الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِرْعَوْنَ} إما على حذف مضاف، أي عذاب فرعون أو حال من العذاب كما تقدم. {عالِياً} متكبرا جبارا. {مِنَ الْمُسْرِفِينَ} المتجاوزين الحد في الشر والفساد، وهو خبر ثان أي كان متكبرا مسرفا، أو حال من ضمير {عالِياً} أي كان رفيع الطبقة من بينهم.
{اِخْتَرْناهُمْ} اخترنا بني إسرائيل واصطفيناهم. {عَلى عِلْمٍ} منا بحالهم أي عالمين باستحقاقهم ذلك. {عَلَى الْعالَمِينَ} اخترناهم على عالمي زمانهم. {الْآياتِ} المعجزات، كفلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى. {ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ} اختبار ظاهر.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى إصرار مشركي مكة على كفرهم، بيّن أن كثيرا من المتقدمين كانوا أمثالهم في تكذيب الرسل، وفي طليعتهم قوم فرعون، الذين كذبوا رسولهم موسى عليه السلام، فنصره الله عليهم، وأغرقهم، وجعلهم عبرة للمعتبر.
التفسير والبيان:
{وَلَقَدْ فَتَنّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} أي لقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون، وهم قبط مصر، أرسل الله إليهم رسولا كريما جامعا لخصال الخير والأفعال المحمودة، وهو موسى عليه السلام، وهو كريم على الله، وكريم في قومه.
{أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي وجاءهم رسول بأن أرسلوا معي عباد الله وهم بنو إسرائيل، وأطلقوهم من العذاب، فإني رسول من الله مؤتمن على الرسالة غير متهم، وهذا كقوله عز وجل:{فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ، وَلا تُعَذِّبْهُمْ، قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ، وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى} [طه 47/ 20].
ويجوز أيضا أن يكون قوله: {عِبادَ اللهِ} نداء لهم، والتقدير: أدوا إلي يا عباد الله ما هو واجب عليكم من الإيمان، وقبول دعوتي، واتباع سبيلي. وعلل
ذلك بأنه {رَسُولٌ أَمِينٌ} قد ائتمنه الله على وحيه ورسالته، وهذا هو الظاهر المناسب لأصول دعوة الرسول قومه وللكلام الآتي بعده، أما إطلاق بني إسرائيل فهو مطلب فرعي ثانوي بالنسبة لأصل الدعوة.
{وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ، إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} أي لا تتجبروا ولا تتكبروا عن اتباع آيات الله، والانقياد لبراهينه، ولا تترفعوا عن طاعته ومتابعة رسله، كقوله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي، سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} [غافر 60/ 40] إني آتيكم بحجة ظاهرة واضحة لا سبيل إلى إنكارها، وهي ما أرسله الله تعالى به من الآيات البينات والمعجزات القاطعات كالعصا واليد وسائر الآيات التسع، فهددوه بالرجم كما قال تعالى:
{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} أي أستعيذ بالله وألتجئ إليه وأتوكل عليه مما تتوعدوني به من القتل بالحجارة أو الإيذاء والشتم.
{وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} أي وإن لم تصدّقوني وتقرّوا بنبوتي وبما جئتكم به من عند الله، فاتركوني، ولا تتعرضوا لي بأذى إلى أن يحكم الله بيننا.
فلما يئس من إيمانهم، ولمس إصرارهم على الكفر وعنادهم، دعا عليهم فقال:
{فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} أي فدعا موسى ربه حين كذبوه وهمّوا بقتله بأن هؤلاء قوم مكذبون رسلك مشركون بك، كما جاء في آية أخرى:
[يونس 88/ 10 - 89].
وحينئذ أمره الله تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر سرا ليلا:
{فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً، إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} أي أجاب الله سبحانه دعاءه، فأمره أن يسير بقومه بني إسرائيل ليلا، لأن فرعون وقومه يتبعونكم إذا علموا بخروجكم. وهذا كقوله تعالى:{وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً، لا تَخافُ دَرَكاً، وَلا تَخْشى} [طه 77/ 20].
{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً، إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} أي دع يا موسى البحر ساكنا منفرجا مفتوحا، لا تضربه بعصاك حتى يعود كما كان، ليدخله فرعون وجنوده، فإنهم قوم مغرقون في اليم. وهذه بشارة من الله بنجاتهم وإهلاك عدوهم ليسكن قلب موسى عليه السلام، ويطمئن جأشه.
ثم ذكر تعالى ما خلّفوه وراءهم من عز ومجد ونعيم وثراء، فقال:
{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ} أي كثيرا ما تركوا في مصر وراءهم من بساتين خضراء، وحدائق غناء، وأنهار متدفقة وآبار مترعة بالماء، وزروع نضرة، ومنازل ومجالس حسنة وثيرة، وتنعم بالمال والخير الوفير، كانوا يرفلون بالنعمة ويتنعمون بعيشة هنية، ويستمتعون بأنواع اللذة، كما يتمتع الرجل بأنواع الفاكهة، فيأكلون ويلبسون ما شاؤوا.
{كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ} أي مثل ذلك الإهلاك والسلب والتدمير فعلنا بالذين كذبوا رسلنا، ونفعل بكل من عصانا، وأورثنا تلك البلاد بني إسرائيل الذين كانوا مستضعفين في الأرض، كما قال تعالى:{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا، وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَما كانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف 137/ 7].
ثم تهكم الله بهم وأبدى عدم الاكتراث بشأنهم قائلا:
{فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ} أي لا أسف ولا حزن عليهم من أحد بسبب بغيهم وفسادهم، بل عوجلوا بالعقوبة لفرط كفرهم وشدة عنادهم، ولم يمهلوا لتوبة، لأنها غير منتظرة منهم.
ثم أتبع الله تعالى ما يقابل النقمة بالنعمة للعبرة، فقال:
{وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ، مِنْ فِرْعَوْنَ، إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ} أي لقد خلصنا شعب بني إسرائيل بإهلاك عدوهم مما كانوا فيه من الاستعباد وقتل الأبناء واستحياء النساء وتكليفهم بالأعمال الشاقة، من عذاب فرعون الذي كان متعاليا عنيدا، متكبرا متجبرا، ومن المسرفين في الكفر بالله، وارتكاب معاصيه، ورأس الكفر: ادعاؤه الألوهية والربوبية بقوله: أنا ربكم الأعلى.
وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً، يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ، يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ، إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص 4/ 28] وقوله سبحانه: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ} [المؤمنون 46/ 23].
ويلاحظ أن بيان الإحسان إلى موسى وقومه كان بعد بيان كيفية إهلاك فرعون وقومه، لأن دفع الضرر مقدم على جلب المصالح والمنافع.
ثم بيّن الله تعالى مدى تكريمه لبني إسرائيل حين ذاك قائلا:
{وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ، وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ} أي لقد اختارهم الله على عالمي زمانهم على علم منه باستحقاقهم لذلك، لكثرة الأنبياء فيهم، ولصبرهم مع موسى، وجهادهم في سبيل الله، فلما بدلوا الإيمان بالكفر، والصلاح بالفساد غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير.