الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{فِيها} في ليلة القدر. {يُفْرَقُ} يفصّل ويبيّن. {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} محكم لا لبس فيه، من الأمور المحكمة التّشريعية، والأرزاق والآجال وغيرها على مدار السّنة إلى تلك الليلة.
{أَمْراً مِنْ عِنْدِنا} أي أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا على مقتضى حكمتنا، وهو مزيد تفخيم للأمر. {مُرْسِلِينَ} الرّسل: محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله عليهم السلام. {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} رأفة بالمرسل إليهم. {السَّمِيعُ} لأقوالهم. {الْعَلِيمُ} بأفعالهم وأحوالهم، وهو وما بعده بيان أنّ الرّبوبية لا تحقّ إلا لمن هذه صفاته، مما ينفي ربوبية غيره. {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} أي إن كنتم من أهل الإيقان في العلوم وفي أنه تعالى ربّ السموات والأرض، أو كنتم تطلبون اليقين وتريدونه.
{لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} إذ لا خالق سواه. {يُحْيِي وَيُمِيتُ} كما تشاهدون. {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ} من البعث، وهو ردّ لكونهم موقنين. {يَلْعَبُونَ} يعبثون استهزاء بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، لذلك قال:
اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف».
التفسير والبيان:
{حم، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ، إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ} أقسم الله سبحانه بالقرآن العظيم الذي هو الكتاب الموضّح لكلّ ما يحتاجه الإنسان من أمور الدّين والدّنيا، على أنه أنزل القرآن في ليلة كثيرة الخيرات التي هي ليلة القدر، كما جاء مبيّنا في آية أخرى:{إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر 1/ 97]، من ليالي شهر رمضان الذي نزل فيه القرآن، كما قال تعالى:
{شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ} [البقرة 185/ 2]، أي أنه بدئ بإنزاله في ليلة القدر من ليالي رمضان، واستمرّ نزوله منجّما ثلاثا وعشرين سنة، أو أنزل القرآن كلّه في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدّنيا.
إنّا كنّا بهذا القرآن منذرين الناس من العذاب الأليم في الآخرة إذا اقترفوا الشّرك والمعاصي، ومعلّمين النّاس ما ينفعهم ويضرّهم شرعا لتقوم حجّة الله على عباده.
قال ابن كثير: ومن قال: إنها ليلة النّصف من شعبان-كما روي عن عكرمة-فقد أبعد النّجعة-أي الطلب-فإن نصّ القرآن أنها في رمضان
(1)
وقال القرطبي بعد حكاية قول عكرمة: إنها ليلة النّصف من شعبان: والأول -أي الرأي القائل بأنها ليلة القدر-أصح، لقوله تعالى:{إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}
(2)
.
وسبب بدء نزوله في ليلة القدر ما قال تعالى:
{فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أي في ليلة القدر يفصّل ويبيّن الأمر المحكم، فيكتب فيها ما يكون في السّنة من الآجال والأرزاق، من خير وشرّ، وحياة وموت، وغير ذلك، أو ما يكون من أمور محكمة لا تبديل فيها ولا تغيير، بتشريع الأحكام الصالحة لهداية البشر في الدنيا، والسعادة في الآخرة، فالحكيم:
معناه ذو الحكمة. وإنما أنزل القرآن في هذه الليلة خصوصا، لأن إنزال القرآن أشرف الأمور الحكمية، وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر ذي حكمة.
والغاية من إنزال القرآن ما قال سبحانه:
{أَمْراً مِنْ عِنْدِنا، إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي أنزل الله القرآن من لدنه متضمنا وحيه وشرعه، وقد فعلنا ذلك الإنذار، وأرسلنا الرسول وجميع الأنبياء إلى الناس لتلاوة آيات الله البيّنات، رحمة ورأفة منا بهم، لبيان ما ينفعهم وما يضرّهم، ولئلا يكون للناس حجّة بعد إرسال الرّسل، فرسالة الرّسل هي الرّحمة المهداة الدّائمة إلى البشر، وتتمثل الآن بالثّابت القطعي النّزول منها، وهو القرآن ورسالة النّبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو حيان في تفسير {إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ} . لما ذكر إنزال القرآن ذكر المرسل، أي مرسلين
(1)
تفسير ابن كثير: 137/ 4
(2)
تفسير القرطبي: 126/ 16
الأنبياء بالكتب للعباد، فالجملة المؤكّدة مستأنفة، وقيل: يجوز أن يكون بدلا من: {إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ}
(1)
.
وإنما فعل الله ذلك، لأنه السّميع لأقوال البشر، العليم بأحوالهم وبما يصلحهم، فأرسل الرّحمة إليهم رعاية لحاجتهم.
والدّليل على السّمع والعلم وإنزال القرآن ما قاله تعالى:
{رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} أي إن الله السّميع العليم الذي أنزل القرآن هو ربّ السموات والأرض وما بينهما من سائر المخلوقات، وخالقها ومالكها وما فيها، إن كنتم تريدون معرفة ذلك عن يقين تام لا شكّ فيه، قال أبو مسلم: معنى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه، فاعرفوا أن الأمر كما قلنا.
ثم ذكر الله تعالى صفات أخرى هي الوحدانية والقدرة فقال:
{لا إِلهَ إِلاّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ، رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} أي بعد إثبات الرّبوبية لله أثبت الوحدانية، فهو الإله الواحد الذي لا إله غيره، وأثبت القدرة فهو المحيي والمميت، يحيي ما يشاء، ويميت ما يشاء، ثم أكّد الرّبوبية على البشر بالذّات، فهو ربّكم أيها المخاطبون وربّ آبائكم وأجدادكم الأولين، ومدبّر شؤونهم، فهو المستحق للعبادة، دون غيره من الآلهة المزعومة، ثم ذكر حقيقة المشركين، فقال:
{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} أي بل هؤلاء المشركون في شكّ من أمر البعث والتّوحيد والإقرار الذي صدر منهم بأن الله هو خالقهم، وهم في الواقع عابثون لا هون لاعبون، لا جدّية عندهم في الاعتقاد الصحيح، والسّلوك المطابق له.
(1)
البحر المحيط: 33/ 8.