الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالله وحده، وعمل بطاعته، فإنها الباقية التي لا تفنى، ونعيمها الدائم الذي لا يزول، وهي لهم خاصة، لا يشاركهم فيها أحد غيرهم.
أخرج التّرمذي، وابن ماجه والبغوي والطّبراني عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال:«لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء» ، و
في رواية: «لو كانت الدنيا..» ، و
وفي رواية «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة»
(1)
.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1 -
لقد تبرأ إبراهيم عليه السلام من عبادة الأصنام، وخرج على المألوف الفاسد بالحجة والدليل.
2 -
إن ترك التّقليد في العقيدة والرّجوع إلى متابعة الدّليل واجب متعيّن على كلّ إنسان في أمر الدّين، وكذلك ترك التّقليد، واتّباع الدّليل هو الأولى في شؤون الدنيا أيضا، ليكون المرء على بيّنة من أمره، إلا فيما تتطلبه ظروف القيادة الحربية ونحوها للحفاظ على الأسرار، فيجب تنفيذ أمر القائد وطاعته، وإن لم يعرف الدّليل.
(1)
تفسير ابن كثير: 127/ 4.
3 -
جعل إبراهيم عليه السلام كلمة التّوحيد ومقالته السابقة: {إِنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ} باقية في عقبه، وهم ذريته، ولده وولد ولده، أي إنهم توارثوا البراءة من عبادة غير الله، وأوصى بعضهم بعضا في ذلك. والعقب: من يأتي بعده.
4 -
قال ابن العربي: كان لإبراهيم في الأعقاب دعوتان مجابتان:
إحداهما-في قوله: {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ:}
{لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ} [البقرة 124/ 2]، فقد قال له: نعم، إلا من ظلم منهم، فلا عهد له.
ثانيهما-قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ} [إبراهيم 35/ 14].
وقيل: بدل الأولى: {وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء 84/ 26]، فكلّ أمّة تعظّمه، بنوه وغيرهم ممن يجتمع معه في سام أو في نوح
(1)
.
5 -
وقال ابن العربي أيضا: جرى ذكر العقب هاهنا موصولا في المعنى بالحقب، أي متّصلا مستمرا على ممرّ السنين، وذلك مما يدخل في الأحكام وترتب عليه عقود العمرى
(2)
أو التّحبيس،
قال النّبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو داود والنسائي، عن جابر:«أيّما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها، لا ترجع إلى الذي أعطاها، لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث»
(3)
، أي إن الهبات والأوقاف تشمل الدرجة الأولى من الأولاد ذكورا وإناثا، وولد الذّكور دون الإناث لغة وشرعا في الدرجة الثانية وما يليها، وهذا مذهب المالكية.
(1)
أحكام القرآن: 1666/ 4
(2)
العمرى: تمليك الشيء مدة العمر.
(3)
أحكام القرآن، المرجع والمكان السابق.
وقال جماعة كابن عبد البرّ وغيره: إن ولد البنات من الأولاد والأعقاب يدخلون في الأحباس (الأوقاف الذّرية أو الأهلية).
6 -
عجبا لقريش وأمثالها متّعهم الله وآباءهم بوافر النّعم في الدنيا، ولما جاء الحقّ وهو القرآن المشتمل على التوحيد والإسلام الذي هو أصل دين إبراهيم، وكلمته الباقية في عقبه، وجاءهم الرّسول محمد صلى الله عليه وسلم، كفروا به وقالوا: إنه سحر لا وحي.
7 -
وقالوا أيضا: هلا نزل هذا القرآن على رجل عظيم من إحدى القريتين: مكة والطائف، إما الوليد بن المغيرة عبد الله بن عمر بن مخزوم عم أبي جهل من مكة، وإما أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي من الطائف، ظانين أن النبوة لصاحب المنصب العالي والرجل الشريف وهو كثير المال، رفيع الجاه.
وفاتهم أن معيار الاصطفاء للنّبوة إنما هو القيم الرّوحية والأدبية والنّفسية.
وفاتهم أيضا أنهم يتدخلون في ولاية الله وسلطانه ومشيئته، فيضعون النّبوة حيث شاؤوا، وهذا افتئات على سلطان الله، فإن مرسل الرّسل هو الذي يختارهم، وفاتهم كذلك أن رحمة الله وفضله ونعمته في الآخرة وهي الجنة، ونعمته في الدنيا وهي النبوة أفضل مما يجمعون من الدنيا.
