الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
اشتملت الآية الأولى: {فَلِذلِكَ فَادْعُ.} . على عشرة أوامر ونواه، كلّ منها مستقل بذاته، ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنّها أيضا عشرة موضوعات. والأمر بهذه الأوامر والنهي عن هذه النواهي، وإن وجه إلى النّبي صلى الله عليه وسلم، فهي له ولأمته.
1 -
2: {فَلِذلِكَ فَادْعُ، وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ} أي ادع أيها الرسول إلى ذلك الأمر المتفق عليه، واثبت وداوم واستمر على عبادة الله وتبليغ الرسالة، كما أمرت من ربّك، فيكون قوله:{فَلِذلِكَ} أي إلى ذلك، وتكون اللام بمعنى إلى، كقوله تعالى:{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها} [الزلزلة 5/ 99].
ويصحّ أن يكون المراد باللام التعليل، أي فلأجل ذلك التّفرق والشّك المذكورين، ولأجل تلك الاختلافات المتشعبة في الدين، ادع إلى الاتفاق والائتلاف على الملّة الحنيفية القديمة، واستقم عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله، فتكون اللام على بابها للتعليل، والمعنى: فمن أجل ذلك المتقدّم ذكره فادع واستقم.
أو فلأجل ما شرعه الله من الدّين الواحد، فادع إلى الله وإلى توحيده، واستقم على ما دعوت إليه، واستمر على تبليغ الرسالة كما أمرت بذلك.
3 -
{وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ} أي ولا تتبع أيها الرسول أهواء المشركين فيما اختلقوه وافتروه من عبادة الأوثان، ولا تتبع أيضا أهواء الذين أورثوا الكتاب فيما وقعوا فيه من شكوك وحيرة وتحريف وتبديل.
4 -
{وَقُلْ: آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ} أي وقل أيها الرسول:
صدّقت بجميع الكتب المنزلة من السماء التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله، من
التوراة والإنجيل والزّبور وصحف إبراهيم وموسى، لا نفرّق بين أحد منهم، فلست من الذين آمنوا ببعض الكتب، وكفروا ببعض، وهذا تعريض بأهل الكتاب (اليهود والنصارى) الذين حصل منهم ذلك.
5 -
{وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أي وأمرني الله بأن أعدل بينكم في الحكم والقضاء إذا ترافعتم إلي، ولا أحيف عليكم بزيادة أو نقص.
6 -
{اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ} أي الله هو المعبود بحقّ، لا إله غيره، فنحن نقرّ بذلك اختيارا، فهو إلهنا وإلهكم، وخالقنا وخالقكم.
7 -
{لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ} أي إن ثواب أعمالنا وعقابها خاص بنا، ولكم ثواب أعمالكم وعقابها، فهو خاص بكم، ونحن برآء منكم ومن أعمالكم، كما قال تعالى:{قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ} [سبأ 25/ 34]، وقال سبحانه:{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ} [يونس 41/ 10].
8 -
{لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ} أي لا خصومة بيننا وبينكم ولا احتجاج، لأن الحقّ قد ظهر ووضح كالشمس.
9 -
10: {اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي الله يجمع بيننا في المحشر يوم القيامة، فيقضي بيننا بالحق في خلافتنا، كما قال تعالى:{قُلْ: يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا، ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ، وَهُوَ الْفَتّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ 26/ 34]. وإليه وحده سبحانه المرجع والمآب يوم الحساب والقيامة، فيجازي كل نفس بما كسبت. قيل: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة، وقد سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن دعوته ودينه إلى دين قريش، على أن يعطيه الوليد نصف ماله، ويزوجه شيبة بابنته.
ثم بيّن الله تعالى بطلان حجة المجادلين في دين الله، فقال:
{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ، حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ} أي والذين يخاصمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له، ودخلوا فيه، حجّتهم باطلة عند ربّهم، أي لا ثبات لها، كالشيء الذي يزلّ عن موضعه، وعليهم غضب عظيم من الله لمجادلتهم بالباطل، ولهم عذاب شديد يوم القيامة. وسميت دعاويهم الزائفة وأباطيلهم حجّة ودليلا، مجاراة لهم على زعمهم.
قال مجاهد: وهؤلاء قوم توهّموا أن الجاهلية تعود، فجادلوا الذين استجابوا للإسلام، لعلهم يردّونهم إلى الجاهلية.
وقال قتادة: هم اليهود والنصارى، ومحاجّتهم قولهم: نبيّنا قبل نبيّكم، وكتابنا قبل كتابكم. والظاهر هذا الرأي، روي أن اليهود قالوا للمؤمنين: ألستم تقولون: إن الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف؟ فنبوّة موسى وحقيّة التوراة معلومة بالاتّفاق، ونبوّة محمد ليست متّفقا عليها، فوجب أن يكون الأخذ باليهودية أولى، فدحض تعالى هذه الحجة، لأن الإيمان بموسى عليه السلام إنما وجب لظهور المعجزات على يديه، للدلالة على صدقه، وقد ظهرت المعجزات على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، فوجب الإقرار بنبوّته.
ثم ردّ تعالى عليهم بقوله:
{اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ} أي لقد أنزل الله جميع الكتب المنزلة على الرّسل إنزالا مشتملا على الحقّ مقترنا به، وعلى أنواع الدلائل والبيّنات، وأنزل الميزان في كتبه المنزلة، أي العدل والتسوية والإنصاف، ليحكم به بين البشر، وسمي العدل ميزانا، لأن الميزان آلة الإنصاف والتّسوية بين الناس
في بيعهم وشرائهم، كقوله تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ، لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد 25/ 57].
وبعد تقرير هذه الدلائل خوّف الله تعالى المنكرين بعذاب القيامة، فقال:
{وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ قَرِيبٌ} أي وما يعلمك أيها الرسول والمخاطب أن مجيء الساعة عسى أن يكون قريبا حصوله. وفي هذا ترغيب باتباع شرع الله، وترهيب من القيامة، وطلب الاستعداد لها.
{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها} أي يتعجّل بقدوم الساعة الذين لا يصدّقون بها، قائلين استهزاء وإنكارا وتكذيبا وعنادا: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} أي والمؤمنون خائفون وجلون من وقوعها، ويعلمون أنها كائنة لا محالة، فهم عاملون من أجلها، مستعدون لها، كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ} [المؤمنون 60/ 23].
ثبت في حديث متواتر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصورت جهوري، وهو في بعض أسفاره، فناداه، فقال: يا محمد، فقال له نحوا من صوته:«هاؤم» ، فقال له: متى الساعة؟ فقال له: «ويحك إنها كائنة، فما أعددت لها؟» فقال: حبّ الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم:«أنت مع من أحببت» أو «المرء مع من أحب» .
{أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أي ألا أيها السامع، إن الذين يجادلون في وجود القيامة، ويخاصمون فيها مخاصمة شكّ وريبة، لفي جهل بيّن. وانحراف شديد عن الحقّ، ولو تفكّروا لعلموا أن الذي خلقهم ابتداء