الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما إذا لم يكن هنالك باعث صحيح من هذه البواعث وأمثالها، فإن الإسرار بها أكمل وأفضل:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271} (البقرة)!
بواعث البرّ والإحسان:
وهل وقفت وصايا البّر عند هذا الحد؟!
هل ينال بالصدقة رضوان الله كاملاً، متى استكملت هذه العناصر فحسب؟!
كلا، لقد بقي عنصر أنفس وأقدس من تلك العناصر كلها!
عنصر لو سلم لها من أول الأمر لسلمت سائر العناصر، ولو بطل أو فسد لحبطت سائر العناصر!
عنصر لا يتصل بمنبع العطاء، ولا بأحقيّته، ولا بمقدار أسلوبه!
عنصر ليس ماديًّا، ولا اجتماعيًّا، ولكنه معنوي نفساني، يسكن في أعماق صدورنا، يدفعنا إلى العدل، وتتحرّك همّتنا إليه، ذلك هو عنصر الباعث أو النيّة، الذي تتحدّد فيه غايات الأعمال ومقاصدها، والذي يدور على ميزان القيم في نظر الخلق والدّين:
يروي مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِن الله لا ينظر إِلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إِلى قلوبكم وأعمالكم "(1)!
(1) مسلم (2564)، وأحمد: 2: 284، 285، 539، والزهد: 259، والبغوي: شرح السنة (4150)، وابن ماجه (4143)، وأبو نعيم: الحلية: 4: 98، وابن حبان (394).
نعم، إنك لترى العمل، فتراه في ذاته عملاً مبروراً، فإذا اطلعت على مقاصده وبواعثه، وجدته قد انقلب إثماً وفجوراً، أو قد تحوّل شغلاً دنيويًّا مباحاً، لا برّ فيه ولا فجور!
من أجل ذلك كان حقًّا على المؤمن -قبل الإقدام على عمل ما- أن يلقي على نفسه هذا السؤال، وأن يلحّ على نفسه في طلب الردّ عليه:
ماذا تبتغين أيّتها النفس من هذا العمل؟!
فإذا ظفر منها بإجابة صحيحة صريحة، غير مخدوعة ولا خادعة، فليعرض هذه الإجابة على مرآة القرآن، وليختبرها بالمعايير التي وضعها القرآن، ليستبين بذلك قيمة عمله، بل ليستبين درجة ايمانه، بل لينكشف له جوهر نفسه، ومعدن روحه، فيعلم:
هل علوّية ربّانيّة هي، أم شيطانيّة ماردة، أم طينيّة باردة؟!
ولعله ليست هناك قضيّة عني القرآن بتحليل بواعثها، وتحديد قيمها، على ضوء تلك البواعث، أشدّ من عنايته بقضيّة البذل والإنفاق، وترتيب منازلها، برّها وفاجرها وما بين ذلك!
والتاريخ القديم والحديث للبشريّة مشحون بالمثل والصور التي ينطبق عليها حكم القرآن: هذا رجل من الناس يغمرك بكرمه، لتسكن إليه وتأمن قائلته، يبدي لك الخير والبرّ، ولكنه يضمر المكر والغدر!
حذار حذار! إنه يسمنك ليأكلك، ويستدرجك ليقتلك، كمثل اليهود، حين دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعامهم، وقد دسّوا له السم في اللحم:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} (آل عمران)!
وهذا رجل آخر، يمنحك من فضله ونواله، لا ليكرمك، ولكن ليستعبدك ويستخدمك!
يحاول أن يشتري ضميرك وذمتك، أو لسانك وقلمك، أو يدك وساعدك .. فإن لم يكن يريد أن يضربك؛ فإنه يضرب بك، لا ليضرب بك عند الباطل، وينصر بك كلمة الحق، ولكن ليحارب بك الله ورسوله، ويصدّ بك عن سبيله، فتلك هي النفوس الشيطانيّة، التي وصف الله لنا أمثالها في القرآن الكريم:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} (الأنفال)!
وطائفة من الناس تراها تنفق عن سعة، وتبذل عن سخاء، ولا تبتغي بأموالها شراً، ولا تضمر لأحد غدرًا؛ ولكنها تخضع لشهوة خفيّة من حبّ الظهور، وطلب السمعة المحبّبة عند الآخرين، فذلك هو الرياء الذي وصفه الله لنا في كتابه المجيد، كيف يحبط الصدقات، كما تهلك النار الزروع والثمار:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)} (البقرة)!
وطائفة أخرى تجعل مبرّاتها مقايضة ومبادلة، تسدّ بها ديناً سابقاً من الجميل والمعروف، أو تفتح بها ديناً جديداً، تتقاضى فيه مكافأة، الحسنة بمثلها أو بأحسن منها .. !