الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الأول والآخر، والظاهر والباطن، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، وهو الذي يمنح السراء، ويدفع الضرّاء، ويحقق الرجاء، ويجزل العطاء. يغفر الذنب، ويقبل التوب، ويمحو الحوب «1» ، ويستر العيوب، ويكشف المكروب. وينعم بالراحة بعد اللّغوب «2» .
لا راد لما قضاه، ولا معاند لما ارتضاه. فليس بالإمكان، أبدع مما كان. جعل لكل نبأ مستقرا. ولكل شيء في حكمته البالغة مظهرا ومستسرا. وزّع على عباده السعادة والشقاء، والراحة والعناء، والعسر واليسر، والنفع والضر، والخذلان والنصر.
وشاء في قدره المحتوم، وعلمه المكتوم، أن يكون منهم الظالم والمظلوم، والحاكم والمحكوم. ثم أورد الكل مورد الفناء والعدم، وتفرد سبحانه بالبقاء والقدم.
وصلى الله وسلم على محمد بن عبد الله، حبيبه ومجتباه. نبي قص علينا ما فيه عبرة لنا فبلّغ وصدق، كما قص الله عليه من أنباء ما قد سبق. بشّر من اتبعه ووالاه، وأنذر من خالفه وناواه. وعلى آله وأصحابه الأطهار، رواة الأخبار، وحملة الآثار.
وسلم تسليما كثيرا.
وبعد فإني منذ زمن بعيد أعاني جمع هذا الكتاب، وأصرف على تأليفه من نقد عمري، وجوهر مالي، ما يستكثر مثله من أمثالي. وقد تتبعت من أجله العدد الكثير من الكتب التاريخية وغيرها، وتصفحت زهاء مائة مجلد من السجلّات المحفوظة في المحكمة الشرعية وتكبدت عناء زائدا في الاطلاع على دفاتر الدوائر الرسمية. وعلى ما هو مدخر في المكتبات الخيرية والأهلية من المجاميع والرقاع الخصوصية التي سطرها
ذووها في بعض شؤن تاريخية، ذات أهمية عظيمة في وقتها. فكنت لا أصل إلى ما يهمّني أمره من بعض هذه المواد، إلا بعد عناء شديد ونفقة باهظة.
وكنت في أثناء استقصائي أخبار الآثار، أضطر في بعضها إلى تحمل مشاقّ الأسفار.
لأتمكن من الاطلاع على حقيقة حالها، وأكتب عنها كتابة تحقيق، لا كتابة تقليد وتلفيق.
لم أزل مثابرا على هذا العمل، لا يعوقني عنه عائق، ولا يصرف همتي عنه صارف حتى يسرّ المولى لي إتمام هذا الكتاب اللابس من المحاسن أجمل جلباب فجاء بحمد الله تعالى تاريخا مفردا في بابه، فائقا جميع أترابه، من الكتب التاريخية الحلبية، جامعا أشتات ما تفرق فيها على اختلاف نزعاتها وأساليبها. فإنه جمع بين ذكر أخبار حلب وملحقات ولايتها وبين ذكر أخيارها وآثارها غير مقتصر على ذكر واحد منها، كأكثر التواريخ الحلبية السابقة.
وكنت كلما هممت بطبع هذا الكتاب وتدوينه إجابة لإلحاح الكثيرين المتشوقين إليه، عارضني بذلك سوء الظن باستحساني إياه، كمن قيل فيه:
ويسيء بالإحسان ظنا لا كمن
…
هو بابنه وبشعره مفتون
وناجاني وحي الضمير بقوله: لا تعجل بذلك، فعسى أن يكون استحسانك هذا من باب افتتان الرجل بشعره، وإعجاب المرء ببضاعته، أو هو من قبيل المثل:(القرنبى في عين أمها حسنة)«1» وحينئذ أضرب الصفح عن طبعه وتدوينه. وآخذ بالبحث عن طريقة أصل بواسطتها إلى معرفة حقيقة هذا الاستحسان: أهو حقيقي أم هو نوع من ذلك الافتتان. فلم أر في الوصول إلى هذا الغرض بعد البحث الطويل عنه- سوى طريقة واحدة، ألا وهي عرض الكتاب على كل من رغب بالاطلاع عليه، فكنت لا أضنّ بعرضه على كل وارد وصادر أتوسّم فيه سلامة الذوق، وصحة الانتقاد، وسجية الإنصاف، حتى عرضته على الجمّ الغفير من الذين عرفوا بممارسة التاريخ والوقوف على دقائقه، وكشف غوامضه. فكنت لا أسمع من كل من وقف عليه. وقرأ منه فصولا في
مواضيع مختلفة- سوى عبارات التقريظ والإطراء وإسداء الشكر والثناء. واستنهاض همتي لطبع هذا الكتاب وتدوينه بكل سرعة، حرصا على ثمالة «1» ما بقي من حياتي قبل نضوبها، كيلا يؤول أمر مسودة هذا الكتاب إلى الإهمال والضياع.
