الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ودعوته صلى الله عليه وسلم تستهدف تخليصهم من مساوئ الأنانية، وسيطرة الغرائز الماديّة في رغائبها وشهواتها، لتقيمهم أئمّة، في مشاهد الإيثار والإفضال، في جوّ من الإخاء الإيماني الذي لا يعرف: هذا لي وحدي، ولكنه يعرف ما يقرؤه في دستور رسالته الخالدة:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} [الحجرات: 10]!
والأخوّة تعني المشاركة في جلب المنافع، ودفع المضار، والحياة -في شرعة الإخاء الإيماني- للناس جميعًا، لا يستأثر بشيء منها أحد، فمن احتاج منها أخذ بقدر حاجته وطاقته، ومن وجدها في يده جاد بها وأعطى!
تلك إشارات إلى أهداف رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم، وغاياتها ومقاصدها، جعلت العلم بجميع فنونه الماديّة والفكريّة، والمعرفة بأنواعها التجريبية والعقليّة وسيلة تحقيقها لكن المجتمع البشري الذي أُرسل فيه وإليه محمَّد صلى الله عليه وسلم بجميع أممه وشعوبه، وجماعاته وأفراده، لم يكن يعرف هذه الأهداف، ولا يحاول أن يعرفها؛ بل كان هذا المجتمع يعيش على نقائض هذه الأهداف الإصلاحيّة، التي تطلب في قوة حازمة، وعزيمة صارمة، من حاملي أمانتها، ووارثي تبليغ رسالتها أن يعملوا بكل ما أوتوا من طاقات وقوى، على كسر حدة تلك النقائض، ليخرجوا الحياة بمن فيها وما فيها من ظلمات الأثرة، وظلم الأنانية، إلى نور الإيمان والهداية، وعدل المساواة والمواساة، بتطبيق دستور هذه الرسالة الخالدة في واقع الحياة!
18 - فترة الوحي:
ونجد أنفسنا أمام فترة الوحي التي كانت لطفًا من الله عز وجل ورحمةً بخاتم رسله صلى الله عليه وسلم، ونحن نقرأ: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 1: 11]!
وتلك السورة بموضوعها، وتعبيرها، ومشاهدهما، وظلالها وإيقاعها (1)، لمسة من حنان، ونسمة من رحمة، وطائف من ود، ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع، وتنسم بالرّوْح والرضى والأمل، وتسكب البرد والطمأنينة واليقن!
إنها كلها خالصة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، كلها نجاء له من ربّه، وتسرية وتسلية وترويح وتطمين، كلها أنسام من الرحمة، وأنداء من الودّ، وألطاف من القربى، وهدهدة للروح المتعب، والخاطر المقلق، والقلب الموجوع!
يروي الشيخان وغيرهما عن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال (2): اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقُم ليلتين أو ثلاثًا، فجاءت امرأة فقالت: يا محمَّد، إِنّي لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قَرِبك منذ ليلتين، أو ثلاثًا، فأنزل الله عز وجل:{وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} !
قال ابن حجر بعد أن ذكر بعض الروايات التي لم تثبت: والحق أن الفترة المذكورة في سبب نزول {وَالضُّحَى} غير الفترة المذكورة في ابتداء الوحي،
(1) في ظلال القرآن: 6: 3925 وما بعدها بتصرف.
(2)
البخاري: 65 - التفسير (4950)، ومسلم (1797)، وأحمد: 4: 312، والبيهقي: 3: 14، والدلائل: 7: 58 - 59، وأبو عوانة: 4: 340، والطبراني: الكبير (1711).
فإن تلك دامت أيّامًا، وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثًا، فاختلطا على بعض الرواة (1)!
والوحي ولقاء جبريل والاتصال بالله، زاد الرسول صلى الله عليه وسلم في مشقّة الطريق، وسقياه في هجير الجحود، وروْحه في لأواء التكذيب، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحيا بها في هذه الهاجرة المحرقة التي يعانيها في النفوس النافرة الشاردة العصيّة العنيدة، ويعانيها في المكر والكيد والأذى المصبوب على الدعوة، وعلى الإيمان، وعلى الهُدى من طغاة المشركين!
فلما فتر الوحي انقطع الزاد، وانحبس عنه الينبوع، واستوحش قلبه من الحبيب، وبقي للهاجرة وحده بلا زاد، وبلا ريّ!
وقد نزل هذا الفيض من الودّ والحبّ والرحمة، والإيناس والقربى، والأمل والرضى، والطمأنينة واليقين!
