الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ} أي بل أظن هؤلاء الذين اقترفوا الإثم والشرك والمعاصي في الدنيا، فكفروا بالله ورسله، وعبدوا غيره، أن نجعلهم كالذين صدقوا بالله ورسله، وعملوا الأعمال الصالحة من إقامة الفرائض واجتناب المحارم، بأن نسوّي بينهم في الجزاء والثواب والرحمة في دار الدنيا والآخرة، كلا لا يستوون، فإن حال أهل السعادة في الآخرة غير حال أهل الشقاوة، لقد ساء ما ظنوا، وبئس ما حكموا أن نسوي بين الأبرار الطائعين وبين الفجار العاصين في الدنيا والآخرة. والمعنى: إنكار أن يستوي الفريقان حياة وموتا، لأن المحسنين عاشوا على الطاعة، وإنهم عاشوا على المعصية، ومات أولئك على البشرى والرحمة ومات هؤلاء على الضدّ. وقيل: معناه إنكار أن يستويا في الممات، كما استووا في الحياة من حيث الصحة والرزق، بل قد يكون أحسن حالا من المؤمن، فالفرق المقتضي لسعادة المؤمن وشقاوة الكافر إنما يظهر بعد الوفاة.
ونظير الآية قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ} [الحشر 20/ 59] وقوله سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم 35/ 68 - 36] وقوله عز وجل: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ} [ص 28/ 38].
وهذا دليل واضح أيضا على التفرقة في مصير المؤمن الطائع والمؤمن العاصي.
أخرج الطبراني عن مسروق أن تميما الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ} .
وبعد بيان التفاوت بين المؤمن والكافر في الآخرة والدنيا، أقام الدليل على صحة هذا المبدأ وحكمته، فقال تعالى:
1 -
{وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي أوجد الله وأبدع السموات والأرض بالحق المقتضي للعدل بين العباد، فلو لم يوجد البعث والحساب والجزاء، لما كان ذلك الخلق بالحق بل كان بالباطل، ومن العدل: اختلاف الجزاء بين المحسن والمسيء 2 - {وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي خلق الله السموات والأرض بالحق، ليدل بهما على قدرته، ولكي تجزي كل نفس بما قدمت من عمل صالح أو سيء، وهم أي المخلوقون لا يظلمون بنقص ثواب أو زيادة عقاب، فلو ترك الظالم الذي ظلم غيره في الدنيا، ولم يقتص منه في الآخرة، لما كان خلق السموات والأرض بالحق.
فيكون قوله {وَلِتُجْزى} معطوفا على قوله: {بِالْحَقِّ} والتقدير:
وخلق الله السموات والأرض لأجل إظهار الحق، ولتجزي كل نفس، والمعنى أن المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل والرحمة، وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث والقيامة، وحصل التفاوت في الجزاء والدرجات والدركات بين المحقين وبين المبطلين.
ثم أبان الله تعالى أحوال الكفار وقبائحهم وسوء جناياتهم، فقال:
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ، وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ، وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ؟ أي أخبرني عن حال ذلك الكافر الذي أطاع هواه، وترك الهدى، واتخذ دينه ما يهواه، فكأنه جعل الهوى إلهه يعبده من دون الله، فلا يهوى شيئا إلا تبعه، دون مراعاة لما يحبه الله ويرضاه، فهذا مما يدعو إلى العجب، وكان الحارث بن قيس لا يهوى