الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - خصيصة النبوّة الخاتمة:
هذه المزاوجة بين الطبيعة البشريّة والطبيعة الروحانيّة خصيصة النبوّة الخاتمة، والرسالة الخالدة، رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم، فلا تحجب قوّة الإشراق الروحاني عنده منافذ الحسّ البشري من شخصيّته، بل يبقى لكل طبيعة خصائصها عند التبليغ، فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذه المزاوجة بين الطبيعتين بشريّ المظهر، ملائكيّ المخبر، فهو مع الناس ببشريّته الكاملة، وهو مع الملأ الأعلى بروحانيّته الكاملة!
وهذه الطبيعة الروحانيّة مع أنها تذيب خصائص البشريّة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلِّب عليها الخصائص الروحانيّة كاملة التجلّي الباطني، والإدراك العقلي، والإشراق الروحي -لا تفقد بها بشريّة الرسول صلى الله عليه وسلم عناصر الإدراك الحسّي، والإحساس الشعوري، ولا تتأثّر منافذ التصوّر بها؛ بل إن هذه المنافذ تكتسب قوة تكون بها في أكمل حالات التنبّه، وأعلى مراتب الوعي -كما سبق في الحديث:
"أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ، فيفصم عنّي وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثّل لي الملك رجلًا فيكلّمني فأعي ما يقول"!
قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصّد عرقًا!
وهذه الحالة التي تمثّلها الطبيعة الروحانيّة عند النبي صلى الله عليه وسلم أشبه في صورتها العكسيّة بحالة الملك، حين يتمثّل رجلًا، فيكلّم النبي صلى الله عليه وسلم، كما يكلّم الرجل الرجل، فيعي عنه ما يقول!
وتمثُّل جبريل عليه السلام في صورة رجل اختيار لشكل بشري تتغلّب فيه مظاهر الطبيعة البشريّة على مظاهر الطبيعة الملائكيّة التي هي باقية كامنة كاملة، كما بقيت طبيعة البشريّة كامنة كاملة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين تلقّى وحي اليقظة والمواجهة، وهذا التمثّل يقع تأنيسًا للنبي صلى الله عليه وسلم!
وتغلّب مظاهر البشريّة في حالة تمثّل الملك رجلًا لا يقتضي تحوّل روحانيّة الملك إلى طبيعة بشريّة بعناصرها الماديّة، ونوافذ إدراكاتها الحسيّة، ولا يقتضي فناء الحقيقة الملائكيّة، بل إن طبيعة الملك الروحانيّة باقية حال التمثّل في صورة بشريّة على أكمل حالاتها التي لها في الملأ الأعلى، لكنها تكون حين التمثّل مقيّدة بالصورة التي تشكّل فيها عند مجيئه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليبلّغه عن الله ما أمر بتبليغه، ولا سيّما إذا كان هذا التبليغ، يتعلّق بتعليم الناس أمر دينهم، وينتهي تقيّدها بالصورة التي تمثّلت في إهابها بانتهاء التبليغ والتعليم، كما ثبت في حديث تمثّل جبريل عليه السلام فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يومًا بارزًا للناس، إِذ أتاه رجل يمشي فقال: يا رسول الله!، ما الإِيمان؟ قال:"الإِيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، ورسله، ولقائه، وتؤمن بالبعث الآخر" قال: ما الإِسلام؟ قال: "الإِسلام أن تعبد الله، ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان"! قال: يا رسول الله! ما الإِحسان؟ قال: "الإِحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإِن لم تكن تراه فإِنه يراك" قال: يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن ساحدّثك عن أشراطها: إِذا ولدت الأمة ربّتها فذاك من أشراطها، وإِذا كان الحفاة العراة رؤوس الناس فذاك
من أشراطها، في خمس لا يعلمهن إِلا الله:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34] ثم انصرف الرجل، فقال: رُدُّوا عليّ، فأخذوا ليّردُّوا فلم يروْا شيئًا، فقال:"هذا جبريل جاء ليعلّم الناس دينهم"(1)!
وقد كانت حالة تغلّب الطبيعة الروحانيّة عند النبي صلى الله عليه وسلم على الطبيعة البشريّة أشدّ ما كان يلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم في حالات الوحي، وهي التي عُبِّر عنها بصلصلة الجرس، ودويّ النحل -كما أسلفنا- وهي لا تكون إلا في وحي اليقظة!
وهنا نذكر ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)} [القيامة: 16]!
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدّة، وكان مما يحرّك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحرّكهما لكم، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرّكهما! وقال سعيد: أنا أحرّكهما كما رأيت ابن عباس يحرّكهما -فحرك شفتيه- فأنزل الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ! قال: جَمْعُه لك في صدرك وتقرؤه: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال: فاستمِع له وأنصِتْ: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}
(1) البخاري: 65 - التفسير (4777)، وانظر (50)، وخلق أفعال العباد (26)، ومسلم (8)، والطيالسي (2)، وابن أبي شيبة: 11: 44، 45، وأحمد: 1: 27، 28، 51، 52، وأبو داود (4695، 4696، 4697)، والترمذي (2610)، والنسائي: 8: 97، وابن ماجه (63)، وابن خزيمة (1: 2504، 3065)، وابن منده: الإيمان (1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، 10، 11، 12، 13، 185، 186)، والبيهقيُّ: الشعب (393)، والبغويُّ (2)، وابن حبّان (168، 173).