الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نهر الذهب
أما كتاب «نهر الذهب في تاريخ حلب» الذي ألّفه الشيخ كامل الغزي «1» ، فقد طبع منه في حياته ثلاثة أجزاء بين سنتي 1922- 1926 م ثم نفدت هذه الطبعة حتى أصبحت نادرة جدا، ندرة المخطوطات، وطال انتظار الناس لطبعة ثانية تيسّر تداوله بين أيديهم وإفادتهم منه.
قسم الغزي كتابه هذا إلى مقدمة ضخمة، وأربعة أبواب كبيرة، وزعها على أجزاء الكتاب.
1-
فالجزء الأول: يشتمل على المقدمة وحدها، كما فعل ابن خلدون في (مقدمة) تاريخه الكبير. وتكلم الغزي فيها على عدة أمور لا يتمكن القارئ دونها من الوقوف على ما انطوى عليه المكان الذي يؤرّخ له، ومن حقائق وأوصاف وأحوال. ومن ثم فإنه ذكر بعض من ألّف في تاريخ حلب، ثم انتقل إلى الكلام على أسماء حلب وجغرافيتها بالتفصيل، وما مدحت به من الشعر والنثر، وتحدث عن الأوزان والمقاييس المستعملة فيها، وعن صناعاتها ونباتاتها وحيواناتها وتجاراتها ومدارسها، وما يقوم على أرضها من مختلف الملل والنحل، والعادات والتقاليد، والنظم الإدارية والمالية، وما يتبع (حلب) من الأقضية والنواحي والألوية.
2-
والجزء الثاني: يشتمل على الباب الأول برمّته. وقد خصّصه للكلام على أحياء حلب ومعالمها التاريخية وأوابدها الأثرية، بعد أن بدأه بالكلام على أسوار المدينة وأبوابها وقلعتها. وهو يسجل كل ما وقعت عليه عيناه من تراث معماري وعمراني وآثاري في مدينة حلب. ولا يفوته أن يتحدث عن الأوقاف التي كان ينفق منها على الجوامع والمساجد، والتكايا والمدارس، وكذلك نفقات الفرش والترميم والبناء. وقد استفاد في كل ذلك من عمله الذي كان يزاوله في المحكمة الشرعية بحلب، والذي سهّل له الرجوع إلى سجلات تلك المحكمة، وكلها مخطوطة قد حوت الكثير من المعلومات القيّمة المفيدة.
ولا شك أن الأحوال قد تغيّرت اليوم عما كانت عليه في عصر الغزي قبل سبعين سنة تقريبا، حيث اتّسع البناء في حلب وما زال يتسع، وأقيمت أحياء سكنية جديدة كحيّ السبيل، والمحافظة، والشهباء، وحلب الجديدة، والحمدانية، وصلاح الدين.. إلخ. وهذا ما سبب تغييرا جذريا في طبقات الناس، وأعدادهم، وفي بعض عاداتهم وتقاليدهم، حتى أصبح الأمر يحتاج إلى كتاب آخر يكون ذيلا لنهر الذهب.
3-
والجزء الثالث: يشتمل على الباب الثاني من أبواب الكتاب، وفيه يتقصى تاريخ حلب منذ أقدم العصور حتى عصر المؤلف في الربع الأول من القرن العشرين. ويدخل في ذلك ذكر الأمم التي سكنت حلب والدول التي حكمتها، وكذلك فتح المدينة في صدر الإسلام والحوادث التي طرأت عليها بعد ذلك وما أصابها من زلازل وكوارث.. نتيجة لتنقل الدول وتبدل الحكام، وتعاقب الحروب والأوبئة، والفتن والمجاعات. وقد سار في ذلك كله على ترتيب السنين الهجرية، سنة سنة، حتى عصره، حين حلّ الانتداب الفرنسي في سورية، ويفصل في الكلام على أحوال حلب في ظلّ هذا الانتداب.
ويختم هذا الجزء بخلاصة مركزه عدّد فيها الأماكن القديمة التي يقصدها السيّاح في مدينة حلب وضواحيها، وكذلك الأماكن التي هي مظنّة لوجود العاديات والذخائر النفيسة.
