الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوصول إلى تبليغ دعوة الله تعالى .. على ألا يتغلّب ذلك على الاعتماد والتوكّل على الله (1)!
وسنرى في أحداث السيرة ما يفيدنا في هذا المقام!
9 - قوّة الإيمان:
وبلغت قوّة الإيمان ببعض هؤلاء السابقين رضي الله عنهم أن استولت عليهم حماسة الإيمان، فأبى إلا أن يعلن إسلامه، على ملأ الشرك ومجتمع الكفر، دون أن يحسب أيّ حساب لما يناله من الأذى في سبيل إيمانه!
ويطيب لنا أن نذكر ما رواه الشيخان عن ابن عباس- رضي الله عنهما قال: لمَّا بلغَ أبا ذرٍّ مبعثُ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركبْ إِلى هذا الوادي، فاعلَمْ لي علْم هذا الرجل، الذي يزعم أنه نبيٌّ، يأتيه الخبر من السماء، واسمعْ مِن قوله، ثم ائْتِني! فانْطلقَ الأخُ، حتى قدمِه، وسمِع من قوله! ثم رجَع إِلى أبي ذرٍّ، فقال له: رأيته يأْمُر بمكارِم الأخْلاق، وبكلامٍ ما هو بالشّعر! فقال: ما شَفَيْتنَي ممَّا أردت، فتَزَوَّدَ وحَمَل شَنَّةً له فيها ماءٌ، حتى قدمِ مكّة، فأتَى المسجد، فالتَمسَ النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفه، وكرِه أن يسْأل عنه، حتَّى أدركه بعضُ الليل، فرآه عليٌّ فعرف أنه غريبٌ، فلمَّا رآه تبعه، فلم يسأل واحدٌ منهما صاحبه عن شيء، حتى أصبح، ثم احتمل قِرْبَتَه وزاده إِلى المسجد، وظلَّ ذلك اليوم، ولا يراه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، حتى أمسى، فعادَ
(1) انظر: قواعد الأحكام في مصلحة الأنام: 1: 111 - 112، وفقه السيرة: البوطي: 77، وضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: 261، والسيرة النبويّة في ضوء المصادر الأصلية: 161، والمنهج الحركي للسيرة النبويّة:9.
إِلى مضْجعه، فمرَّ به عليٌّ فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه، فذهب به معه، لا يسأل واحدٌ منهما صاحبه عن شيء! حتى إِذا كان يوم الثالث، فعاد عليٌّ على مثل ذلك، فأقام معه، ثم قال: ألَا تُحدِّثُني؟ ما الذي أقدمك؟ قال: إِن أعطيْتَني عهداً وميثاقاً لتُرشِدَنَّني فعلت، ففعل، فأخبره قال: فإِنه حقٌّ، وهو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فإِذا أصبحتَ فاتَّبعني، فإِنّي إِن رأيت شيئاً أخاف عليكَ، قُمتُ كأنّي أُريق الماء، فإِن مضيتُ فاتبَّعني حتى تدخلُ مَدْخلي! ففعل، فانطلق يقْفوه، حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل معه، فسمع من قوله، وأسْلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ارْجِعْ إِلى قومك، فأخْبرهُم، حتى يأتيك أمْري" قال: والذي نفسي بيده! لأصرُخَنَّ بها بين ظَهْرانَيْهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صَوْته: أشهد أن لا إِله إِلا الله، وأن محمداً رسول الله! ثم قام القوم، فضربوه، حتى أوجعوه! وأتى العباس، فأكبّ عليه، قال: ويلكم! ألستم تعلمون أنه من غِفَار، وأن طريق تجارتكم إِلى الشام؟ فأنقذه منهم! ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه، وثاروا عليه، فأكبّ العباس عليه (1)!
لقد أسلم أبو ذرّ رضي الله عنه في وقت كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله سراً .. ولكنه يتمثل في الرسول الذي آمن به، وفي الدعوة التي عرف تباشيرها ونطق بها لسانه، يتحدّى كبرياء قريش، وينادي بأعلى صوته:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله!
