الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يوحى إليه بالرؤيا الصالحة الصادقة، وهي أول مراتب وحي النبوة -كما أسلفنا- وحيث لم تكن النبوة، فلا مانع أن يخشى الرسول صلى الله عليه وسلم على نفسه من تلك الأمور الغريبة التي يراها ويسمعها، ولا يرى مصادرها، وذلك أمر طبيعي بمقتضى الطبيعة البشريّة التي كان يعيش بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته إنساناً مع الناس، يخالطهم، وفي الوقت ذاته يحوطه الله تعالى بحفظه، ويتولاه برعايته (1)!
أما بعد أن نزل عليه الوحي -كما عرفنا- فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لقد خشيت على نفسي) هكذا مطلقة، دون بيان لهذه الخشية!
مع أننا نلحظ هنا -كما أسلفنا- شدة ما كابد من عناء المفاجأة، وما احتف بها من الغط المجاهد المجهد، الذي هزّ بشريته هزاً بالغ الأثر في بدنه، وتكرار ذلك بأقصى ما تحتمله طاقته البشرية!
وهذا يدعونا إلى تأييد قول الحافظ ابن حجر في هذا القول، وأبطله أبو بكر ابن العربي، وحق له أن يبطل؛ لكن لا نؤيد ما ذهب إليه الإسماعيلي، كما سيأتي:
36 - جميع الكفار كانوا يرمون رسلهم بالجنون:
وجميع الكفار كانوا يرمون رسلهم بالجنون، وقد سجل القرآن الكريم عن قوم نوح عليه السلام أنهم اتهموه بالجنون، فقالوا بعد قولهم إنه بشر مثلهم يريد أن يتفضل عليهم:{إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)} (المؤمنون)
(1) محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1: 383 بتصرف.
وعن فرعون -لعنه الله- في موسى عليه السلام: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)} (الشعراء)!
وبيّن جل شأنه أن جميع الكفار كانوا يقولون هذا القول في رسلهم، قال تعالى:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)} (الذاريات)!
وقد تعلق الملاحدة وأعداء الإِسلام بهذا القول، ونبذوا النبي صلى الله عليه وسلم بألقاب السوء، وقالوا: مجنون يصرع، وتقوّلوا عليه، ليشككوا في نبوته ورسالته، مما أوحت به إليهم شياطينهم، من الكذب، وقول الزور، افتراء على الله ورسوله (1)، وقد رد القرآن الكريم عليهم فريتهم وأكاذيبهم، بعد أن حكاها عنهم في مواضع متعددة .. قال تعالى:{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)} (الحجر)!
وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)} (الصافات)، وقال تعالى:{وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)} (القلم)!، وقال جل شأنه:{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)} (الأعراف)!
ففي هذه الآية الكريمة تصوير لتجني هؤلاء الفجرة من طغاة الكفرة (2)، وجهالتهم الضالة، وأنهم قوم بُهْت، لا يصدر منهم القول عن نظر وتدبر،
(1) انظر: الوحي المحمدي: 87 وما بعدها.
(2)
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1: 288 - 290 بتصرف، وانظر: تفسير الطبري: 9: 136، وتفسير ابن كثير: 2: 270، وتفسير الشوكاني: 2: 285 - 286، وتفسير الألوسي: 5: 118 - 119، وتفسير القرطبي: 7: 330، وتفسير المنار: 9: 453 وما بعدها.
ليعرفوا الحق من الباطل، وليست لهم بصائر يتفكرون بها في مبادئ الأمور وعواقبها، وقد أبرزت الآية الكريمة ذلك في أسلوب إنكاري مفعم بالتقريع والتوبيخ لمَّا أهدروه من مدارك عقولهم، ولدمغهم بالكذب والبهتان، والتسجيل عليهم أنهم قالوا قولاً باطلاً، لو تفكروا فيه، وتدبروا مداخله ومخارجه، لعلموا بطلانه بداهة!
ذلك أن من به مسّ من الجنون يصرعه ويتخبطه، لا يمكن أن يصدر عنه كلام في أرفع درجات البلاغة البيانية، باعتراف غطارفة الفصاحة فيهم، وهو مع ذلك يحمل في عباراته أجلّ المعاني الإنسانيّة، وأسمى الحقائق الكونيّة، وأدق النظم الاجتماعيّة، وأصدق القضايا العقديّة، وأزكى الآداب الخلقيّة، وأفضل الشرائع التعبديّة، ثم يبقى دهره كله على أرفع سنن الاستقامة، وزكانة الرأي، وجودة التفكير، لا يخالف قوله فعلُه، ولا تختلف آدابه وأخلاقه، يعرف له أعداؤه أمانته وصدق حديثه، وبره ووفاءه، وشجاعته ومكارم أخلاقه!
وها هو ذا القرآن الحكيم، الكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، قائم بين أظهركم، وفي متناول أيديكم وعقولكم، فاقرؤوه وتعمقوا فهمه، وحاولوا بكل ما أوتيتم من قوة، وادعوا معكم شهداءكم من شياطين الإنس والجن، لتستخرجوا معنى متهافتاً يشعر بأن من أتى به بعيد عن استقامة المدارك العقليّة، وقد تحدّاهم القرآن بآياته، فقال:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} (محمد)!
والتدبّر: طلب المعنى بالقلب والعقل، وذلك هو ما يسميه منطق الفلسفة بالنظر والتعقّل، ونتيجته هي العلم واليقين.
وها هو ذا تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم وأحاديثه وسنته وآدابه وأخلاقه وشريعته تحت
أنظاركم، فانظروا وتفكروا في جوانب ذلك كله، واستخرجوا منه -ولن تستطيعوا- ما يقيم عوج دعاواكم، وأود أباطيلكم، ولكنكم علمتم أن محمداً صلى الله عليه وسلم أرسله الله تعالى ليقوض بنيان الكفر والنفاق، ويهدم صرح الإلحاد، وينذر الذين لووا رؤوسهم عن قبول الحق بعذاب الله وبأسه، والذين ينغضون اليوم رؤوسهم جحوداً وعصبية عمياء ببطش الله وعقابه:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} (النمل)!
ويقول تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)} (سبأ)!
وهذه الآية الكريمة تجري في مَهْيع الآية السابقة: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)} (الأعراف)!
وتبدأ ببيان مهمة محمد صلى الله عليه وسلم في رسالته التي أمر بتحقيقها في الحياة، فهو مرسل ليعظ الناس أن يقوموا لله الواحد الأحد على قدم العبوديّة، بإفراده بالتعبد له وحده، لا يشركون به شيئاً، جماعات وأفراداً، وهذه قضية فطريّة من بدائه العقول، لا تحتاج إلا إلى موقف تذكير وكلمة واعظة، تحرك القلب إلى اليقظة، والعقل إلى التنبيه، فإذا استيقظ القلب، وتنبه العقل، وعادت الفطرة إلى استقامتها في توحيد الله فانظروا حينئذ في شأن محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، نظر تدبّر وتفكّر، لتصلوا بهذا التدبّر إلى العلم الذي لا يداخله شك، ويتجلّى لكم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أصح الناس عقلاً، وأصدقهم حديثاً، وأهداهم هدى، وأرشدهم رشداً، أليس بين أيديكم ما جاء به من شرائع وآداب، ونظم وأخلاق؟!