الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(القيامة)! ثم إِن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إِذا أتاه جبريل استَمع، فإِذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه (1)!
5 - تهافت الملاحدة:
وقد تعلّق بهذه الشدّة التي كان يلقاها الرسول صلى الله عليه وسلم (2)، عند نزول الوحي عليه في يقظته، ومواجهة الملك -كما أسلفنا- قوم من أحلاس الشرك والنفاق وعبيد الإلحاد والكفر والاستشراق، قديمًا وحديثًا، فنبزوا الرسول صلى الله عليه وسلم بألقاب السوء، وتقوّلوا عليه، ليشكّكوا في نبوّته ورسالته، مما أوحت به إليهم شياطينهم، من الكذب وقول الزور افتراءً على الله ورسوله!
وقد ردّ الله تعالى عليهم فريتهم وأكاذيبهم، بعد أن حكاها عنهم في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)} [الأعراف: 184]!
وهنا نبصر تصويرًا لتجنّي هؤلاء الفجرة من طغاة الكفر وجهالتهم الضالة، وأنهم قوم بُهت، لا يصدر منهم القول عن نظر وتدبّر، ليعرفوا الحق من الباطل، وليست لهم بصائر يتفكّرون بها في مبادئ الأمور وعواقبها، وقد
(1) البخاري: 1 - بدء الوحي (5)، وانظر (4927، 4928، 4929، 5044، 7524)، وخلق أفعال العباد: 45، 46، ومسلم (448)، والطيالسي (2628)، والحميدي (527)، وابن سعد: 1: 198، وأحمد: 1: 220، 343، والترمذي (3329)، والنسائيُّ: 2: 149، والكبرى (917، 7978، 11634، 11635)، وفضائل القرآن (3)، والتفسير (654، 655، 656)، والطبري: التفسير: 29: 187، والبيهقي: الأسماء والصفات: 1: 321، والدلائل: 7: 56، والبغوي: التفسير: 4: 423، والطبراني: الكبير (12297)، وابن حبّان (39).
(2)
محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1: 288 وما بعدها بتصرف.
أبرزت الآية الكريمة ذلك في أسلوب إنكاري مفعم بالتقريع والتوبيخ لما أهدروه من مدارك عقولهم، ولِدَمغهم بالكذب والبهتان، والتسجيل عليهم أنهم قالوا قولًا باطلًا، لو تفكّروا فيه، وتدبّروا مداخله ومخارجه لعلموا بطلانه بداهةً!
ذلك أن مَنْ به مسّ من الجنون يصرعه ويتخبّطه لا يمكن أن يصدر عنه كلام في أعلى درجات البراءة البيانيّة باعتراف غطارفة الفصاحة فيهم -كما سيأتي- وهو مع ذلك يحمل في عباراته أجلّ المعاني الإنسانيّة، وأسمى الحقائق الكونيّة، وأدق النظم الاجتماعيّة، وأصدق القضايا العقديّة، وأزكى الآداب الخلقيّة، وأفضل الشرائع التعبديَّة، ثم يبقى دهره كله على أرفع سنن الاستقامة، وزكانة الرأي، وجودة التفكير، لا يخالف قوله فعلُه، ولا تختلف آدابه وأخلاقه، يعرف أعداءه -كما أسلفنا- أمانته وصدق حديثه، وبرّه ووفاءه، وشجاعته ومكارم أخلاقه!
وها هو القرآن الحكيم، قائم بين أظهركم، وفي متناول أيديكم وعقولكم، فاقرؤوه وتعمّقوا فهمه، وحاولوا بكل ما أوتيتم من قوّة، وادعوا معكم شهداءكم من شياطين الإنس والجن لتستخرجوا معنى متهافتًا يشعر بأن من أتى به بعيد عن استقامة المدارك العقليّة، وقد تحدّاهم القرآن بآياته، فقال:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]!
والتدبّر طلب المعنى بالقلب والعقل، وذلك هو ما يسمّيه منطق الفلسفة بالنظر والتعقّل، ونتيجته هي العلم اليقين!
وها هو تاريخ محمَّد صلى الله عليه وسلم .. وتلك أحاديثه وسننه وآدابه وأخلاقه وشريعته، بين أنظاركم، فانظروا وتفكّروا في جوانب ذلك كله، واستخرجوا منه -ولن تستطيعوا- ما يقيم عوج دعاواكم، وأود أباطيلكم، ولكنكم علمتم
أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أرسله الله ليقوّض بنيان الكفر والنفاق، ويهدم صرح الإلحاد، وينذر الذين لوّوا رؤوسهم عن قبول الحق بعذاب الله وبأسه، والذين ينغضون اليوم رؤوسهمِ جحودًا وعصبيّة عمياء ببطش الله وعقابه:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} [النمل: 13، 14]!
والآيات كثيرة العدد، كاشفة عن الحق، حتى ليبصره كل من له عينان .. وهي مبصرة تقود إلى الهُدى، ومع هذا:{قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} !
قالوا ذلك لا عن اقتناع بما قالوا، ولا عن شبهة، إنما قالوا:
{ظُلْمًا وَعُلُوًّا} !
وقد استيقنت نفوسهم أنها الحق الذي لا شبهة فيه:
{وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} !
لأنهم لا يريدون الإيمان (1)، ولا يطلبون البرهان، استعلاء على الحق، وظلمًا له ولأنفسهم بهذا الاستعلاء الذميم!
وكذلك كان كبراء قريش يستقبلون القرآن، ويستيقنون أنه الحق، ولكنهم يجحدونه، ويجحدون دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إيّاهم إلى الله الواحد!