8 -
إن الله سبحانه هو لا غيره الذي يقسم الأرزاق والحظوظ بين عباده، بمقتضى حكمته ومشيئته، فيفقر قوما ويغني آخرين، فإذا لم يكن أمر الدنيا لأحد من العباد، فكيف يفوّض أمر النّبوة إليهم؟! 9 - وإن الله تعالى هو الذي يفاضل بين عباده ويفاوت بينهم في مقومات الحياة وقيمها من القوة والضعف، والعلم والجهل، والحذاقة والبلاهة، والشهرة والخمول، لأن تحقيق المساواة في هذه الأمور يؤدي إلى الإخلال بنظام العالم،
ويفسد المصالح، ويعطّل المكاسب، فيعجز الواحد من تسخير غيره لخدمة أو عمل، مقابل أجر عادل.
10 -
ليس التّفوق المادي في الدنيا دليلا على صلاح أصحابه، إذ لا قيمة للدنيا وثرواتها في ميزان الله، ولولا كراهة أن يكفر الناس جميعا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطاهم الله ما وصف من زخارف الدنيا، لهوانها عند الله عز وجل. والخلاصة: ردّ الله تعالى على اقتراح العرب كون الرّسالة لأحد رجلين بوجوه ثلاثة: أولها-قوله على سبيل الإنكار: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} أي النّبوة فيضعوها حيث شاؤوا، وثانيها-قوله:{وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ} لأن الدنيا فانية، ودين الله باق لا يزول. وثالثها-قوله:
{وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً} كما تقدّم تفسيرها
(1)
.
11 -
استدلّ ابن العربي بقوله تعالى: {لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} ، على أن السّقف لصاحب السّفل، ولا حقّ فيه لصاحب العلو، لأن الله تعالى جعل السّقوف للبيوت، كما جعل الأبواب لها، وهذا مذهب مالك رحمه الله تعالى.
أما السّفل فاختلفوا فيه، فمنهم من قال: هو له، ومنهم من قال: ليس له في باطن الأرض شيء، والرّاجح ما
بيّنه حديث الإسرائيلي الصحيح: أنّ رجلا باع من رجل دارا، فبناها فوجد فيها جرّة من ذهب، فجاء بها إلى البائع، فقال: إنما اشتريت الدّار دون الجرّة، وقال البائع: إنما بعت الدّار بما فيها، وكلاهما تدافعها، فقضى بينهم النّبي صلى الله عليه وسلم أن يزوّج أحدهما ولده من بنت الآخر، ويكون المال بينهما.
قال ابن العربي وتبعه القرطبي: والصّحيح أن العلو والسّفل له، إلا أن
(1)
غرائب القرآن للنّيسابوري: 49/ 25.
يخرج عنهما بالبيع، فإذا باع أحدهما أحد الموضعين، فله منه ما ينتفع به، وباقية للمبتاع منه
(1)
.
ثم استطرد القرطبي في بيان بعض أحكام العلو والسّفل، نجتزئ منها ما يلي
(2)
:
أ-ليس لصاحب السّفل أن يهدم إلا لضرورة، ويكون هدمه أرفق لصاحب العلو، لئلا ينهدم بانهدامه العلو.
ب-وليس لربّ العلو أن يبني على علوه شيئا لم يكن قبل ذلك إلا الشيء الخفيف الذي لا يضرّ بصاحب السّفل.
ج -ولو انكسرت خشبة من سقف العلو أدخل مكانها خشبة ليست أثقل منها، منعا من ضرر صاحب السّفل.
د-وباب الدار على صاحب السّفل.
هـ -ولو انهدم السّفل أجبر صاحبه على بنائه، وليس على صاحب العلو أن يبني السّفل، فإن أبى صاحب السّفل من البناء قيل له: بع ممن يبني.
و-إن إصلاح السّفل على صاحبه.
ز-ليس لصاحب السّفل أن يحدث ما يضرّ بصاحب العلو، فإن أحدث عليه ضررا لزمه إصلاحه دون صاحب السّفل، ولصاحب العلو منعه من الضّرر، لحديث السفينة الذي أخرجه البخاري والترمذي وغيرهما عن النعمان بن بشير:
«مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا-اقترعوا-على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا
(1)
أحكام القرآن: 1670/ 4، تفسير القرطبي: 85/ 16 - 86
(2)
تفسير القرطبي: 86/ 16.