الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هكذا وضع القرآن الكريم لنا أسلوب السعي والعمل، لا متوانياً متراخياً، ولا مجهوداً مكدوداً، ولكن أسلوب الجد القاصد الراشد، في تنظيم جهودنا البدنيّة، يكمله توجيه أعمق منه في تنظيم حالاتنا النفسيّة!
اختيار الكسب الصالح:
وما أعظم النعمة علينا بهذا القرآن الحكيم!! .. إنه قائدنا ما أحكم قيادته!! وهاد ما أكمل هدايته!!: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: 9)!
تلك القيادة المثلى لا تخص طائفةً من الناس دون طائفة، ولا شأناً من الحياة دون شأن، ولكنها هداية سابقة شاملة، والمؤمن يشعر بها وهي تلاحقه في كل خطوة، وتضيء له الطريق حيثما توجّه، حين يقدّر ويفكر، وحين يهم ويعزم، وحين يقضي ويحكم، وحين يكدح ويعمل، وحين يفرح أو يحزن، وحين يخاف أو يأمن، وصدق الله العظيم:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} (النحل)!
لكل شيء، لأدب الدّين والدنيا، ولخير الآخرة والأولى!
وقبل أن يتوجّه المرء لالتماس رزقه ينادي القرآن الحكيم: {لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)} (المائدة)!
وكانت تلك هي الوصيّة الأولى من وصايا الكسب، وهي طهارة اليد من السحت!
فإذا وضع المرء قدمه في طريق الكسب الحلال، وقبل أن يمضي فيه، وجد
القرآن الحكيم يحدّد له الأهداف الصحيحة في كسب المال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)} (القصص)!
وكانت هذه الوصيّة الثانية طهارة القلب والنيّة متنزّهاً عن نزعات الفجور والأنانية!
فإذا ما وصل العامل إلى حقل العمل، طاهر اليد، نقيّ الصدر، لم يتركه القرآن وشأنه هنالك، بل سار إلى جانبه يتابع حركاته وسكناته، ويراقب فتراته ونزواته، فيشحذ من عزمه إذا وهي أو وهن، ويشدّ من أزره إذا ونى أو سكن .. !
اعمل فسيرى الله عملك .. اتق وأحسن .. !
كما يلطّف من شدته، ويحدّ من حدّته، إذا انهمك في السعي وأفرط، وطغى في جمع المال أو بغى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} (المنافقون)!
هكذا بعد أن طهّر القرآن الحكيم في أول الطريق أيدي العاملين وقلوبهم، سدّد خطاهم في أثناء الطريق، ونظّم جهودهم!
وهداية القرآن للعاملين، وقيادته لخطاهم على طول الطريق لن تقف عند تنظيم جهودهم البدنيّة، ولكنها ستنفذ إلى ما هو أدقّ وأعمق .. إنها تتقصّى حركات نفوسهم، وتستمع إلى خفقات قلوبهم، وخلجات صدورهم، متتبّعة أطوار العمل لديهم، وتقلّبات الأحداث عليهم، فتصف لكل شكوى علاجها، ولكل نجوى جوابها!
كل عامل في هذه الحياة هدف لتقلّبات النجاح والإخفاق، والربح والخسارة، والنصر والهزيمة:
{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (الأنبياء: 35)!
{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140)!
وقد فطر الإنسان ذا مشاعر وأحاسيس تصبّ في نفسه إما برد الرضى والسرور لما يناله من خير، وإما حرقة الحزن والألم لما يصيبه من أذى وحرمان!
أتدري ما مصير هذه المعاني، إذا تركت وشأنها تعمل في النفس عملها؟!
إليك صورة طبيعيّة لنفسيّة المخفق المهزوم، إذا لم تهد قلبه هداية القرآن، ولم تثبّته سكينة الإيمان .. إنه لو نظر في حاضره لم يجد إلا ضجرًا وألماً لما يعانيه من نكد الإخفاق، ولو تلفّت إلى ماضيه لم يحسّ إلا حسرةً وندماً على ما فاته من أخذ العدّة لتجنب هذا الإخفاق، ولو تطلّع إلى مستقبله لم ير فيه شعاعاً من الخير أو النور، وإنما هو ظلام قائم، وشؤم جاثم!
وهكذا يجد مسالك الحياة قد سدّت من بين يديه ومن خلفه، لا مخرج فيها ولا متنفّس .. أليس ذلك هو اليأس القاتل؟!
وانظر الآن إلى نفسيّة الفائز المنتصر:
إن موجة الفرحة بهذا النجاح الحاضر لتغمر حياته من شاطئها، إن نظر إلى أمسه نظمِ إليه معجباً فخوراً، يقول:
ربِّ أكرمني إذا كنت أهلاً لهذا الإكرام، فقد أخذت للنجاح عدّتي، وما أوتيته من علمي وعملي، وإن نظر إلى غده نظر إليه بملء الثقة والاطمئنان، يقول: لن تبيد هذه النعمة أبداً، وقد ذهبت السيئات عني إلى غير معاد .. أليس هذا هو الأمل الكاذب والغرور الفاتن؟!
هاتان صورتان نفسيّتان، تتعاقبان على قلب كل عامل، وهما على قلب طالب المال أكثر تعاقباً وأشدّ تغلّباً، ما لم يكن له من إيمانه عاصم!
فلنستمع إلى القرآن الحكيم وهو يعالج هاتين الظاهرتين!
لنستمع إليه حين يتوجّه إلى المخفقين المحرومين، وقد برموا بحاضرهم، وندموا على ماضيهم، ويئسوا من مستقبلهم!
ها هو ذا يمسح على صدورهم بكفّ الرحمة، فيبدّل حرارة الهمّ برداً وسلاماً، ومرارة ندمهم رضىً ويقيناً:{اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} (البقرة)!
{لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} (آل عمران: 156)!
وقالوا: لو كان .. لكان .. إن هذه الحسرات لن تردّ ما فات: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (الحديد: 122)!
ثم ها هو ذا يفتح أعينهم على نور الأمل: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} (يوسف: 87)!
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} (الشرح)!
أما أولئك الذين تأخذهم نشوة الربح والنصر، حتى يأمنوا صروف الدهر، وحتى ينسوا ما مضى لهم من عسر الإخفاق والحرمان، فإن القرآن الحكيم لا يبرح يكشف الغطاء عن أعينهم، ليذكرهم بماضيهم القريب، وليحذرهم من مستقبلهم المطوي في حجب الغيب:{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} (الأعراف)!
أم فرحوا بما أوتوا من العلم، واعتمدوا على ما بذلوا من الجهد، فنسبوا الفضل لأنفسهم، وأنكروا يد الله عليهم؟!
يا سبحان الله! ما أسرع ما ينسى الناس!
كلاّ، أيها الناس، إنه ليس بالجدّ وحده ينال المرء، ورحم الله القائل:
إِذا لم يكن عون من الله للفتى
…
فأول ما يجني عليه اجتهاده
وصدق الله العظيم: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (النحل: 53)!
هكذا يدفع الله عن النفوس المؤمنة محنة اليأس القاتل، وفتنة الغرور الكاذب، ويبدّ لهم منهما أملاً قاصداً، لا يبطره الظفر، ويفسده الإخفاق!