الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ، فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} أي والله إن المنتصر من الظالم بعد ظلمه له، لا سبيل عليه بمؤاخذة أو عقوبة، لأن الانتصار بحق، فيشرع القصاص في الجنايات العمدية، والضمان في جنايات الخطأ والإتلافات، ويجوز الشتم والسب بالمثل دون اعتداء ولا تجاوز.
{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ، وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي إنما المؤاخذة والعقوبة على الذين يبدءون الناس بالظلم، أو يتعدّون مبدأ المماثلة، ويتجاوزون الحد في الانتقام، ويجنون على النفوس والأموال بغير الحق، ويتكبرون ويتجبرون بظلم الناس، وسلب الحقوق.
{أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} أولئك البادئون بالظلم أو المتجاوزون الحدود لهم عذاب مؤلم شديد بسبب اعتدائهم.
ثم أكد الله تعالى الترغيب في العفو والصفح عند المقدرة، فقال:
{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أي بعد أن ذم تعالى الظلم وأهله وشرع القصاص، ندب إلى العفو والصفح، فقال: إن من صبر على الأذى، وستر السيئة، وغفر خطأ من ظلمه، فإن ذلك الصبر والمغفرة لمن الأمور المشكورة والأفعال الحميدة، التي يثاب عليها بالثواب الجزيل والثناء الجميل، لأن الإنسان الغاضب يثبت فيها ويرسخ، ولا ينطلق وراء شهوة الانتقام.
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من الآيات ما يأتي:
1 -
ترغيب المؤمنين بالاتصاف بأمهات الفضائل التي ذكرت في الآيات ليكونوا ورّاث الجنة وأهلها، وتلك الصفات سبع هي: اجتناب كبائر الإثم والفواحش، وهي كل ما توعد الله عليه بالعذاب أو أوجب فيه حدا من الحدود
المقدرة شرعا، والتجاوز والحلم عمن ظلمهم، والانقياد والطاعة لأوامر الله تعالى، وإقام الصلاة، والتشاور فيما بينهم، والبذل والإنفاق في طاعة الله، والجرأة والشجاعة في دفع البغي والظلم.
2 -
قال ابن العربي: مدح الله المشاورة في الأمور، ومدح القوم الذين يمتثلون ذلك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمور المتعلقة بمصالح الحروب، وذلك في الآثار كثير، ولم يشاورهم في الأحكام، لأنها منزّلة من عند الله على جميع الأقسام: من الفرض، والندب، والمكروه، والمباح، والحرام.
فأما الصحابة بعد استئثار الله به علينا، فكانوا يتشاورون في الأحكام، ويستنبطونها من الكتاب والسنة، وإن أول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينصّ عليها، حتى كان فيها بين أبي بكر والأنصار ما هو معروف، وقال عمر: نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، وتشاوروا في أمر الردّة، فاستقر رأي أبي بكر على القتال، وتشاوروا في الجدّ وميراثه، وفي حد الخمر وعدده، وتشاوروا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحروب، حتى شاور عمر الهرمزان حين وفد عليه مسلما في المغازي قائلا: فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى
(1)
.
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
3 -
إن آية {وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} هي غالبا في العلاقات الخارجية بين المسلمين وغيرهم، فقد أصابهم بغي المشركين في الماضي،
(1)
أحكام القرآن: 1656/ 4.
قال ابن عباس: وذلك أن المشركين بغوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، وآذوهم وأخرجوهم من مكة، فأذن الله لهم بالخروج ومكّن لهم في الأرض، ونصرهم على من بغى عليهم، وذلك قوله في سورة الحج:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ.} . الآيات [39 - 41].
وليست الآية مقصورة على الماضي، وإنما هي عامة في بغي كل باغ من كافر وغيره، أي إذا نالهم ظلم من ظالم لم يستسلموا لظلمه. وهذا إشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود
(1)
، وإشارة إلى أن من صفات المؤمنين العزة والكرامة وإباء الذل والشمم، والاعتزاز بقوة الله والثقة بنصره.