وكذلك الحق لا يجحده الجاحدون؛ لأنهم لا يعرفونه، بل لأنهم يعرفونه، ويجحدونه، وقد استيقنت ذلك نفوسهم؛ لأنهم يحسّون الخطر فيه على أوضاعهم الباطلة ومغانمهم الدنيا الهابطة، فيقفون في وجهه مكابرين، وهو واضح مبين:{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} !
(1) في ظلال القرآن: 5: 2630 بتصرف.
وعاقبة فرعون وقومه معروفة .. كشف عنها القرآن في مواضع أخرى .. وهنا يشير إليها هذه الإشارة، لعلها توقظ الغافلين من الجاحدين بالحق المكابرين فيه، قبل أن يأخذهم ما أخذ المفسدين!
ويطالعنا قول الحق تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)} [سبأ: 46]!
وهنا نبصر دعوة خالصة إلى منهج البحث عن الحق (1)، ومعرفة الافتراء من الصدق، وتقدير الواقع الذي يواجهونه من غير زيف ولا دخل!
نبصر دعوة إلى القيام لله عز وجل بعيدًا عن الهوى، بعيدًا عن ملابسات الأرض، بعيدًا عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب، فتبعد به عن الله، بعيدًا عن التأثّر بالتيارات السائدة في البيئة، والمؤثّرات الشائعة في الجماعة!
نبصر دعوة إلى التعامل مع الواقع الواضح، لا مع القضايا والدعاوى الرائجة، ولا مع العبارات المطاطة، التي تبعد القلب والعقل من مواجهة الحقيقة الواضحة!
نبصر دعوة إلى منطق الفطرة الهادئ الصافي، بعيدًا عن الضجيج والخلط واللبس، والرؤية المضطربة، والقبس الذي يحجب صفاء الحقيقة!
وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة .. منهج ميسّر يعتمد على التجرّد من الرواسب والغواشي والمؤثّرات، وعلى مراقبة الله تعالى وتقواه!
(1) المرجع السابق: 2914 بتصرف.
وهي (واحدة) .. إن تحقّقت صحّ المنهج، واستقام الطريق .. القيام لله .. لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة .. التجرّد .. الخلوص .. ثم التفكّر والتدبّر بلا مؤثّر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجرّدون!
{أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} !
مثنى ليراجع أحدهما الآخر، ويأخذ معه ويعطي، من غير تأثّر بعقليّة الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ، ولا تتلبث لتتبع الحجّة في هدوء .. وفرادى مع النفس وجهًا لوجه في تمحيص هادئ عميق!
{ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} !
فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبّر والرزانة، وما يقول شيئًا يدعو إلى التظنّن بعقله ورشده، إن هو إلا القول المحكم القويّ المبين!
{إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} !
لمسة تصوّر العذاب الشديد وشيكًا أن يقع، وقد سبقه النذير بخطوة، لينقذ من يستمع، كالهاتف المحذّر من حريق في دار يوشك أن يلتهم من لا يفرّ من الحريق، وهو تصوير فوق أنه صادق، بارع موح مثير!
وتمضي الآيات في الدعوة إلى التفكّر الهادئ البريء .. وسؤال أنفسهم عما يدعو إلى القيام بإنذارهم بين يدي عذاب شديد .. ما مصلحته؟ ما بواعثه؟ ماذا يعود عليه؟ ويأمره أن يلمس منطقهم، ويوقظ وجدانهم إلى هذه الحقيقة في صورة موحية!
{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)} [سبأ: 47 - 50]!
{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} !
خذوا أنتم الأجر الذي طلبته منكم! وهو أسلوب فيه تهكّم، وفيه توجيه، وفيه تنبيه!
{إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} !
هو الذي كلّفني، وهو الذي يأجرني، وأجره هو الذي أتطلّع إليه، ومن يتطلّع إلى ما عند الله فكل ما عند الناس هيّن عنده هزيل زهيد، لا يستحق التفكير!
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} !
يعلم ويرى ولا يخفى عليه شيء .. فيما أفعل وفيما أنوي وفيما أقول!
ويشتدّ الإيقاع الثالث، وتقصر خطاه!
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)} !
وهذا الذي جئتكم به هو الحق القوي الذي يقذف به الله، فمن ذا يقف للحق الذي يقذف به الله؟!
إنه تعبير مصوّر مجسّم متحرّك، وكأنما القدر قذيفة تصدع وتخرق وتنفذ، ولا يقف لها أحد في طريق!
يقذف بها الله {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} !
فهو يقذف بها عن علم، ويوجّهها على علم، ولا يخفى عليه هدف، ولا تغيب عنه غاية، ولا يقف للحق الذي يقذف به معترض ولا سدّ يعوق، فالطريق أمامه مكشوف ليس فيه مستور .. ويتلوه الإيقاع الرابع في مثل عنفه وسرعته!
{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)}
جاء هذا الحق في صورة من صوره، في الرسالة، وفي قرآنها، وفي منهجها المستقيم .. جاء الحق بقوّته وبدفعته وباستعلائه وسيطرته!
{وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)} !
فقد انتهى أمره، وما عادت له حياة، وما عاد له مجال، وقد تقرر مصيره، وعرف أنه إلى زوال!
إنه الإيقاع المزلزل، الذي يشعر من يسمعه أن القضاء المبرم قد قضى، وأنه لم يعد هناك مجال لشيء آخر يقال .. وإنه لكذلك!
فمنذ بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم استقرّ منهج الحق واتضح، ولم يعد الباطل إلا مماحكة ومماحلة أمام الحق الواضح الحاسم الجازم!
ومهما يقع من غلبة ماديّة للباطل في بعض الأحوال والظروف، إلا أنها ليست غلبة على الحق؛ إنما هي غلبة الناس لا المبادئ، وهذه موقوتة ثم تزول .. أما الحق فواضح بيّن صريح!
والإيقاع الأخير!