على أن لي الأمل الوطيد، أن يتلقى عشاق التاريخ، كتابي هذا برحب صدر، ويقبل عليه نصراء العلم وأعوان أهله إقبالا يذكر فيشكر، ولا سيما منهم أبناء الوطن العزيز.
فهم أولى من جميع الناس بالإقبال عليه. لأنه يخدم وطنهم المحبوب الذي حبّه بلا ريب من أقدس واجباتهم. كما نوه بذلك الخبر المأثور «حب الوطن من الإيمان» ، وكما قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(لولا محبة الأوطان لخربت) . وحكمة ذلك أن محبة الشيء تبعث على حفظه. وصيانته وجرّ النفع إليه ودفع الضرر عنه، وهي مقاصد لا تكون إلا بعد معرفته والاطلاع على محاسنه، إذ محبة المجهول غير معقولة، بل قد يكون الجهل بالشيء مدعاة إلى بغضه وكراهيته، على حد قول القائل:(المرء عدوّ لما جهل) .
وإني لأعجب من طلاب العلوم العمرانية العصرية. من أهل بلادنا إذا سألت أحدهم عن شأن من شؤون الممالك الغربية أجابك عن سؤالك بما يبلّ الغليل ويشفي العليل. وإذا سألته عن أقل شأن من شؤون وطنه أجابك عن سؤالك بالسكوت أو بقوله: لا علم لي بما تسألني عنه. ومعلوم أن الواجب على ساكن الدار أن يعلم أولا حقيقة داره وما اشتملت عليه من المحاسن والمساوي، ليعدّ لكل معنى عدّته. ويأخذ لكل شأن من شؤونها أهبته. ثم يتوسع بالعلم فيعلم حقيقة دار جاره، وما حوته من المحاسن والمساوي، استعدادا لطارىء يحوجه إلى أن يكون بها عالما وبشؤونها عارفا.
كنت شرعت بتأليف هذا الكتاب على صفة مفصلة مطولة، فجاءت مقدمته فقط في مجلد ضخم يستوعب نحو ألف صحيفة. فرأيت أنني إذا سرت بتأليفه على ذلك المنهج جاءت جملة الكتاب في نحو خمسة مجلدات ضخمة، مما يفضي إلى ملل القارئ. فعمدت إلى الاختصار ونحوت في تأليفه هذا المنحى وسميته «نهر الذهب في تاريخ حلب» ورتبته على مقدمة وأربعة أبواب:
فالمقدمة في الكلام على عدة أمور لا يتمكن القارئ دونها من الوقوف على ما انطوى
عليه المكان المؤرخ من حقائق صفاته الحسية والمعنوية التي اعتبر معرفتها مؤرخو هذا العصر من أهم الأمور التاريخية. على أن عامة المتقدمين ممن ألف في تاريخ حلب لم يتعرضوا إلا إلى القليل مما تضمنته هذه المقدمة. كما ستقف عليه قريبا. وسنتكلم على موضوع كل باب من بقية الأبواب في مقدمته إن شاء الله تعالى.
تنبيه: حيث ذكرت السنة مجردة عن الوصف فمرادي بها السنة الهجرية. ومتى أطلقت اسم الشهر الشمسي فمرادي به أحد شهور السنة الرومية الشرقية التي كانت معتبرة عند الدولة العثمانية في ماليتها وهي: (آدار أو مارت) وهو أول السنة، (نيسان) ، (هيار أو أيار أو مايس) ، (حزيران) ، (تموز) ، (آب أو أغستوس) ، (أيلول) ، (تشرين الأول) ، (تشرين الثاني) ، (كانون الأول) ، (كانون الثاني) ، (شباط) .
ومتى أطلقت اسم كيل أو وزن أو مقياس، فمرادي به ما هو مستعمل في أيامنا في حلب، الذي سنتكلم عليه في فصل الأوزان والكيول والمقاييس، كما أن مرادي من القرش واللّيرا أو الذهب العثماني ما سأذكره عنها في الذيل الذي أثبتّه آخر الفصل المذكور. وإذا أطلقت اسم الميل فمرادي به المقياس الفرنجي المعروف باسم (كيلو متر) ، كما أن مرادي من الذراع هو الذراع المعماري المنوّه عنه في جدول الأوزان والكيول الآتي ذكره.
هذا وإن الدولة العثمانية كانت، قبل سنة 1279 هجرية، مقتصرة في سجلاتها ومعاملاتها المالية على اعتبار التاريخ الهجري. ثم لما رأت لزوما لأن تضع لها موازنة مالية لضبط دخل الدولة وخرجها، اضطرها تبدل الفصول واختلاف أوقات المحاصيل إلى اعتبار تاريخ شمسي تستورد فيه مرتباتها العشرية وغيرها في أوقات معلومة مضبوطة فعولت على استعمال التاريخ الشمسي الشرقي المذكور. وصادف ابتداء استعماله سنة 1279 هجرية.
فصارت تؤرخ به المعاملات المالية من ذلك الحين.
أعلام الرجال الموضوعة بين قوسين، لهم تراجم في باب تراجم الأخيار، فلتراجع هناك.