ويطالعنا القسم على إنعام الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم (2)، وإكرامه له، وإعطائه ما يرضيه، وذلك متضمّن لتصديقه له، فهو قسم على صحة نبوّته، وعلى جزائه في الآخرة، قسم على النبوّة والمعاد!
وقد أقسم الله تعالى بآيتين عظيمتين من آياته، دالّتين على ربوبيّته وحكمته ورحمته، وهما: الليل والنهار، فتأمّل مطابقة هذا القسم، وهو نور الضحى الذي يوافي بعد ظلام الليل للمقسم عليه، وهو نور الوحي الذي وافاه بعد احتباسه عنه، حتى قال أعداؤه: ودع محمدًا ربُّه، فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الضحى ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه!
(1) انظر: فتح الباري: 8: 710، 12: 359 وما بعدها.
(2)
بدائع التفسير: 5: 255 وما بعدها بتصرف.
وأيضاً فإن فالق ظلمة الليل على ضوء النهار هو الذي فلق ظلمة الجهل والشرك بنور الوحي والنبوّة!
فهذان للحسّ!
وهذان للعقل!
وأيضاً فإن الذي اقتضت رحمته ألا يترك عباده في ظلمة الليل سرمدًا، بل هداهم بضوء النهار إلى مصالحهم ومعايشهم، لا يليق به أن يتركهم في ظلمة الجهل والغيّ، بل يهديهم بنور الوحي والنبوّة إلى مصالح دنياهم وآخرتهم!
فتأمّل حُسن ارتباط المقسم به بالمقسم عليه!
وتأمّل هذه الجزالة والرونق الذي على هذه الألفاظ، والجلالة التي على معانيها!
ونفى سبحانه أن يكون ودع نبيّه أو قلاه، فالتوديع: الترك، والقلى: البغض، فما تركه منذ اعتنى به وأكرمه، ولا أبغضه منذ أحبّه، وأطلق سبحانه أن الآخرة خير له مما قبلها، ثم وعده بما تقرّ به عينه، وتفرح به نفسه، وينشرح به صدره، وهو أن يعطيه فيرضى، وهذا يعمّ ما يعطيه من القرآن والهدى والنصر، وكثرة الأتباع، ورفع ذكره، وإعلاء كلمته، وما يعطيه بعد مماته، وما يعطيه في موقف القيامة، وما يعطيه في الجنّة (1)!
ونبصر في القسم -كما أسلفنا- بالآنيْن الرائقين (2)، والربط بين ظواهر الكون ومشاعر النفس، ما يوحي إلى القلب البشري بالحياة الشاعرة المتجاوبة
(1) انظر: التبيان في أقسام القرآن: 72 - 75، وعدة الصابرين: 154 - 155، ومدارج السالكين: 2: 449.
(2)
في ظلال القرآن: 6: 3926 وما بعدها بتصرف.
مع هذا الوجود الجميل الحيّ، المتعاطف مع كل حي، فيعيش ذلك القلب في أنس هذا الوجود، غير موحش ولا غريب فيه فريد!
ونبصر أنسًا له وقعه .. وكأنما يوحي مطلع السورة أن الله قد أفاض من حول رسوله صلى الله عليه وسلم الأنس في هذا الوجود، وأنه من ثم غير مجفوّ فيه ولا فريد!
ونبصر جميل صنع الله برسوله .. ومودَّته له، وفيضه عليه، واستعادة مواقع الرحمة والودّ والإيناس الإلهي، وهو متاع فائق تحييه الذكرى على هذا النحو البديعِ:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} !
انظر في واقع حالك، وماضي حياتك، هل ودعك ربك وهل قلاك -حتى قبل أن يعهد إليك بهذا الأمر؟
ألم تحط يتمك رعايته؟
ألم تدرك حيرتك هدايته؟
ألم يغمر فقرك عطاؤه؟
لقد ولدت يتيمًا فآواك إليه، وعطف عليك القلوب، حتى قلب عمك أبي طالب وهو على غير دينك!
ولقد كنت فقيرًا فأغنى الله نفسك بالقناعة، كما أغناك بكسبك ومال أهلك بيتك عن أن تحسّ الفقر، أو تتطلّع إلى ما حولك من ثراء!
ثم لقد نشأت في جاهلية مضطربة التصوّرات والعقائد، منحرفة السلوك والأوضاع، فلم تطمئن روحك إليها، ولكنك لم تكن تجد لك طريقًا واضحًا مطمئنًا، لا فيما عند الجاهليّة ولا فيما عند أتباع موسى وعيسى .. ثم هداك الله بالأمر الذي أوحى به إليك، وبالمنهج الذي يصلك به!