الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدلة تحول العوارض الجوية في أصقاع حلب من الحر إلى البرد
الدليل الأول: وجود شجر النخيل في حلب في قديم الأزمان فإن الشاعر الصنوبري المتوفى سنة 334 نظم قصيدة بديعة طويلة مدح بها حلب وذكر منتزهاتها وأزهارها، ثم قال:
أيّ حسن ما حوته
…
حلب أو ما حواها
سروها الداني كما تدنو
…
فتاة من فتاها
آسها الثاني قدود
…
الهيف لمّا أن ثناها
نخلها زيتونها أولا
…
فأرطاها غضاها «1»
فالمفهوم من البيت الأخير أن شجر النخيل من جملة أنواع الشجر التي كانت في مدينة حلب وهو كما قلنا سابقا أقل تحملا للبرد من شجر الأترجّ، على أنه الآن لا أثر له في حلب البتة ولا يمكن أن يعيش في أرضها ولا فيما قرب منها.
الدليل الثاني: استقصينا كثيرا من الدور العظام القديمة في حلب فوجدنا أكثرها قد خلت جهتها المتجهة إلى الجنوب من الغرف والخلوات، وأن أكثر هذه الدور كان يعتني أهلها الأقدمون بجهتها المتجهة إلى الشمال، لأنهم يبنون فيها الأواوين والغرف سفلا وعلوا، فعدم اعتنائهم في الجهة المتجهة إلى الجنوب لم يكن له من سبب في تلك الأزمنة سوى شدة حرارتها بسبب إشراق الشمس عليها. واعتناؤهم بالجهة المتجهة إلى الشمال لم يكن ناشئا إذ ذاك إلا عن اعتدال حالتي الحر والبرد في فصل الشتاء، أما في هذه الأيام، وفيما أدركناه من الأعوام قبلها، فإن الجهة المتجهة إلى الجنوب من الدور في حلب هي التي تبذل العناية في بنائها خلوات وغرفا سفلا وعلوا وهي تعتبر عندنا من أشرف جميع المساكن التي تكون في باقي جهات الدار. وإن الدار التي تخلو جهتها هذه من البيوت والغرف تعد عندنا مشوهة. والمثل المشهور عند الحلبيين الآن قولهم: بيت يسكن صيفا وشتاء، وهو المتجه إلى الجنوب والغرب، وبيت لا يسكن لا صيفا ولا شتاء، وهو المتجه إلى الشرق.
الدليل الثالث: وجود كثير من شجر الأترجّ في بساتين حلب، في الزمن القديم. فقد ذكر دار فيو الذي كان قنصل دولة فرنسة في حلب سنة 1040 في كتابه الذي سماه (تذكرة أسفاري) أنه شاهد بساتين حلب مملوءة من شجر الأترجّ فهذا دليل صريح على أن العارض الجوي في حلب كان منذ ثلاثمائة سنة معتدلا يمكن أن يعيش فيه هذا النوع من الشجر مع أننا الآن لا نعرف بستانا خارج حلب يشتمل على شيء من هذا الشجر أما في حدائق البيوت فيوجد منه القليل إلا أنه لا تكاد شجرته تبلغ حد الإثمار إلا ويدهمها الصقيع فتيبس.
وهكذا قد استمر شأن هذه الشجرة منذ أربعين سنة حتى أصبحنا في يأس من نجاحها في حلب، وصار الناس عندنا يسمونها شجرة الهمّ لما يتكبدونه من الزحمة في حمايتها وحفظها من البرد.
الدليل الرابع: يوجد الآن في جبل ليلون كثير من أصول شجر الزيتون الذي له فروع ضئيلة لا يزيد ارتفاعها على قدر قامة الإنسان، وهي غير مثمرة وفي هذا الجبل أيضا أطلال معاصر لعصر زيت الزيتون، وأحواض منقورة في الصخر لإحراز الزيت، مما يدل على أن هذا الجبل كان وطنا للزيتون مدة عصور طويلة، أما الآن فإنه إذا غرس فيه شيء من هذا الشجر، نبت وطالت فروعه لكنه لا يكاد يبلغ حد الإثمار إلا وتطرقه آفة البرد فيصقع وييبس.
الدليل الخامس: كنا نعهد في ضواحي حلب وبعض البلدان المضافة إليها عددا غير قليل من مغارس الزيتون الناجح المثمر الذي يوجد فيه كثير من الأشجار المعمّرة التي مضى على غرسها مئات من السنين، بل بعض المسترزقين بالزيتون يبالغون في قدم هذه الأشجار ويقولون إنها قائمة في مغارسها منذ زمن السيد المسيح صلوات الله عليه. على أن أكثر هذه المغارس قد دب العطب فيها منذ عشرات السنين وانتهى عطبها عن آخرها بما فيها من الأشجار المعمرة في سنة 1329 وبهذا يستدل على أن البرد الذي عطبت به هذه الأشجار لم يمر عليها نظيره منذ نشأت وإلا لما سلمت كل هذه المدة.
الدليل السادس: أن القطن كان يوجد في جهات حلب أشجار خالدة تبقى الشجرة منه عدة أعوام، على ما حكاه ابن البيطار في تذكرته، مع أن القطن لا يكون أشجارا خالدة إلا في الأصقاع المعتدلة في الحر والبرد، وهو الآن ما لا وجود له في حلب ولا في جهتها