ويكرر ذلك النداء .. ويحدّث قومه عن الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم!
(1) البخاري: 63 - مناقب الأنصار (3861)، وانظر: 61 - المناقب (3522)، ومسلم (2474).
ونجد أنفسنا أمام قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وغيره بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء، أصدق من أبي ذرّ"(1)!
إنه الصدق الجسور .. صدق الباطن، وصدق الظاهر .. صدق العقيدة، وصدق اللهجة!
والصدق ولاء رشيد للحق، وتعبير جريء عنه، وسير حثيث معه!
حقًّا، لم يشهد التاريخ بطوله وعرضه .. من الصدق وتحرّي الحقيقة ما شهده في إيمان أولئك السابقين الذين سجّل تاريخهم هذا الصدق الذي يسمو ويتألق!
لم يشهد رجالاً عقدوا عزمهم ونواياهم على غاية تناهت في العدالة والسمو، ونذروا لها حياتهم، على نسق تناهى في الجسارة والتضحية والعطاء .. كما شهد في أولئك الرجال!
لقد جاءوا الحياة في أوانهم المرتقب، ويومهم الموعود .. حين كانت تهيب الحياة بمن يجدّد لقيمها الروحية شبابها وصوابها .. وحين كانت تهيب بمن يضع عن البشريّة الرازحة أغلالها، ويحرّر وجودها ومصيرها!
وننتقل سراعاً إلى صورة أخرى مباركة طيّبة .. ونحن نذكر ما يرويه ابن إسحاق بسند مرسل عن عروة قال: كان أوّل من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله!
ما سمعتْ قريشٌ من هذا القرآن يُجْهَر لنا به قط، فَمَنْ
(1) الترمذي (3801)، وابن سعد: 4: 228، وابن أبي شيبة: 12: 124، وأحمد: 2: 163، 175، 223، وابن ماجه (156)، والدولابي: الكنى: 1: 146، والحاكم: 3: 342.
رجلٌ يُسْمِعَهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، قالوا: إِنا نخشاهم عليك، إِنما نريد رجلاً له عشيرةٌ يمنعونه من القوم إِن أرادوه! قال: دعوني فإِن الله سيمنَعُني! قال: فغدا ابن مسعود، حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام، ثم قرأ:(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم"! رافعاً بها صوته: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} (الرحمن)! قال: ثم استقبلها يقرؤها، قال: فتأمّلوه، فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أمِّ عبد؟ قال: ثم قالوا: إِنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إِليه، فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ، حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ! ثم انصرف إِلى أصحابه، وقد أثّروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غداً، قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون (1)!
ويطالعنا ما رواه الشيخان وغيرهما عن عبد الله قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليّ: قلت: أأقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: لا فإِنّي أحبّ أن أسمعه من غيري "! فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} (النساء)! قال: " أمسك "! فإِذا عيناه تذرفان! (2)!
(1) السيرة النبويّة: ابن هشام: 1: 388، وقد صرح ابن إسحاق بالسماع. وسنده مرسل عن عروة، وانظر: الطبري: التاريخ: 2: 334 - 335.
(2)
البخاري: 65 - التفسير (4582)، وانظر (5049، 5050، 5055، 5056)، ومسلم (800)، وابن أبي شيبة: 10: 563، وأحمد: 1: 380، 433، وأبو داود (3668)، والترمذي (3028)، والشمائل (316)، والبغوي (1220)، والطبراني (8462، 8463، 8467)، وابن حبان (735).
إننا نبصر قوة الإيمان في حياة هؤلاء السابقين، أهل القرآن، الذين استطاعوا في مثل سرعة الضوء أن يضيئوا الضمير الإنساني بحقيقة التوحيد!
ونبصر كيف دمدم هؤلاء على العالم القديم بإمبراطورياته وصولجانه، وحوّلوه إلى كثيب مهيل؟
ولو لم يكن من آثار الاستسرار بالدعوة، وسداد حكمتها إلا أنها جذبت في أوّل خطواتها إلى ساحة الإيمان بالرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء السابقين لكفاها نُجحاً وتوفيقاً وسدادًا!
