الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَرضَيْنَ أن أصِل مَن وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا ربّ، قال: فذاك"!
قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} !
ولفظ مسلم: "إِن الله خلق الخلق، حتى إِذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة، قال: نعم، أما تَرْضَيْنَ أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك"!
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا إِن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 22 - 24]!
وهذا التعظيم لشأن فضيلة صلة الرحم التي جاءت في كلمات النور إلهامًا لأمّ المؤمنين خديجة رضي الله عنها وصفًا لما تحلّى به محمَّد خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم من أصول المكارم التي لا يُخزي الله -جلَّ ذكره- من وصف بها جبلّة وطبعًا، ليس فوقه تعظيم لمكرمة من أصول المكارم الجبلّيّة التي يهبها الله خُلُقًا وطبعًا لمن يشاء من عباده، لتكون في حياته منائر يهتدي بها المهتدون!
10 - وتحمل الكلّ:
ومن كلمات النور التي قالتها أمّ المؤمنين خديجة رضي الله عنها لمحمد خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم:
وتحمل الكلّ!
فلتهدأ نفسك يا أبا القاسم، فلن يخزيك الله أبدًا، وإنك لبالغ بتوفيق ربّك ما كُتب لك في لوح الغيب من رفعة الذكر، وبلوغ الأمل، فقد حلّاك منذ خلقك فريدًا في نحائزك ومكارم أخلاقك بما جعل لك به في كل قلب مكانًا من السؤدد والسموّ والحبّ!
لقد جعل في مكارم أخلاقك الكريمة أنك تحمل الكلّ الضعيف الذي أعجزته الأيام والليالي، وأقعدته صروف الحياة عن النهوض بحال نفسه، فلم يستطع مزاحمة الضاربين في الأرض سعيًا وراء متطلّبات الحياة، ولم يستطع أن يقوم بضرورات عيشه إلا إذا أعانه ذو مقدرة من أهل المروعات وأصحاب المكارم، الذين يفعلون الخير لأنهم يرونه خيرًا، وأنت يا أبا القاسم ذلك الكريم الذي فطره الله على الخير، فلن ترضى نفسك الكريمة وقلبك الرحيم أن ترى ضعيفًا أثقلت كاهله الحياة، فتخلف عن مسيرتها دون أن تمدّ إليه يد الرحمة بما ينعشه وينهض به، في غير منٍّ ولا أذى!
والإحسان -أبدًا- آسر لمن يقع عنده موقعه، وهؤلاء الضعفى تنعشهم يدك الرحيمة، وتمسح عن كواهلهم أثقال العيش، وتحيي في أنفسهم موات الأمل، وتنعش في أرواحهم رغائب العمل هم عدّة الإيمان؛ لأنّ الإيمان يملك من رصيد الخير ما يعوّض به هؤلاء عما فقدوه من قوّة الاقتدار على مماشاة الحياة، وهؤلاء الضعفى أملك للعمل الشكور يردّون به الجميل، فالإحسان إليهم يحمل ضعيفهم لينهضوا، أو ليُحفظوا من الضياع فضيلة مشكورة عندما تحين فرصة شكرها من غير الجاحدين لفضلي المكارم والمروءات!
وهؤلاء الضعفى هم أتباع الرسل -كما عرفنا- وفي هذا التوافق بين ما حمله الإلهام النوراني بالفراسة الصادقة، والتجربة الحكيمة في كلمات وزيرة الصدق
الزوجة البرّ؛ الأمينة السيدة خديجة رضي الله عنها قبل أن تنشر في آفاق الحياة أشعة شمس النبوّة، وبين ما صدر من أنباء المبشّرات بميلاد رسالة جديدة، قد أظل الناس زمانها، دلالة على أن أمّ المؤمنين رضي الله عنها كانت تستملي في كلماتها النورانية التي مسحت بها عن جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قطرات العرق التي ساقطتها متاعب بشريّته، وقد هاضها روع المفاجأة، وتصوّر أعباء الرسالة، وقوادح تبليغها صحائف الغيب التي قرأت في سطورها بنور إيمانها الفطري، وصادق فراستها، دلائل ما فطر الله تعالى عليه رسوله وحبيبه محمَّد صلى الله عليه وسلم، من التخلّق بمعالي الأخلاق، وأحاسن الشمائل على معالم مستقبله في رسالته الخاتمة الخالدة!
ولأمر ما ربط الحق -جلَّ شأنه- بين مكارم الأخلاق الفطريّة قبل أن يبعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وبين حياة هؤلاء الضعفى في المجتمع البشريّ الظلوم، فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم آسيًا لجراحهم، وجابرًا لكسير قلوبهم .. ومن ثم لا ينسى هؤلاء أيادي الرحمة بهم بعد أن بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم نبيًّا، وداعيًا رسولًا، يدعو إلى الله وحده، وإلى عدله ورحمته!
هذا تدبير الغيب، ما كان لأحد فيه اختيار .. فالله تعالى هو الذي فطر رسوله رحيمًا، خلقةً لا كسبًا، وطبعًا لا تطبّعًا، وهو الذي جمّله بخُلق الشفقة على الخلق كافةً، وهو الذي أوجده في مجتمعه الذي نهد فيه، ونشأن بين أحضانه، وهو مجتمع يعيش في حياة تجعله أخصب أرض لزرع الإحسان والمكارم؛ لأنه مجتمع جهل حياة العدل وعاش على جهالة الحياة وروابطها الاجتماعيّة الفسيحة، مجتمع استأثر بخيراته حفنة من غلاظ الأكباد، يأخذون ولا يُعطون، ينهبون ولا يرعوُون، فلا قانون يردع، ولا نظام يحكم!