الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهكذا تكمل شرعة الهداية القرآنيّة للعاملين!
طهارة في اليد ونزاهة في القصد، وعزيمة صادقة قاصرة في بذل الجهد، ثم أمل صادق فيما يجيء به الغد!
آداب أربعة، يوصي بها الله كل كاسب، وكل عامل، فهل نتبع وصيّة الله؟!
نظام البذل والإنفاق:
وكما أوصانا القرآن الحكيم بالسعي في طلب الرزق أوصانا أن نقوم بإنفاقه وبذله .. بل أحسب أن وصيّته لنا بأولاهما ما كانت إلا تمهيداً لوصيّته لنا بأخراهما!
أوصانا أن نحصل لكي نستطيع أن نبذل؛ فإن فاقد الشيء لا يعطيه!
وكما أن القرآن شرع للكسب قوانينه وآدابه، كذلك شرع للبذل قوانينه وآدابه!
غير أننا قبل أن نأخذ في عرض هذه القوانين والآداب نحب أن نشير إلى كنه فضيلة البذل التي يدعو إليها القرآن الكريم .. إنها تتمثل في حركتين، أو في حركة ذات اتجاهين:
حركة واردة هابطة إلى المركز!
وحركة صادرة صاعدة إلى المحيط!
حركة تعود بالمال إلى رب المال، متجهة به إلى جهة الإتعاب والاستمتاع الشخصي!
وحركة تتجه بالمال إلى غير صاحب المال، لتبذله في وجوه البرّ للآخرين!
هذه الحركة الثانية تبدأ في دائرة محدودة ضيّقة، ثم لا يزال يمتدّ قطرها، وينفرج محيطها، حتى تصبح أوسع الدوائر وأشملها!
تبدأ بالأسرة الخاصة الصغرى، حيث أضيق المسؤوليّات، وألزم التبعات، ثم تمتدّ أغصانها بامتداد القرابة والنسب، وتتشعّب أطرافها بتشعّب الصحبة والجوار واشتباك المصالح، واتساع العلوم وانتشار الأخبار .. حتى تصل إلى محيط الأسرة العامة الكبرى .. أسرة الإنسانيّة العالميّة، بعد أسرة الدّين والوطن!
هي إذن حقوق ثلاثة في أموالنا، تتقاضانا أداءها والقيام بها:
حق النفس!
وحق الأسرة!
وحق الجماعة!
فلننظر إلى هذه الحقوق الثلاثة في مرآة القرآن الحكيم، لنعرف مبلغ عنايته، ومدى اهتمامه بكل واحدة منها!
أتدري ماذا سوف نرى؟
سوف نرى عجباً، بل أعجب العجب!
سوف نرى هذه الحقوق الثلاثة لا تأخذ من عناية القرآن نصيباً متساوياً؛ بل يتفاوت حظها من هذه العناية تفاوتاً كبيراً، وأن الذي يظفر من بينه بنصيب الأسد إنما هو حق الجماعة العامة، بينما حق الأسرة يتبوّأ منها مكاناً وسطاً!
أما حق النفس؛ فإنه لا يحلّ منها إلا في أدنى المنازل!
أليس يأخذك هاهنا العجب؟!
أليس حق النفس أوجب؟! يليه حق الأسرة؟! الأقرب فالأقرب فلننظر!
الثلاثة في أموالنا، تتقاضانا أداءها والقيام بها:
العالميّة، بعد أسرة الدّين والوطن!
والنسب، وتتشعّب أطرافها بتشعب فروعها؟!
بلى، ولكن هذا هو وضعها في القرآن الكريم، على رغم أنف النفعيّة، الأنانية منها والعصبيّة، بل على رغم القواعد الفقهيّة، وظواهر الأدلة الشرعيّة!
أي والله! إن هذا هو وضع المسألة في القرآن الكريم، عرف الحكمة فيه من عرفها، أو جهلها من جهلها!
