الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تكن كثيفة الحجاب، تمنع المتسمّع من السمع، وتحجب الناظر من اللمح، وتحول دون المترقب أن يعرف، وكانوا يسمعون إلى قراءته في جوف الليل، إذا قام لصلاة التهجّد، فلما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقم لصلاته ليلتين أو ثلاثًا، وفقد جيران السوء صوته صلى الله عليه وسلم بالقراءة في هذه الفترة ظنّوا به ظنّ السوء، وتقوّلوا عليه بالبهتان ما تقوّلوا من الشماتة والطعن، فأنزل الله عليه سورة {وَالضُّحَى} تنافح عنه، تلطفًا به، وتثبيتاً لفؤاده، ورداً لتقوّلات أعدائه وشانئيه، وتحريكًا لعوامل الشوق والتشوّف إلى مثل ما عهد وسمع وذاق من حلاوة الانّصال بالملأ الأعلى من طريق الوحي!
ومعلوم أن سورة {وَالضُّحَى} نزلت بسبب فترة الوحي أيّامًا قلائل، لأمر عرض لرسول صلى الله عليه وسلم، فتحدّث بذلك المشركون حديث الشامت العائب المعيِّر .. فتداركه الله عز وجل بلطفه وتثبيته وتكذيب أعدائه وشانئيه، وتطمين المؤمنين بهديه ورسالته بهذه السورة الكريمة -كما عرفنا- التي تجبه المفترين بنفي ما زعموه، وتعدّد نعم الله الخاصة على نبيّه وحبيبه، وتبشّره بأنّه صلى الله عليه وسلم لا يزال يزداد شرفًا في رفعة قدره، وفضلًا في علوّ شأنه، وأن مستقبل أمره أجلّ قدرًا وشرفًا من حاضره وماضيه، وأن إنعام الله عليه في نهاياته أعظم من إنعامه عليه في بداياته، وأن الحفاوة به في مدارج رسالته، ومصاعد حياته خيرٌ له من مطالع اصطفائه صلى الله عليه وسلم!
20 - بناء صرح الرسالة الخالدة:
وبين طرفي مكة من الشمال إلى اليمين على قيد خطوات من (غار حراء) - على نحو فرسخين من شمال مكة على طريق الذاهب منها إلى منى إلى (غار
ثور) -كما سيأتي- على نحو ميلين من يمين مكة، على طريق الذاهب منها إلى اليمين -مشى الزمان بخطا، يسرع مرّة فيوسّعها، ويتّئد أخرى فيقيّدها، وهو يشهد بكل ما فيه من وعي ويقظة بناء صرح الرسالة الخاتمة الخالدة، رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم، عقيدةً وتأصيلًا في كفاح صبور، وصبر مكافح، على مدى عشر سنين، منذ بدأت أنفاس الرسالة تستهلّ وجودها في الحياة، وتتنزّل آياتها على قلب محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعظم لقاء، وأخطر مواجهة، تمّت بين مصطفى الملأ الأعلى أمين أمناء الوحي جبريل عليه السلام ومصطفى الكمال البشري أمين أمناء الله في تلقّي كلمته محمَّد صلى الله عليه وسلم، بعد اكتمال نبوّته في مرحلتها الانفراديّة بمراتب وحيها الخاص على مدى ثلاث سنين قبل استهلال الرسالة؛ لتكون تمهيدًا لانطلاق الإنسانيّة إلى غايتها المقدورة لها في مدارج الكمال الفكري والاجتماعي، مظلّلًا بإشراق الروح، واستقامة العقل!
