الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبب النزول:
نزول الآية (37):
{وَإِذا ما غَضِبُوا.} . قيل: نزلت في عمر حين شتم بمكة، وقيل: في أبي بكر حين لامه الناس على إنفاق ماله، وحين شتم فحلم.
نزول الآية (38):
{وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا.} .: نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فاستجابوا وأقاموا الصلاة.
نزول الآيات (41 - 43):
ذكر الكلبي والفراء أنها نزلت أيضا في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد شتمه بعض الأنصار، فرد عليه، ثم أمسك.
المناسبة:
بعد بيان دلائل التوحيد والقدرة الإلهية، والتنفير من الدنيا، رغّب تعالى في الآخرة، فإنها خير وأبقى، ثم بيّن أن الخيرية تحصل لمن اتصف بصفات معينة، ذكر أولا منها صفتين وهما الإيمان بالله والتوكل عليه، وتابع هنا إيراد الصفات الأخرى للمؤمنين وهي: اجتناب كبائر الذنوب والفواحش، وإطاعة الله تعالى وترك نواهيه، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والتشاور في الأمور العامة والخاصة، والشجاعة والبأس لاسترداد الحقوق المغتصبة.
التفسير والبيان:
وصف الله تعالى أهل الجنة بالإيمان بالله والتوكل عليه، وبالصفات التالية:
1 -
اجتناب الكبائر: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ} أي الذين يجتنبون الوقوع في كبائر الذنوب التي أوعد الله عليها وعيدا شديدا، كالشرك والقتل العمد وعقوق الوالدين، والفواحش وهي كل ما استقبحه الشرع والعقل والطبع السليم من قول أو فعل، كالغيبة والكذب، والزنى، والسرقة والحرابة (الإفساد في الأرض).
2 -
العفو عند المقدرة: {وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} أي يتجاوزون عن الذنب الذي أغضبهم، ويكظمون الغيظ، ويحلمون عن ظلمهم، لأن سجيتهم العفو والصفح وليس الانتقام من الناس. وهذا من محاسن الأخلاق يشفقون على ظالمهم، ويصفحون عمن جهل عليهم، يطلبون بذلك ثواب الله وعفوه.
جاء في الحديث الصحيح: «ما انتقم النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات الله» .
3 -
تمام الانقياد والطاعة لله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ} أي والذين أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه، من توحيده والتبرؤ من الشرك، وأطاعوا الرسل فيما أمر الله به وزجر عنه.
4 -
إقام الصلاة: {وَأَقامُوا الصَّلاةَ} أي أدوا الصلاة المفروضة كاملة بإتمام أركانها وشروطها وخشوعها في مواقيتها المفروضة، وخصت الصلاة هنا بالذكر مع أمهات الفضائل، لأنها أعظم العبادات لله عز وجل، فهي معراج الوصول إلى الله، أو صلة بين العبد وربه.
5 -
الأخذ بنظام الشورى: {وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ} أي يتشاورون فيما بينهم في الأمور الخاصة والعامة، ولا ينفردون برأي في كل أمر من القضايا العامّة، كتولي الحكم (أو الخلافة) وشؤون تدبير الدولة والتخطيط لمصالحها، وإعلان الحرب، وتولية الولاة والحكام والقضاة وغيرهم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر
الناس مشاورة لأصحابه، وسلك الصحابة طريقه ومنهجه في عظائم الأمور كتولية الخلافة وحروب الردة واستنباط الأحكام الشرعية للقضايا والحوادث المستجدة، وشاور عمر رضي الله عنه الهرمزان حين وفد عليه مسلما
(1)
، ولما طعن عمر جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر، وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، فاتفقوا على تقديم عثمان رضي الله عنه للخلافة الثالثة.
وإذا كانت الآية هنا تقرر وصفا ثابتا للمؤمنين، فقد أمر الله تعالى بالشورى في آية أخرى، فقال:{وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران 159/ 3] وقال الحسن البصري رحمه الله: «ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم» . وقال ابن العربي
(2)
: الشورى ألفة للجماعة، ومسبار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا، وقد قال حكيم:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن
…
برأي لبيب أو مشورة حازم
ولا تجعل الشّورى عليك غضاضة
…
فريش الخوافي قوة للقوادم
6 -
الإنفاق: {وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} أي وينفقون في سبيل الله وطاعته بعض ما رزقناهم من أموال وخيرات، فالإنفاق من الأغنياء قوة للأمة، وعلاج لضعفها، وسبيل للحفاظ على هيبة الدولة ورفعة شأن أفرادها وعزها، وذلك بالإحسان إلى الأقرب فالأقرب، ثم للمصالح العامة، كإغناء المحاويج، وإعداد القوى الحربية لمجابهة الأعداء.
7 -
الشجاعة: {وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} أي إذا تعرضوا للظلم والاعتداء انتصروا ممن ظلمهم، لأن الانتصار عند البغي واجب وفضيلة،
(1)
أحكام القرآن لابن العربي: 1656/ 4
(2)
أحكام القرآن 1656/ 4.