ألا فلنستمع إلى كتاب الله حين يتحدّث عن حق الانتفاع بالمال في حظوظ النفس المشروعة؟!
إنه قلما يتحدّث عن حق الاستمتاع بهذه الحظوظ؛ لأنه ليتحدّث عن هذا الحق -إذا تحدّث- حديثاً ليّناً، لا حضّ فيه ولا تحريض، ولا إيجاب ولا إلزام، وإنما هو الإذن والرخصة في تناول هذه الحظوظ، ورفع الحرج والإثم عن متناولها!
أما حين يتحدث عن حقوق الأسرة، فإننا نسمع منه نبرة جديدةً، يصبّها في قالب الأمر الموجب الملزم .. ولكنها آيات معدودات، لو جمعت كلها لكادت تسعها صفحة واحدة من كتاب الله!
وأما حق الجماعة في أموالنا، فحدّث عن البحر ولا حرج .. إن الحديث عنه يواجهنا في كل مكان من القرآن الكريم، في لهجة تشتدّ وتعلو، وتوجب وتحتّم، وتعد وتتوعّد، وتكرّر وتؤكّد!
يا سبحان الله!
ألم يكن حق النفس أولى بهذا التأكيد والتشديد؟!
أو لم يكن حق الأسرة أولى بأن يليه في الحضّ والتحريض؟!
وحق الجماعة البعيدة أولى أن يكون آخرها رتبةً وأبعدها منزلة؟!
إن الإنسان يأخذ بظاهر العلم، ويبني على بادي الرأي .. ولو أَتبع القرآن هداه، لكان كتاب تعليم وكفى، ولكن القرآن ليس خطاباً للعقول وحدها!
إنها خطاب للنفوس تربية وتهذيباً، وللقلوب علاجاً وتطبيباً .. فهل للطبيب أن يصف الدواء بغير داء؟!
والإنسان يقول: إن حق النفس أوجب .. وحق الأسرة إليه أقرب .. لقد صدق!
لكن باعث الطبيعة إليهما يسبق داعي الشريعة، وإن الطبيعة لأشدّ حرصاً على حق النفس منها على حق الجماعة .. فأيّ حاجة بنا إذن إلى الإلحاح على كل امرئ في أن يأكل ويشرب، وأن ينتفع بماله في سدّ حاجاته؟!
أليس داعي الجبلّة والغريزة قائماً في كيان نفسه، يدفعه إلى ذلك دفعاً؟!
إن مهمّة التشريع الحكيم هاهنا ينبغي أن تنحصر في التنبيه على صدق هذا الداعي الجبلّي وسداده، على أن تدعه بعد ذلك يعمل هو في النفس عمله!
فإذا انحرفت الفطرة بفعل البيئة أو الوراثة وجعلت تتحرّج وتتأثّم مما لا حرج فيه ولا إثم، فهنالك يجيء دور الشريعة في تصحيح الأوضاع المنحرفة، ورفع النظر الذي وضعته العادات السيئة، والعقائد الباطلة .. وهكذا نرى موقف القرآن الحكيم:{لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} (المائدة)!
وكذلك لمَّا كانت لحمة الرحم تجعل من أعضاء الأسرة كائناً واحداً، يشعر بشعور واحد، حتى كأن حياة أحدهم امتداد لحياة صاحبه، وكأن حاجة الآخر هي حاجة نفسه، لم يكن بالشريعة حاجة إلى أكثر من تغذية هذا الشعور وتنميته ما دام قائماً، فإذا اضمحلّ هذا الشعور بتراخي حبال الرابطة الزوجيّة، وتفكّك عرا الأسرة، فهنالك يبرز سلطان القانون، ويرفع صولجانه!
وهكذا نرى الدعوة القرآنيّة إلى القيام بحقوق الأسرة، لا تأخذ طابع الشدّة والصراحة، إلا حيث يبدأ التفسّخ والتفكك في هذه الرابطة بالشقاق وبالفراق:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (الطلاق: 7)!