وقد جذبت إلى ساحتها في السنة الثانية من البعثة -كما قال ابن حجر (1) حمزة بن عبد المطلب، وهو أعزّ فتى في قريش، وأشد شكيمة، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخوه من الرضاع، وابن خالته نسباً ومنزلة، فأمه هالة بنت وهيب ابن عبد مناف بن زهرة، ابن عم آمنة بنت وهب بن عبد مناف، أم سيّد الخلق، محمد صلى الله عليه وسلم!!
وقد ذكر ابن إسحاق وغيره قصة إسلام حمزة رضي الله عنه، وذكر أن الداعي الأول هو الحميّة القوميّة الغاضبة لدفع الإساءة التي وجّهت ظلماً لابن أخيه محمَّد صلى الله عليه وسلم، من أحد أحلاس الغرور الوثنيّ الفاجر، ولكن الله تعالى في تقديره الأزلي، وغيبة المحجوب عن رؤى الناس جعل من هذه الحميّة العصبيّة الخير كله لحمزة رضي الله عنه للإسلام والمسلمين، فأسلم حمزة لما أراده الله به من المنزلة التي هو أهل لها في الإسلام (2)!
(1) انظر: الإصابة: 2: 37 (1822).
(2)
انظر: ابن هشام: السيرة النبويّة: 1: 360 وما بعدها، وقد صرح بالسماع، وسنده منقطع، وابن سعد: 3: 9 من طريق الواقدي، والطبراني عن محمَّد بن كعب القرظي =
وحين أسلم قال:
حمَدْت الله حين هدى فؤادي
…
إِلى الإِسلام والدّين الحنيف
لِدِينٍ جاء من ربٍّ عزيزٍ
…
خبيرٍ بالعباد بهم لطيفِ
إِذا تُليتْ رسائله علينا
…
تَحدَّرَ دَمْعُ ذي اللبِّ الحصيف
رسائل جاء أحمدُ من هُداها
…
بآياتٍ مبيَّنَةِ الحُروف
وأحمد مصطفى فينا مُطَاعٌ
…
فلا تغْشُوهُ بالقول الضعيف
فلا والله نُسْلمه لقومٍ
…
ولمَّا نَقْض فيهم بالسيوفِ
ونترك منهمُ قَتلى بقاعٍ
…
عليها الطير كالوِرْدِ العُكوفِ
= مرسلاً، ورجاله رجال الصحيح، ورواه عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة مرسلاً، ورجاله ثقات، انظر:"المجمع: 9: 267، والحاكم: 3: 192 - 193، والبيهقي: "الدلائل": 2: 213 - 214.
وقد خُبّرت ما صنعتْ ثقيفُ
…
به فجزى القبائل من ثقيفِ
إِلِهُ الناس شرّ جزاء قَوْمٍ
…
ولا أسْقاهُمُ صَوْبَ الخريف (1)
ومضى حمزة رضي الله عنه في طريق الإيمان (2)، والذود عن الدعوة، حتى بلغ مقاماً رفيعاً، وكان إسلامه عزاً للمسلمين، ومنعةً وقوّة للنبي صلى الله عليه وسلم، أخذت به قريش، فأصابها المقيم المقعد، وشرقت بإسلامه، فكان شجاً في حلاقيمها، وأذلّ كبرياءها، وظهرت به الدعوة بعد استخفائها، وأعلنت بصوته كلمة الحق بعد استتارها، وجهر بالتكبير لله تعالى على سمع طغاة الشرك، فأراهم حقارة عقولهم في حقارة معبوداتهم، وأراهم عزّة الحق وانتصاره!
وسيأتي مزيد بيان مكانته رضي الله عنه!
(1) الروض الأنف: 2: 49 - 50، وسبل الهدى والرشاد: 2: 333.
(2)
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1: 609 بتصرف.