4 -
أما إذا كان الظلم بين المسلمين فقط أو بين المسلمين وغيرهم، فإذا كان الباغي معلنا الفجور، وقحا يؤذي الصغير والكبير، فيكون الانتقام منه أفضل، قال إبراهيم النّخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم، فتجترئ عليهم الفسّاق. أي أنّه في حال وقوع الأذى أو الضرر العام يكون الانتقام.
وإذا وقعت الجناية خطأ أو فلتة أو تعمدها صاحبها ثم طلب المغفرة، فالعفو هاهنا أفضل، وفي مثله نزلت:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} [البقرة 237/ 2] وقوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ} [المائدة 45/ 5] وقوله:
{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ} [النور 22/ 24].
5 -
إن آية: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} أصل كبير في علم الفقه وهو مقابلة الجناية بمثلها، سواء في العقوبات البدنية أو المالية. وتأول الشافعي في هذه الآية: أن للإنسان أن يأخذ من مال من خانه مثل ما خانه من غير علمه،
(1)
تفسير القرطبي: 38/ 16 - 39.
واستشهد في ذلك
بقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند زوج أبي سفيان في الحديث المتفق عليه عن عائشة: «خذي من ماله ما يكفيك وولدك» فأجاز لها أخذ ذلك بغير إذنه.
6 -
اختلف اجتهاد المجتهدين فيما إذا لم يمكن استيفاء الحق إلاّ باستيفاء الزيادة، بسبب التعارض بين إلحاق زيادة الضرر بالجاني، وبين منع المجني عليه من استيفاء حقه، فأيهما أولى؟ وذكر الرازي أمثلة عشرة لهذا الخلاف
(1)
أشير إليها بإيجاز:
المثال الأول-احتج الشافعي رضي الله عنه على أن المسلم لا يقتل بالذمي وأن الحر لا يقتل بالعبد: بأن قال: المماثلة شرط لجريان القصاص، وهي مفقودة في هاتين المسألتين، فوجب ألا يجري القصاص بينهما.
المثال الثاني-احتج الشافعي رضي الله عنه في أن الأيدي تقطع باليد الواحدة، فقال: لا شك أنه إذا صدر كل القطع أو بعضه عن كل أولئك القاطعين أو عن بعضهم، فوجب أن يشرع في حق أولئك القاطعين مثله، لهذه النصوص.
المثال الثالث-شريك الأب يشرع في حقه القصاص، لأنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله، لقوله تعالى:{وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ} [المائدة 45/ 5].
المثال الرابع-قال الشافعي رضي الله عنه: من حرّق حرقناه، ومن غرّق غرقناه، والدليل عليه هذه النصوص الدالة على مقابلة كل شيء بمماثله.
المثال الخامس-شهود القصاص إذا رجعوا وقالوا: تعمدنا الكذب، يلزمهم القصاص، لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه، فوجب أن يصير دمهم مهدرا لقوله تعالى:{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} .
(1)
تفسير الرازي: 179/ 27 - 180.
المثال السادس-قال الشافعي رضي الله عنه: المكره يجب عليه القود (القصاص) لأنه صدر عنه القتل، فوجب أن يجب عليه مثله، أي كالمكره.
المثال السابع-قال الشافعي رضي الله عنه: القتل بالمثقل كالحجر والخشب يوجب القود، لهذه الآية:{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ.} ..
المثال الثامن-الحر لا يقتل بالعبد قصاصا، كما تقدم، ولأن القاتل أتلف على مالك العبد شيئا، فيجب ضمانه، وإذا وجب الضمان، وجب ألا يجب القصاص، إذ لا فرق.
المثال التاسع-منافع الغصب مضمونة عند الشافعي رضي الله عنه، لأن الغاصب فوّت على المالك منافع تقابل في العرف بمال، فوجب أن يفوت على الغاصب مثله من المال، لهذه الآية:{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ.} ..
المثال العاشر-الحر لا يقتل بالعبد قصاصا لعلة ثالثة وهي أنه لو قتل بالعبد لكان هو مساويا للعبد في المعاني الموجبة للقصاص، لقوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها} [غافر 40/ 40].
والخلاصة: أن قوله تعالى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} يقتضي وجوب رعاية المماثلة مطلقا في كل الأحوال إلا ما استثني وخص بدليل.