وبذلك ينتهي الجزء الثالث، حيث قال في آخره ما نصّه:
لكن هذا الجزء لم يطبع حتى اليوم، ولا ندري أكان معدّا للطباعة في حياة المؤلف نفسه، أم إنه كان ينوي تأليفه بعد أن ينتهي من طبع الأجزاء الثلاثة؟ لكن الدلائل تشير إلى أن مسوّدته- على الأقل- كانت موجودة ثم انتقلت إلى الورثة، يدل على ذلك العبارة التي ختم بها الجزء الثالث، من جهة، وما في الأجزاء الثلاثة من بعض الإحالات- في تراجم الرجال- على الجزء الرابع من جهة أخرى، حتى إن الطباخ يذكر في «إعلام النبلاء» «1» أن كتاب نهر الذهب في أربعة مجلدات، تصفح منها ثلاثة، ونقل منها ترجمتين اثنتين.
ونحن نزيد على ذلك أنه ربما كان في نيّة الغزي أن يؤلف جزءا خامسا يشتمل على الباب الرابع من الكتاب، بحسب تقسيمه هو لأبواب كتابه.
ومهما يكن من أمر فقد بذلت مساع كثيرة للحصول على الجزء الرابع المفقود أو للعثور عليه، ولكن تلك الجهود ذهبت أدراج الرياح، وتبددت الآمال المنشودة.
ولا بد من الإشارة إلى أن الغزي قد اعتمد في تأليف كتابه على مصادر كثيرة، مطبوعة ومخطوطة. في التاريخ والاجتماع، والأدب واللغة، ذكر بعضها في مواضع من كتابه، وأغفل بعضها الآخر. ويعد كتابه «نهر الذهب» - إلى جانب كونه في تاريخ حلب- موسوعة ثقافية واجتماعية وعمرانية تتلاقى فيها صور الماضي الغابر بالحاضر الراهن في زمن الغزي، وكثيرا ما كان يستطرد إلى ذكر موضوعات جانبية مفيدة في أثناء تناوله لبعض الظواهر، كحديثه عن التصوير في الإسلام، وعن قهوة البنّ واكتشاف حبّه أول مرة
…
وقد أنفق الغزي في سبيل جمع كتابه. وتأليفه سنوات طويلة من عمره، فقال في مقدمته:
يقول الدكتور سامي الدهان «1» : «والواقع أن الذي يميز هذا الكتاب من سواه، أن صاحبه أعمل فيه الرويّة والعقل، والنقد والتمحيص، والتثبت والتبويب، أكثر مما يعمل النقل والتقليد والرواية على علاتها، فكان تاريخا على الطريقة الحديثة سبق به زمانه، وكفى المؤلفين بعد زمانه مؤونة التأليف في مثله، فقد نظر في المصادر العربية القديمة، واستطاع أن يعرف ما في المصادر الأجنبية عن سبيل أصدقائه من الفرنجة المقيمين بحلب، أو المسيحيين المطّلعين على
خزائن الغرب في هذا الموضوع. وكان الرجل متسامحا أشد التسامح، يأخذ عن المصادر المختلفة، من أي جهة كانت» .
أما أسلوب المؤلف في كتابه فإنه سهل واضح، وبعيد عن الصنعة والتأنق، وتلك سمات النثر التأليفي الذي يتناول به صاحبه موضوعات اجتماعية وتاريخية وعمرانية وما إليها، وربما وجدنا في الكتاب أحيانا فقرات تبدو عليها مسحة فنية من التأنق، وغلالة رقيقة من الصنعة، وهذا ظاهر في مقدمات أجزاء الكتاب، أو في نصوص وقفية طلب من الغزي إنشاؤها في مناسبات خاصة، فيأتي أسلوبه فيها على طريقة كتاب عصره آنذاك.