ولأن التذلل لمن بغى يتنافى مع عزة المؤمنين، إذ العجز والاستضعاف يؤدي إلى إغراء العدو على إلحاق صنوف أخرى من العدوان، فالمؤمنون أعزة كرام يحافظون على الحقوق والحرمات والكرامة، وليسوا بالعاجزين والأذلّين، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، فإذا قدروا عفوا.
ولا تعارض بين هذه الآية وبين ما سبقها وهي: {وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} فإن كل آية لها مجال وموضع، فالسابقة في موضع، واللاحقة في موضع، وذلك لأن العفو قسمان
(1)
:
الأول-أن يكون سببا لتسكين الفتنة، وتهدئة النفوس، ورجوع الجاني عن جنايته، وهذا محمود، تحمل عليه آيات العفو، مثل:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} [البقرة 237/ 2]. وهذا مرغب فيه في داخل الأمة الواحدة.
الثاني-أن يكون سببا لتجرؤ الظالم وتماديه في غيه واستضعافه الأمة، وهذا مذموم، تحمل عليه آيات الحث على الانتقام، وهذا واجب في مقاومة العدو الخارجي، وعند اغتصاب الحقوق، ويتوقف على توافر القوة المكافئة أو القدرة المطلوبة في نظام الإسلام بإلزام المؤمن الصمود أمام اثنين من العدو.
والأمثلة الموضحة كثيرة، منها: عفا يوسف عليه السلام عن إخوته وقال كما حكى القرآن: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ} [يوسف 92/ 12] مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه. وعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة بعد فتحها، وعفا عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية، ونزلوا من جبل التنعيم، فلما قدر عليهم منّ عليهم مع قدرته على الانتقام:
وعفا عن غورث بن الحارث الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه-سيف النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
تفسير الرازي: 177/ 27.
وهو نائم، فاستيقظ صلى الله عليه وسلم، وهو في يديه مصلتا، فانتهره، فوقع من يده، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف في يده، ودعا أصحابه، ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل، وعفا عنه. وكذلك عفا صلى الله عليه وسلم عن المرأة اليهودية-وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمد بن مسلمة، التي سمّت الذراع يوم خيبر-فأخبره الذراع بذلك، فدعاها فاعترفت، فقال صلى الله عليه وسلم:«ما حملك على هذا» ؟ قالت: أردت إن كنت نبيا لم يضرك، وإن لم تكن نبيا استرحنا منك، فأطلقها صلى الله عليه وسلم، ولكن لما مات منه-من السم-بشر بن البراء رضي الله عنه، قتلها به.
وروي أن زينب أقبلت على عائشة، فشتمتها، فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فلم تنته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«دونك فانتصري»
(1)
وهذه تطبيق لقوله تعالى:
{لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء 148/ 4].
أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«المستبّان ما قالا من شيء، فعلى البادي حتى يعتدي المظلوم» ثم قرأ:
{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} .
ثم إن الله تعالى لم يرغب دائما في الانتصار، بل بيّن أنه مشروع فقط، ثم بيّن بعده أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة، ثم أبان أن العفو أولى بقوله:
{فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} .
وشرط الله تعالى المماثلة بين الجناية والعقوبة في قوله تعالى:
{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} أي إن عقاب السيئة عقاب مماثل للجرم، وإن العدل في الانتصار هو الاقتصار على المساواة، فإذا قال المسيء: أخزاك
(1)
أخرجه مسلم، وأخرجه بلفظ آخر النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة، وجاء فيه:«فقال لي: سبّيها، فسببتها حتى جفّ ريقها في فمها» .
الله، يقول: أخزاك الله، من غير أن يعتدي. وسمى جزاء السيئة سيئة، لأنها تسوء من تنزل به.
ونظير الآية قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} [البقرة 194/ 2] وقوله سبحانه: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل 126/ 16] وقوله عز وجل: {وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها} [الأنعام 160/ 6].
وهكذا فإن جميع العقوبات المدنية والجنائية في الإسلام تجب فيها المماثلة، فالقصاص مثلا من القاتل عمدا أو في الجروح واجب بقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ} [البقرة 194/ 2] وقوله عز وجل: {وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ} [البقرة 194/ 2] وقوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ} [المائدة 45/ 5] لكن رغّب تعالى بالعفو في آخر الآية الأخيرة، فقال:{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ} وهنا قال:
{فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} أي من عفا عن الظالم المسيء، وأصلح بالود والعفو ما بينه وبين معاديه، فثوابه على الله، يعطيه جزاء أعظم، كما
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: «وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا» .
ووصف الله المتقين بقوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرّاءِ وَالضَّرّاءِ، وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ، وَالْعافِينَ عَنِ النّاسِ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران 134/ 3].
{إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ} أي إنه تعالى لا يحب المبتدئين بالظلم، ولا يحب من يتعدى في الاقتصاص ويجاوز الحد فيه، لأن المجاوزة ظلم. والمراد أنه تعالى يعاقب المتجاوز حده. وهذا تأكيد لمطلع الآية في اشتراط المماثلة نوعا ومقدارا.
ثم أكد الله تعالى مشروعية دفع الظلم والبغي، فقال: