في هذه الدار، والحسنى الكرامة والجنة. واللام فيها للتأكيد. والآية تدل على تيقن الكافر بوصول الثواب إليه من وجوه خمسة:
الأول-كلمة إن تفيد التأكيد، الثاني-تقديم كلمة لي يفيد التأكيد، الثالث-قوله {عِنْدَهُ} يدل على أن الخيرات حاضرة مهيأة عنده، الرابع-لام {لَلْحُسْنى} للتأكيد، الخامس- {لَلْحُسْنى} تفيد الكمال في الحسنى.
والمعنى: لقد ظن أنه استحق خير الآخرة بما أوتيه من خير الدنيا، وتمنى على الله عز وجل، مع إساءته العمل وعدم اليقين، وهذا غالب على الكافر.
فأجيب بمفاجأة نقيض ما يظن، فقال الله تعالى مهددا من كان هذا اعتقاده:{فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ} أي فلنخبرن هؤلاء يوم القيامة بما عملوا من المعاصي، ولنجازينهم بعذاب شديد كثير لا يمكنهم التخلص منه وهو عذاب جهنم.
ثم أكد الله تعالى تردد الإنسان فعلا كتردده قولا في آية {لا يَسْأَمُ} فقال:
{وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ} أي وإذا رزقنا الإنسان-من حيث هو إنسان-رزقا حسنا، وأمددناه بنعمة من النعم كالصحة والولد والمال، أعرض عن الشكر والطاعة، واستكبر عن الانقياد لأوامر الله عز وجل، وإذا تبدل الحال وأصيب بشر، أي بلاء وجهد أو فقر أو مرض، أطال السؤال والدعاء، والتضرع إلى الله والاستغاثة به أن يكشف ما به من شدة.