وظاهرة أخرى نجدها في كتاب الغزي، تلك أنه يترخّص في بعض التعابير أحيانا، وقد يتساهل في الالتزام بقواعد اللغة والرسم (الإملاء) ولا سيما كتابة الهمزة في وسط الكلمة، وربما تصرّف في بعض النصوص التي ينقلها. عرفنا ذلك من مقابلة تلك النصوص بأصولها القديمة التي لم يكن لها في عصره إلا طبعة وحيدة. وهو تساهل مألوف لدى كثير من المؤلفين، ولا سيما المتأخرين منهم.
والحق أن كتاب «نهر الذهب» ذو قيمة كبيرة، ويتجلّى فيه الجهد الوافر، والعمل الشخصي، والابتكار الظاهر، مع تخير وانتقاء، ونقد وتمحيص، دون أن يكتفي صاحبه بالجمع من المصادر وحدها، ولا غنى عنه لكل باحث أو دارس في تاريخ حلب خاصة، وسورية الشمالية عامة، ولا يغني عنه غيره، على الرغم من كثرة ما ألف عن حلب، كتبه عالم جليل سعى جهده ليكون كتابه شاملا لأحوال حلب في شتى المجالات والعصور، فجاء مرجعا مهما لكل من يريد الإحاطة بتاريخ حلب السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والفكري، وما فيها من الآثار والأوابد، وما طرأ عليها من تطور حتى الربع الأول من القرن العشرين.
ولا شك أن مدينة حلب ومختلف مرافق الحياة فيها قد تبدلت اليوم وتطورت كثيرا عما كانت عليه في زمن الغزي، بعد مرور سبعة عقود من السنين، وهذا كله يقتضي تأليف كتاب آخر ينهض بما استجدّ من ألوان الحياة والعادات والعمران والثقافة والاقتصاد والزراعة وما إلى ذلك. وكان بودنا أن نضيف ذلك في تعليقاتنا على الكتاب، ولكننا وجدنا في ذلك إثقالا وإملالا للقارىء، وتضخيما لحجم الكتاب بما لا مسوّغ له. فاكتفينا بما هو ضروري من تلك
التعليقات «1» - والكتاب خال منها تماما- إذ كانت النية في أول الأمر طبع الكتاب بطريقة التصوير، ثم وجدت «دار القلم العربي» أن إخراج الكتاب بحلة طباعية جديدة، وتحقيق جديد، فيه نفع كبير للقرّاء والباحثين، بدلا من أن تبقى أجزاء الكتاب كما كانت عليه قبل سبعين عاما، وقبل ظهور الطباعة التقنية الحديثة.
وعندئذ كان لا بد من تصحيح ما وقع في الطبعة الأولى من أخطاء مطبعية، وسهو في الالتزام بقواعد الرسم والإملاء، أو وقوع في أغلاط عارضة، فضلا عن القيام بشرح العبارات والألفاظ التي تحتاج إلى ذلك، وتوضيح بعض الجوانب التاريخية والآثارية في المواضع التي تقتضي هذا التوضيح، مع توخي الإيجاز والاختصار. كما عدنا إلى ما استطعنا الوصول إليه من مصادر المؤلف لمقارنة النصوص الشعرية والنثرية التي أوردها، وتدارك ما وقع فيها من تحريف أو خلل أو نقص، وأشرنا في حواشي الكتاب إلى ما هو مهم وضروري، من ذلك، وأغفلنا الإشارة إلى ما هو ثانوي ولا يخفى تصويبه أصلا على القارئ.
ذلك مبلغ الجهد الصادق في خدمة كتاب «نهر الذهب» ، نشرا وطباعة، وتصحيحا وتحقيقا، وضبطا وتعليقا، ونرجو أن نكون عند حسن ظن القراء والباحثين.
والله الهادي إلى الإخلاص في القصد، والسداد في القول.
حلب في: 4 من ذي الحجة 1411 هـ 16 من حزيران 1991 م المحققان الدكتور شوقي شعث الأستاذ محمود فاخوري
كتاب نهر الذّهب في تاريخ حلب تأليف كامل البالي الحلبي الشّهير بالغزّي الجزء الأوّل