الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقولنا هذا، هو الحدّ الأدنى، ولكن فوقه درجات متصاعدة، رسمها الإسلام، وندب إليها القرآن!
أدناها: ألا يمسك المرء إلا حدّ كفايته، وقدر حاجته هو ومن يعوله، ثم يعمد إلى ما زاد عن هذه الكفاية، فينفقها في التوسعة على الآخرين .. إلى هذه الدرجة السنيّة، يشير القرآن الحكيم:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (البقرة: 219)!
المرتبة الثانية: وهي الدرجة الوسطى: ألا يستأثر على الناس بشيء من ماله، بل يعد نفسه شريكاً لهم كواحد منهم، لهم في ماله مثل ما له فيه، ولا سيما في أيام المسغبة، وإلى تلك الرتبة الإشارة بقوله عظمت حكمته:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10)!
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (التوبة: 71)!
المرتبة الثالثة: وهي أعلاها، أن يؤثر أخاه على نفسه، من دون أن يلقي بيده إلى التهلكة .. تلك هي الدرجة العليا، تسمو إليها الأرواح القدسيّة:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} (الحشر)!
فلينظر المؤمن أن يضع نفسه من هذه النازل كلها!
وليعلم أن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها!
وجوه البذل:
وبعد أن وصّانا القرآن الكريم بالبر والإحسان، رسم لنا الخطة المثلى، التي افترضها الله علينا في هذا الإحسان، فأمرنا أن نتخيّر مبرّاتنا من أطيب أموالنا
وأحبّها إليه، لا من أبخسها وأهونها علينا .. ثم لم يترك لنا الخيرة في تقدير الجزء الذي نبذله؛ بل أشار إلى تحديد الحدّ الأدنى منه بحدّين نسبين: حدّ يتبع مقادير أموالنا قلة وكثرة، يتصاعد بتصاعدها!
وحدّ يتبع ضرورات الناس وحاجاتهم، ويقدر بقدرها!
هكذا تبيّنت لنا حدود الواجب في البرّ، سواء من حيث رتبتها وجودتها، أو من حيث مقدارها وكميتها!
وبقيت جوانب أخرى من هذه المبرّات، جديرة بالبحث والبيان!
ولنتذكر قبل كل شيء أن القرآن الحكيم، حين دعانا إلى بذل المال في وجوهه المختلفة، على النفس وعلى الأسرة، وعلى من وراء ذلك من أبناء الأمّة، لم يسوّ بين هذه الأنواع الثلاثة في أسلوب دعوته، ولكنه اختصّ هذا التصرّف الثالث -أعني شؤون المجتمع- فوجّه إليه جلّ عنايته، وجعله وحده هو عنوان الطهر، ومعيار التزكية:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة: 103)!
فمن كانت نفقاته محصورة في نطاق حاجاته وحاجات أسرته، ولمن بذل فيهما عن فيض وسعة، فإنه في نظر القرآن، لا يزال منغمساً في حمأة الفرديّة والأنانية، ولن يستحق منه لقب الطهر، حتى يخرج حاله عن هذا النطاق المحدود، وحتى يدخل به في محيط الأسرة الكبرى!
هذه الدعوة العامة إلى كل ذي فضل، أن يمدّ بساط فضله خارج نطاق أسرته!
ترى، كيف كنا نفسرها، لو أن الإسلام وقف في بيانها عند هذا الحدّ المجمل؟!
حسبنا أن نلقي نظرة على أخبار الكرم والكرماء، في كل زمان، بل حسبنا أن نلقي نظرة على أساليبنا العصريّة في الدعوة إلى ولائمنا ومآدبنا، ومظاهر توسّعنا في شتّى الملابسات، ألسنا -حين نفكّر في هذا التوسّع الكريم- يتّجه تفكيرنا إلى من هم على شاكلتنا، من الخلطاء والأصدقاء، أو إلى من نعرف من النابهين والكبراء، ناسين أو متناسين من هم دوننا، ومن هم أحق ببّرنا، من الخاملين والضعفاء؟!
ألسنا -في الأعم الأغلب- نطعم المطعومين، ونحرم المحرومين؟!
فلو تركت لنا الخيرة في أسلوب نشر البرّ، ألا تكون هذه الصورة هي أقرب الصور إلى أذهاننا، وأدناها إلى تحقيق فضيلة السخاء في نظرنا؟!
ولكن الله كان أرحم بالأمّة، من أن يكل شريعة برّها إلى حكم كل امرئ في نفسه، بل كان أرحم بها من أن يكتفي في تشريعها ببيان من رسوله ونبيّه صلى الله عليه وسلم، فسجّلها في كتابه محكمة مفصّلة، جامعة مانعة:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} (التوبة)!
ثمانية أبواب، حدّدت حاجات الأمّة ومطالبها الرئيسية وفصّلتها تفصيلاً، تناولت به أهمّ شؤون الأمّة، وأهمّ شؤون الدولة، وقالت للباذلين والمنتفعين:
هاهنا فلتولّوا وجوهكم! هاهنا فلتضعوا فضل أموالكم، سداً لتلك الحاجات، وتحقيقاً لتلك المطالب!
ثمانية أبواب، يكفي أن نطلع على بضعة منها، لنعرف كيف اتخذ القرآن الحكيم من هذه الفريضة الاجتماعيّة، أساساً لبيان قومي مثالي، يجمع إلى عناصر القوة والحرمة عناصر الحياة السعيدة، والعيشة الرغيدة!
نعم، يريد الله بهذا التشريع، ألا يكون في بلاد الإسلام فرد واحد إلا وله مسكن يؤويه، وأثاث يرتفق به في مسكنه، وله كسوة للشتاء والصيف، وله مركب وخادم إن عجز عن السعي بنفسه، وعنده فوق ذلك ما يكفي لقوته سنة كاملة!
فمن أعوزه شيء من ذلك، فهو في نظر المحقّقين من الأئمة فقير، له علينا الحق في رفعه إلى هذا المستوى!
فإن لم تف حصيلة الزكاة بإبلاغه إلى هذا الحدّ الأدنى، وجب علينا في حلّ أموالنا، ما نوفر له به هذه المرافق الضروريّة، ثم ما يوفر له قوته أولاً، بتهيئة عمل له، يتكسّب به يوماً بيوم!
فهذا هو سهم الفقراء والمساكين!
ثم يريد الله، ألا يكون في بلاد الإسلام، مدين يرهقه الدَّين -الذي استدانه في حلال- ولم يجد له وفاء، أو مدين يثقله دين تحمّل به في برّ الغير، ولو كان عنده وفاء به، بل علينا أن نؤدّي عن المدينين ما يقضي دينهم!
وهذا هو سهم الغارمين!
ثم يريد الله، ألا يكون ببلاد الإسلام غريب، انقطعت به الأسباب عن بلده وماله، إلا آويناه وأرفقناه، وزودناه ما يبلغه موطنه!