ولمّا اكتمل البناء العقدي لهذه الرسالة الخالدة، ورسخت دعائمه، وتضافرت دلائله وبراهينه، وتظاهرت آياته، تهاوت في سفحه الوثنيّات متهالكة، تلفظ آخر أنفاسها، وقامت منائر التوحيد تعلن عن جلال الله تعالى وكبريائه، سامقة سامية، مشرقة مضيئة -تنادي الشرك بوثنيّاته مستصرخًا جنده، جند الشيطان في بأس بليد، وتدبير جازم أثيم، وعناد جحود، توهّمًا من ذوي الرؤوس الخاوية، والبطون المكتظّة، أن يصدّوا بنفخ أفواههم تيّار الإيمان بالحق، وهو يجري في محيط الحياة مزمجراً كاسحًا أوضار الوثنيّات البليدة، شامخًا بعرنينه الأشمّ، باذخًا بفضله، فتخيلوا وخالوا، وتوهّموا وائْتَمروا وتَجمّعوا ليبَلغَوا أربًا صوره الحقد الكفور!
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ
كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} (التوبة)!
وكان ربّ محمَّد صلى الله عليه وسلم لهم بالمرصاد، فأبلغه مكرهم وكيد تدبيرهم، وحاطه بعنايته، وتولاّه برعايته، حتى أبلغه مأمنه، وآواه إلى كنفه، وكنفه بمعيّته في نهاية المقام التأسيسي لرسالته، وأدخله آمنًا، بصحبة صدّيقه في (غار ثور)، على بعد خطوات من (غار حراء)، حيث بدأ نور الرسالة يسطع هاديًا مشرقًا، إذ بشّره بنصره، وإعلاء كلمته:{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)} (التوبة)!
وسبق أن عرفنا أن الدعامة الأولى في بناء صرح الرسالة الخاتمة الخالدة، رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم هي (الكلمة) وهي في حقيقتها الإلهيّة، ومكانها من الرسالة، وواقعها من تاريخ الحياة، أضخم عنوان لأعظم حقيقة في وجود الحياة الإنسانيّة وتطوّرها، وهذه الحقيقة هي (العلم) بأوسع ما يمكن أن يتصوّره خيال، أو يتّسع له واقع الحياة في الوجود!
وهي دعامة غريبة عجيبة، لم يسبق لها وجود في بناء الرسالات الإلهيّة التي سبقت رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف تاريخ الرسالات الإلهية أن رسالة منها قام أساس بنائها على (الكلمة)، وهي في منطوقها كلمة واحدة، ولكنها بمضمونها تنطوي على حقائق الحياة والكون إلا رسالة الإِسلام الخاتمة!
هذه الكلمة {اقْرَأْ} كانت نبعًا نميرًا في صحراء الحياة القاحلة الجديدة حسًّا ومعنى، وقد تفجّرت من هذا النبع النمير عيون حياة جديدة، عريضة مخصبة، مادّة وفكرًا وروحانيّة، وسعت الدنيا بأقطارها وحذافيرها، عدلاً ورحمةً، وهدى ونورًا، وعلمًا ومعرفةً، وإصلاحًا وخيراً وبركةً!
وكانت شمسًا في أفق الحياة، أشرقت بأضوائها آفاق الكون فأنارت الوجود على رحبه، وأدفأت المقرورين بحرارة أشعّتها، وهدت الحيارى الشاردين من لفح المظالم في لذعات سموم الطغيان والاستبداد الظلوم، إلى ظلّ من العدل المواسي، والتعاون المبرور، والإخاء الكريم!
والكلمة المقروءة لابدّ أن تكون مكتوبة، ومن هنا كان اختيار كلمة {اقْرَأْ} لتكون بما فيها من ومض الروحانيّة العليا دعامة لأساس رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم، وهي رسالة عامة شاملة خاتمة مهيمنة؛ فلا بد أن يقوم صرح بنائها على دعامة لها سرّ خلودها، دعامة فينانة لا ينفد ماء نبعها، ولا ينقطع مددها، أبديّة الرفد، سرمديّة الصفد، لا ينضب معينها، ولا ينشف عودها، ولا تيبس جذورها، فهي غضّة نضرة ما بقيت الحياة، وهي دانية القطوف، ظلّها ممدود، وأثرها في الحياتين محمود!