الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
{مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} أي من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الآخرة، نقويه ونغنيه، ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، إلى ما شاء الله.
{وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} أي ومن كان سعيه للحصول على شيء من شؤون الدنيا، وطلب لذائذها وطيباتها، وإهمال شؤون الآخرة، نعطه ما قضت به مشيئتنا، وقسمناه له في قضائنا، ولكن ليس له في الآخرة حظ، لأنه لم يعمل للآخرة، فلا نصيب له فيها.
وهذه الآية بإطلاقها مقيدة بآية الإسراء: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ، وَسَعى لَها سَعْيَها، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء 18/ 17 - 19].
أخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه وغيرهما عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بشّر هذه الأمة بالسّناء والرفعة، والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب» .
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ)} الآية، ثم قال: يقول الله:
ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسدّ فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا، ولم أسدّ فقرك».
ولما ذكر تعالى ما شرع للناس، وهو {ما وَصّى بِهِ نُوحاً} الآية، أخذ ينكر ما شرع غيره وهو سبب ضلال المشركين، فقال:
{أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ} أي بل إن المشركين لهم أعوان من الشياطين شرعوا ما لم يشرعه الله، فلم يتبعوا ما شرع الله لك يا محمد من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، كتحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار ونحو ذلك من الضلالات والجهالات الباطلة التي اخترعوها في الجاهلية، من التحليل والتحريم والعبادات والأموال. فالشركاء: هم شياطين الجن والإنس، وضمير {شَرَعُوا} عائد على الشركاء، وضمير {لَهُمْ} عائد على الكفار المعاصرين للرسول.
ثبت في الصحيح لدى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت عمرو بن لحيّ بن قمعة يجرّ قصبه-أي أمعاءه-في النار» لأنه أول من سيب السوائب، وسنّ للعرب عبادة الأصنام، وكان أحد ملوك خزاعة، لذا قال تعالى:
{وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي ولولا الحكم والقضاء السابق من الله تعالى بتأخير العذاب في هذه الأمة إلى يوم القيامة، لقضي بين المؤمنين والمشركين، وعجلت العقوبة في الدنيا لأئمة الشرك، وإن للظالمين العذاب المؤلم الشديد الموجع في جهنم، وبئس المصير.
وتأخير العذاب بموجب قوله تعالى: {بَلِ السّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ} [القمر 46/ 54].
ثم ذكر تعالى أحوال الجزاء الأخروي لكل من الظالمين والمؤمنين، فقال:
{تَرَى الظّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا كَسَبُوا، وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ} أي ترى رأي العين أو تبصر الكفار (لمقابلته بالمؤمنين) خائفين وجلين يوم القيامة مما عملوا من
السيئات في الدنيا، وجزاء ما كسبوا واقع بهم نازل عليهم لا محالة، سواء خافوا أو لم يخافوا.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنّاتِ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} أي والذين صدقوا بالله ورسوله، وأطاعوا ربهم فيما أمر به ونهى عنه، هم في رياضى الجنة وأطيبها وأنزهها، ولهم ما يشتهون عند ربهم من أصناف النعم وأنواع الملذات، ذلك الجزاء الممنوح لهم الذي لا يوصف ولا تعرف حقيقته هو الفضل الذي يفوق كل فضل في الدنيا، وهو النعمة التامة الشاملة. وقوله:{عِنْدَ رَبِّهِمْ} العندية عندية المكانة والتشريف، لا عندية المكان.
ثم أخبر تعالى عن حتمية وقوع هذا الجزاء، فقال:
{ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} أي إن هذا الجزاء في روضات الجنات والنعيم الشامل حاصل لهم، كائن لا محالة ببشارة الله تعالى لهم به، وتلك البشارة لهؤلاء الجامعين بين الإيمان والعمل بما أمر الله به، وترك ما نهى عنه. فقوله {ذلِكَ} إشارة إلى ما أعد لهم من الكرامة.
ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يظهر ترفعه وسموه عن أعراض الدنيا ومنافعها، فقال:
{قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} أي قل أيها الرسول لقومك: لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلا ولا مكافأة ولا نفعا ماديا، ولكن أطلب تقدير صلة الرحم والقرابة التي بيني وبينكم، وإكرام آل بيتي وقرابتي، فتكفّوا شركم عني، وتذروني أبلّغ رسالات ربي. فقوله:{إِلاَّ الْمَوَدَّةَ} استثناء منقطع، لأن المودة ليست أجرا.
