الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
برد حلب
يشتد برد حلب من تاسع كانون الأول ويمتد إلى ثامن يوم من آذار وعند ذلك يأخذ باضمحلال ويعتدل الوقت. وفي الكانونين تهب ريح الشمال وينجرد الشجر وكثيرا ما يجمد الماء وتصول الضواري في الصحاري وتختفي الهوامّ وتكثر الأمطار ويقع الصقيع ويهبط الزئبق في الظل الشمالي عن الصفر نحو خمس درجات، وربما هبط في بعض السنين إلى ما هو أدنى من ذلك ففي سنة 1329 هجرية المصادفة 1326 رومية هبط الزئبق في شهر كانون الثاني إلى الدرجة السابعة والعشرين تحت الصفر مستمرا ذلك نحو ثلاثين يوما، الأمر الذي لم يسمع وقوع نظيره في حلب، كما نوّهنا عن ذلك في حوادث السنة المذكورة.
على أن البرد في بقية السنين مهما كان عظيما فإنه لا يزيد فيه هبوط الزئبق إلى ما دون الدرجة العاشرة تحت الصفر، وهو إذا بلغ هذه الغاية أو ما قاربها يتألم منه النحفاء والشيوخ ألما زائدا وينشأ عنه أمراض صدرية وعلل ريحية ومفاصلية، وتعظم نكايته في الأطفال، ويكثر فيه النقف والقمطلس «1» والزكام والحادر حتى يكاد لا ينجو من ذلك أحد، وأضرّ ما يكون في الشتاء خلواته الحارّة التي يجتمع فيها الناس للسهر والسمر، فيوقدون ضمنها النار حتى تصير كأنها بيت من بيوت الحمام ثم يتنازلون الماء البارد الذي قارب الانجماد أو يخرجون إلى الهواء وقد انفتحت مسامهم، واستعدّت لقبول البرد أجسامهم.
تحول العوارض الجوية في حلب
ذكر صاحب طبقات الأطباء في ترجمة الطبيب الشهير المختار بن الحسن عبدون المعروف بابن بطلان، المتوفى سنة 458. أنه كان يعتقد أن العوارض الجوية في أصقاع حلب كانت باردة ثم تحولت إلى حرارة، مستدلا على صحة دعواه هذه بما حكاه له أشياخ أهل حلب من أن شجرة الأترجّ ما كانت تنبت في حلب لشدة بردها وأن الدور القديمة في حلب لم تكن تستطاع السكنى في طبقتها السفلى. وأن الباذهنجات (ملاقف الهواء) حدثت في حلب منذ زمان قريب حتى إنه لا دار إلا وفيها باذهنج بعد عدم وجودها مطلقا.
أقول: إننا بحثنا في هذه المسألة بحثا دقيقا فظهر لنا فيها عكس ما ادعاه المختار أي أن العوارض الجوية في أصقاع حلب كانت حارة ثم أخذت تتحول إلى البرد. ومن ثمة اضطررنا أن ننتقد أدلة المختار التي نقلها في هذه المسألة عن أشياخ أهل حلب، فنقول إن عدم نبت شجر الأترجّ في حلب في هاتيك الأيام لا لشدة برد حلب بل لأن هذه الفصيلة من الشجر كانت قبل سنة 300 غير موجودة ولا معروفة في حلب وجميع بلاد سوريا والعراق ومصر وغيرها من الممالك الكائنة في المناطق المعتدلة. قال المسعودي في كتابه مروج الذهب ما خلاصته: إن هذه الشجرة يعني شجرة الأترجّ لم تكن موجودة في البلاد قبل الثلاثمائة، وإنما حملت من أرض الهند إلى غيرها بعد هذا التاريخ، فزرعت في عمان، ثم نقلت إلى البصرة والعراق والشام، حتى كثرت في دور الناس في طرسوس وغيرها من الثغور الشامية وأنطاكية وسواحل الشام وفلسطين ومصر، وما كانت تعهد ولا تعرف إلخ. وهناك دليل آخر على أن عدم نبت هذه الشجرة في ذلك التاريخ لعدم وجودها لا لشدة البرد، هو أنه كان يوجد في حلب شجر النخيل الذي هو أقل تحملا للبرد من شجر الأترج، كما يأتي بيانه قريبا. وأما عدم استطاعة السكنى في الطبقة السفلى من بيوت حلب فهو دليل قد يؤيد عكس المدعي به إذ البلاد الباردة كالأناضول، يفضل أهلها السكنى في أيام الشتاء في الطبقة السفلى على العليا، لأنها أقل تعرضا للبرد من العليا. نعم قد يكون عدم استطاعة سكنى أهل حلب في الطبقة السفلى لكثرة رطوبات البلدة في ذلك التاريخ، لعدم انتظام مجاري قاذوراتها وامتلاء خنادقها من المياه تحصينا لها مع ضيق أزقتها وكثرة أهلها المحصورين داخل سورها الذي كان يقدر بنحو النصف من مساحته الآن. ولهذا كانت الأوبئة والطواعين لا تكاد تفارق حلب. وأما عدم وجود الباذهنجات «1» فيها أولا ثم وجودها أخيرا فإن المفهوم من هذا أن البرد بينما كان في مدينة حلب شديدا، إذ تحول بغتة إلى الحرّ، ومسّت الحاجة إلى عمل الباذهنجات، وهذا مما لا يتصوره عاقل إذ أن سير التحول الجوي بطيء جدا لا يدرك حصوله بأقل من ألف سنة وأكثر، فالأولى أن يحمل تسرّع أهل حلب إلى عمل الباذهنجات على التفنن وتحسين المباني والاقتداء ببغداد عاصمة الممالك الإسلامية في الشرق بعمل الباذهنجات تلطيفا للجوّ، وتخفيفا للرطوبات.