7 -
لمن عفا وأصلح النزاع بينه وبين الظالم بالعفو: أجر كبير عند الله تعالى. والمقصود من قوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ} التنبيه على أن المجني عليه لا يجوز له استيفاء الزيادة من الظالم، لأن الظالم فيما وراء ظلمه معصوم، والانتصار قد يؤدي إلى تجاوز المساواة، والتعدي، خصوصا في حال الحرب والتهاب الحمية، فربما صار المظلوم عند الإقدام على استيفاء القصاص ظالما.
8 -
للمظلوم الانتصار من الظالم دون مؤاخذة ولا عقوبة ولا حرج وهل له
أن يستوفي ذلك بنفسه؟ هناك ثلاثة أقسام
(1)
:
الأول-القصاص بالنفس إذا ثبت الحق فيه عند الحكام يجوز استيفاؤه من ولي الدم، لكن يزجره الإمام لجرأته على سفك الدم. أما إذا لم يثبت حقه عند الحاكم، فيجوز له استيفاؤه ديانة بينه وبين الله، لكن يؤاخذ قضاء ويعاقب على فعله.
الثاني-الحد الخالص لله تعالى الذي لا حق فيه للآدمي كحد الزنى وقطع السرقة: إن لم يثبت عند حاكم عوقب به، وإن ثبت عند حاكم، فإن كان قطع يد أو رجل، سقط به الحد، ويعزر، وإن كان جلدا لم يسقط به الحد، لتعدّيه، فيؤاخذ بحكمه.
الثالث-الحقوق المالية: يجوز أخذها مغالبة ممن هو عالم بها، أما غير العالم بها، فإن أمكن أخذها منه بالمطالبة القضائية وجبت، ويجوز أخذها سرا، وإن لم يكن أخذها منه بالمطالبة القضائية، لجحود من هي عنده، ولا بينه تشهد بالحق، فيجوز أخذها سرا عند مالك والشافعي، ولا يجوز ذلك عند أبي حنيفة.
9 -
يؤاخذ الظلمة بعدوانهم، فيعاقبون في الدنيا، ولهم عذاب أليم في الآخرة، وذلك سواء أكان الظلم في النفوس أم في الأموال. والحاكم هو الذي يؤاخذ.
10 -
قال ابن العربي في آية {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ.} .:
هذه الآية في مقابلة الآية المتقدمة في براءة، وهي قوله:{ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [92]
(1)
تفسير القرطبي: 41/ 16.
فكما نفى الله السبيل عمن أحسن، فكذلك أثبتها على من ظلم
(1)
.
11 -
اختلف العلماء في فرض الحاكم الرسوم والضرائب والأموال على الناس، هل يجوز الخلاص منها لمن قدر على ذلك، مع أنه يستوفي جميع المطلوب من الآخرين؟ قال سحنون من المالكية: لا، وقال أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي المالكي: نعم له ذلك إن قدر على الخلاص، لأن الظلم لا أسوة فيه، ولا يلزم أحد بظلم مخافة أن يضاعف الظلم على غيره، والله سبحانه يقول:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ} .
12 -
اختلف العلماء في التحليل
(2)
والمسامحة عن العرض والمال، فأجازه على العرض والمال سليمان بن يسار ومحمد بن سيرين من التابعين. ورأى مالك التحليل من المال دون العرض. ورأى سعيد بن المسيب: ألا يحلله بحال. وجه الرأي الأول: أنه حقه، فله أن يسقطه كما يسقط دمه وعرضه. ووجه الرأي الثاني: أن التحليل في المال رفق، وفي العرض يتجرأ الظلمة ويغترون ويسترسلون في أفعالهم القبيحة.
ووجه الرأي الثالث: أنه تحليل ما حرّم الله، فيكون كالتبديل لحكم الله.
والصحيح الجواز بدليل قصة أبي ضمضم الذي كان قد استحل عرضه، أي سامح من يؤذيه ويشتمه،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فيما روى مسلم في صحيحة: أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟ 13 - إن ثواب المال المأخوذ ظلما لصاحبه طوال حياته وإلى موته، ثم يرجع الثواب إلى ورثته، لأن المال يصير لهم بالإرث.
(1)
أحكام القرآن: 1658/ 4.
(2)
التحليل هنا: أن يجعل من ظلمه في حلّ.