الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ذكر تعالى جواب الرّسل لأقوامهم عن التّقليد، قائلا:
{قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ} أي قال لهم رسولهم:
أتتبعون آباءكم، ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟! فأجابوه معلنين كفرهم صراحة، في قوله تعالى:
{قالُوا: إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} أي قالوا: لا نعمل برسالتك، ولا سمع لك ولا طاعة، وإنا كافرون جاحدون بما أرسلتم به، ومستمرون ثابتون على دين الآباء والأسلاف. والمراد أنهم لو علموا وتيقّنوا صحة ما جئتهم به أيها الرّسول، لما انقادوا لذلك، لسوء قصدهم، ومكابرتهم للحقّ وأهله. وقوله:{بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ} يعني بكل ما أرسل به الرّسل، فالخطاب للنّبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه لفظ الجمع، لأن تكذيبه تكذيب لمن سواه.
وما بعد الإصرار على الكسر إلا النّقمة والإهلاك، فقال تعالى:
{فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي فانتقمنا من الأمم المكذّبة للرّسل بأنواع من العذاب، كعذاب قوم نوح وعاد وثمود، فانظر أيها المخاطب كيف كان مصير أمر المكذبين من تلك الأمم كيف بادوا وهلكوا، وإن آثارهم موجودة، وعبرة للنّاظر المعتبر. وهذا وعيد وتهديد لأهل مكة، وسلوة للرّسول، وإرشاد له إلى عدم الاكتراث بشأن قومه من رسالته.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي:
1 -
للمشركين افتراءات كثيرة، منها هنا: نسبة البنات إلى الله تعالى، فقالوا: الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءا له وبعضا، كما يكون الولد بضعة من والده وجزء له. وقد عجّب الله المؤمنين من جهلهم، إذ أقرّوا بأن خالق السموات
والأرض هو الله، ثم جعلوا له شريكا أو ولدا، ولم يعلموا أن من قدر على خلق السموات والأرض لا يحتاج إلى شيء يعتضد به أو يستأنس به، لأن هذا من صفات النّقص، كما أبان القرطبي.
ومن افتراءاتهم المذكورة في سورة أخرى: جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم (الأوثان) وبعضها لله تعالى، كما حكى تعالى عنهم قائلا:{وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا: هذا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ، وَهذا لِشُرَكائِنا، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ، فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ، وَما كانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ} [الأنعام 136/ 6].
2 -
ومن افتراءاتهم أنهم جعلوا له من الأولاد الأقل والأضعف وهو البنات.
3 -
وبّخهم الله تعالى على افتراءهم ذاكرا أنه كيف يتّخذ البنات-كما زعموا أن الملائكة بنات الله-واختصّهم وأخلصهم بالبنين؟! 4 - لم يعقل المشركون ما افتروه على الله في نسبتهم البنات له، فإنهم لا يرضونه لأنفسهم، فإنه إذا بشّر الواحد منهم بولادة بنت له، اسودّ وجهه غمّا وكدرا، وأنف من نسبة البنت له، وأضحى حزينا مكروبا، فكيف ينسب إلى الله ما هو نافر منه؟! ومن أجاز أن تكون الملائكة بنات الله، فقد جعل الملائكة شبها لله، لأن الولد من جنس الوالد وشبهه، ومن اسودّ وجهه مما ينسب إليه مما لا يرضى، أولى من أن يسودّ وجهه بنسبة ذلك إلى من هو أجلّ منه، فكيف إلى الله عز وجل؟! 5 - وكيف يصح أن يجعل الله له من لا همّ له إلا الحلي والزّينة، وإذا خوصم لا يقدر على الدّفاع عن نفسه؟
وفي هذه الآية دلالة-كما تقدّم-على إباحة الحلي للنّساء، وتحريمه على الرجال، وهو حكم مجمع عليه ثابت بأخبار كثيرة.
6 -
أوضح الله تعالى كذب المشركين وجهلهم في نسبة الأولاد إلى الله سبحانه، ثم في تحكمهم بأن الملائكة إناث، وهم بنات الله، وحكمهم من غير دليل بأنهم إناث، فكيف تجرؤوا حتى حكموا بأنهم إناث، ولم يحضروا حالة خلقهم؟! إن شهادتهم الباطلة هذه مكتوبة عليهم في ديوان أعمالهم، ويسألون عنها في الآخرة.
7 -
ومن شبه المشركين المفتراة احتجاجهم بالقدر الإلهي، فقالوا على سبيل الاستهزاء والسخرية: لو شاء الرّحمن على زعمكم أيها المؤمنون ما عبدنا هذه الملائكة، والله أمرنا بهذا أو رضي لنا ذلك، ولهذا لم يعاجلنا بالعقوبة. وهذه كلمة حقّ أريد بها باطل، فإن كل شيء بإرادة الله، وعلمه نافذ لا محالة، لكن الإرادة أو المشيئة لا تقتضي الأمر والرّضا وليس الأمر والإرادة متطابقين، ولا نعلم مراد الله، فكان علينا العمل بأمره ونهيه، وليس لقولهم: الملائكة بنات الله أي دليل علمي، وما هم إلاّ يحدسون ويكذبون، فلا عذر لهم في عبادة غير الله عز وجل. وقوله:{هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ} يفيد حصر العبودية في الملائكة، وذلك يدلّ على الفضل والشّرف، مما يوجب كونهم أفضل من غيرهم.
8 -
كذلك ليس لهم دليل نقلي على زعمهم، ولا كتاب لديهم بما ادّعوه قبل هذا القرآن.
9 -
لا دليل للمشركين على شركهم إلا التّقليد الأعمى لآبائهم وأسلافهم، وهم لما عجزوا عن الدّليل لم يجدوا بدّا من الاعتماد على تقليد الآباء، قائلين بأنهم وحدوهم على تلك الملّة أو الطّريقة والمذهب، فقلّدوهم واهتدوا بهديهم.