الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: لعل هذه الرواية ومثيلاتها، هي التي قصدها الحافظ ابن حجر بقوله: جاء مصرحاً به في عدة طرق، بيد أنه قال: وأبطله ابن العربي وحق أن يبطل!
وهذا البغض -كما أسلفنا- كان واقعاً راسخاً في خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، مركوزاً في فطرته التي فطره الله عليها، وفي التكامل المحمدي منذ طفولته إلى بدء نزول الوحي!
بيد أن البغض في تلك الرواية جاوز موضعه من فطرة رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، واتخذ وضعاً مريباً واهناً في لحظة تاريخيّة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم!
وكيف والرواية نفسها يصيح فيها ملك الوحي جبريل (يا محمد، أنا جبريل، يا محمد، أنا جبريل)؟!
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يبغض الكهّان والكهانة بغضه للأصنام، وهو بغض لم يبغضه شيئاً قط، وهذا واقعه صلى الله عليه وسلم في حياته، فكيف يخشى على نفسه في هذه اللحظة التاريخيّة من حياته أن يكون كاهناً؟!
فضلاً عن أن هذه الرواية بهذا السند قد خالفت الرواية التي معنا، وقد رواها الشيخان وغيرهما -كما سبق- حيث فسرت الخشية بالكهانة، وفي الوقت ذاته ذكرت بغضه صلى الله عليه وسلم للأصنام والكهان!
38 - رد قول الحافظ الإسماعيلي:
ولو وقف الحافظ ابن حجر عند نقده لهذا القول، وتأييده لقول أبي بكر ابن العربي في قطع الحكم ببطلانه، لكان الأمر لا يحتاج إلى نظر جديد، بيد أنه
(1) محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1: 378 بتصرف.
-كما أسلفنا- قال: لكن حمله الإسماعيلي على أن ذلك حصل له قبل حصول العلم الضروري له أن الذي جاءه ملك، وأنه من عند الله تعالى!
وحسبنا في بيان مكانة الإسماعيلي، أنه -كما قال الذهبي: الإِمام الحافظ الحجة الفقيه، شيخ الإِسلام، أبو بكر، أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل ابن العباس، الجرجاني، الإسماعيلي، الشافعي، صاحب (الصحيح)، وشيخ الشافعيّة!
وقال: من جلالة الإسماعيلي أن عرف قدر (صحيح البخاري) وتقيد به!
وقال الحاكم: كان الإسماعيلي واحد عصره، وشيخ المحدّثين والفقهاء، وأجلهم في الرئاسة والمروءة والسخاء، ولا خلاف بين العلماء من الفريقين وعقلائهم في أبي بكر (1)!
وقال ابن كثير: الحافظ الكبير -الرحال الجوال، سمع الكثير، وحدّث، وخرّج، وصنف فأجاد، وأحسن الانتقاد والاعتقاد (2)!
وذكره السخاوي فيمن حمل لواء علم الحديث في جرجان (3)، وقال: الحافظ الفقيه الإِمام النظار (4)!
ومع ذلك أقول: كان على الحافظ ابن حجر أن يقف عند تأييده لقول أبي
(1) سير أعلام النبلاء: 16: 292 - 296 (208)، وتذكرة الحفاظ: 3: 948 - 949، والأنساب: السمعاني: 1: 250، والوافي: الصفدي: 6: 13، والمعجم في آسامي شيوخ أبي بكر الإسماعيلي: 1: 156.
(2)
البداية: 11: 298.
(3)
انظر: الإعلان بالتوبيخ: 141.
(4)
انظر: فتح المغيث: 1: 30.
بكر بن العربي، وقوله (وحق له أن يبطل)، ولا يذكر حمل الحافظ الإسماعيلي الذي ذكره؛ لأنه مردود بما عرفنا، ولأن الحافظ ابن حجر لم يرفع للطرق الواردة في هذا القول المردود رأساً، ولم يعبأ بها بحثاً، وهو في ذلك من هو في ميدان البحث العلمي في هذا المجال!
إبطال القول الثاني: أما عن القول الثاني، وهو الهاجس، فقد أبطله الحافظ ابن حجر -كما أسلفنا-، وهو كما قال!
إبطال الثالث والرابع والخامس: أما عن القول الثالث: وهو الموت من شدة الرعب، فقد جعله الحافظ ابن حجر أولى الأقوال بالصواب، وأسلمها من الارتياب، واللذين بعده، وهما: الرابع: وهو المرض (1)، وقد جزم به ابن أبي جمرة، والخامس: وهو دوام المرض!
فقد رد الشيخ عرجون ترجيح الحافظ بعبارة لا نوافقه عليها، حيث قال (2):
وهذه الأقوال التي رجحها الحافظ ابن حجر من أضعف الأقوال الأثني عشر التي ذكرها!
وقال الإمام الصالحي الشامي (3): والخشية المذكورة اختُلف في المراد بها على اثني عشر قولاً: أولاها بالصواب: الموت من شدة الرعب -وهو الثالث- وقيل: المرض -وهو الرابع- وقيل: دوامه -وهو الخامس- وقيل: تعييرهم إياه - وهو الثاني عشر- كما سبق!
(1) انظر: الكواكب الدراري: 24: 95 - 96 بيد أنه أضاف إليه: أو عارضاً من الجن!
(2)
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1: 344.
(3)
سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد: 2: 241.
السادس والسابع والثامن:
أما عن القول السادس: وهو العجز عن حمل أعباء النبوة، والسابع: وهو العجز عن النظر إلى الملك من الرعب، والثامن: وهو عدم الصبر على أذى قومه، فإنا نرجح القول السادس، قال الكرماني (1): وقالوا: الأولى (خشيت) أي لا أقوى على تحمل أعباء الوحي ومقاومته!
ولأن الروايات بمنطوقها ومفهومها وجو الأحداث، تمثّل هذه الأعباء، وما حفّ بها من شدائد، وما لابد من التعرض له في سبيل قيامه بحق دعوته من عداوة هؤلاء الذين جعلوا من الشرور والمفاسد عدّتهم وعتادهم، وهل يستطيع أن يصبر على ما يلقى من أذى، وهو يبلغ رسالة ربه، وهو يعلم ما عليه قومه من جاهليّة جهلاء، وما عليه غيرهم حين ذهب مع عمه أبي طالب في تجارته إلى الشام، وقصة بحيرى (2)، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم من الذكاء والفطانة، وإشراق الروح، وضياء العقل، وثقوب الذهن، ورجاحة التفكير، بالمكان الأرفع، ومنذ اللحظة التي جاءه الحق وهو في غار حراء، وما قد حفّ بهذه المفاجأة من شدائد هذا اللقاء التي لا تطيقها طبيعة بشريّة مهما كانت قوتها، كل أمر منها بمفرده حريّ أن يفزع ويرعب أقوى القوى البشريّة، وهي قد اجتمعت على محمد صلى الله عليه وسلم في مفاجآت متتاليات متتابعات، عرف منها أن الله عز وجل اصطفاه رسولاً، ليخرج الناس من ظلمات حياتهم المتراكمة إلى نور الهداية والرشاد.
وفي غمرة ذلك (3)، وقد تيقّن الرسول صلى الله عليه وسلم اصطفاءه للرسالة، واستوعبت
(1) الكواكب الدراري: 24: 96.
(2)
انظر: الجامع الصحيح للسيرة النبويّة: 1: 371 وما بعدها.
(3)
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1: 304.