أخرج أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة بيني وبينكم» والحق العمل في هذا
برواية البخاري «إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة» .
وأخرج الإمام أحمد عن ابن عباس أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرا إلا أن توادوا الله تعالى، وأن تقرّبوا إليه بطاعته» . وهذا قول للحسن البصري، وهو تفسير ثان للمودة في القربى، أي إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى. والظاهر لدى جماعة هو التفسير الأول، وأن مودة قرابته داخلة في الآية، والتقدير: إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها، قال أبو حيان: وهو حسن، وفيه تكثير.
قال عكرمة: وكانت قريش تصل أرحامها، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قطعته،
فقال: «صلوني كما كنتم تفعلون» .
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بغدير خم: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، وإنهما لم يفترقا حتى يردا على الحوض» وفسرت العترة
في رواية الترمذي عن جابر فقال صلى الله عليه وسلم: «عترتي أهل بيتي» .
ثم رغّبهم الله تعالى في الإحسان والإيمان، فقال:
{وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً، نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} أي ومن يعمل حسنة، نزد له فيها حسنا، أي أجرا وثوابا، إن الله يغفر الكثير من السيئات، ويكثّر القليل من الحسنات، ويضاعف ويشكر المحسن. ونحو الآية قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء 40/ 4].
ثم وبخهم على افترائهم على الرسول، فقال:
{أَمْ يَقُولُونَ: اِفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً} أي بل أيقولون: افترى محمد على الله كذبا بدعوى النبوة ونزول القرآن عليه، وهذا أقبح من الشرك الذي جعلوه شرعا لهم، أي أنه تعالى أضرب عن الكلام المتقدم من غير إبطال، ثم استفهم استفهام إنكار وتوبيخ على هذه المقالة، فمثله لا ينسب إليه الكذب على الله، مع اعترافكم له قبل ذلك بالصدق والأمانة.
ثم أكد ذلك فرد الله عليهم مستبعدا الافتراء من مثل محمد الرسول، فقال:
{فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ، وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} أي لو افتريت على الله كذبا، لطبع على قلبك إن شاء، وسلبك ما آتاك من القرآن، فلا يجرأ على مثل هذا إلا من كان مثلهم قد ختم الله على قلوبهم وعلى أسماعهم وعلى أبصارهم، فأما من كان ذا بصيرة ومعرفة فلا يجرأ على ذلك، وهذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يفتر على الله كذبا، فأيده الله.
وهذا كقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} [الحاقة 44/ 69 - 47].
وقال أبو السعود: والآية استشهاد على بطلان ما قالوا ببيان أنه صلى الله عليه وسلم لو افترى على الله تعالى لمنعه من ذلك قطعا، بالختم على قلبه بحيث لا يخطر بباله معنى من معانيه، ولم ينطق بحرف من حروفه
(1)
.
ثم أكد الله تعالى ذلك بإبطال الباطل وإحقاق الحق، فالله سبحانه وتعالى لا يدع الباطل يستمر، فلو كان ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم باطلا لمحاه، كما جرت به عادته في المفترين، وإنما يثبّت الحق، أي الإسلام، فيبينه بما أنزل من القرآن،
(1)
تفسير أبي السعود: 34/ 5.
وبما أيّد به نبيه من المعجزات والحجج والبراهين، إنه تعالى واسع العلم بما في قلوب العباد.
ثم فتح تعالى أمامهم باب الأمل والتوبة، فقال:
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ} أي إن الله عز وجل يقبل في المستقبل من عباده المذنبين توبتهم عما عملوا من المعاصي، ويعفو عن السيئات في الماضي، ويعلم الذي تفعلونه من خير أو شر، فيجازي كلا بما يستحق من الثواب والعقاب.
ونحو الآية: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ، يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء 110/ 4]
وثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله تعالى أشدّ فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كانت راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك، إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك-أخطأ من شدة الفرح» .
وأكد قبول التوبة بقبول الدعاء، فقال تعالى:
{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي ويستجيب الله للذين آمنوا، وأطاعوا ربهم، ويعطيهم ما طلبوه منه، ويزيدهم على ما طلبوه منه، أو على ما يستحقونه من الثواب، تفضلا منه ونعمة.
أو يجيب الله الذين آمنوا إذا دعوه، أو يجيب الذين آمنوا لربهم، مثل {اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال 24/ 8] فيكون المراد بقوله: