الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إننا نعاني من ويلات الجاهلية، والإِسلام منا قريب .. ونعاني من حرب الجاهلية وسلام الإِسلام في متناول أيدينا لو نشاء .. فأيّة صفقة خاسرة هذه التي نستبدل فيها الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ ونشتري فيها الضلالة بالهدى؟ ونؤثر فيها الحرب على السلام؟!
إننا نملك إنقاذ البشريّة من ويلات الجاهليّة وحربها المشبوبة في شتّى الصور والألوان .. ولكننا لا نملك ذلك قبل أن ننقذ نحن أنفسنا .. وقبل أن نفيء إلى ظل السلام، حين نفيء إلى رضوان الله ونتبع ما ارتضاه، فنكون من هؤلاء الذين يقول الله عنهم:{وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} !
والجاهلية كلها ظلمات .. ظلمة الشبهات والخرافات والأساطير والتصورات .. وظلمة الشهوات والنزعات والاندفاعات في التيه .. وظلمة الحيرة والقلق والانقطاع عن الهدى والوحشة من الجناب الآمن المأنوس .. وظلمة اضطراب القيم وتخلخل الأحكام والقيم والموازين .. والنور هو النور!
{وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (175)} !
مستقيم مع فطرة النفس ونواميسها التي تحكمها .. مستقيم مع فطرة الكون ونواميسه التي تصرفه .. مستقيم إلى الله، لا يلتوي ولا تلتبس فيه لحقائق والاتجاهات والغايات!
3 - مكانة التوحيد:
ومعلوم أن التوحيد قاعدة العقيدة، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} (الأنبياء)!
ومعلوم أن الأحديّة عقيدة للضمير، وتفسير للوجود، ومنهج للحياة، قال تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} (سورة الإخلاص)!
وليس هناك حقيقة إلا تلك الأحديّة (1)، وليس هناك وجود إلا هذا الوجود .. وكل موجود يستمدّ وجوده من ذلك الوجود الحقيقي، ويستمدّ حقيقته من تلك الحقيقة الذاتيّة!
وهي أحدية الفاعليّة .. وإذا استقرّ أمر تلك العقيدة، ووضح هذا التصوّر، خلص الجنان في الإنسان من كل غاشية ومن كل شائبة، ومن كل تعلّق آخر .. وخلص لله -جلَّ شأنه!
ولا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود .. ولا حقيقة لفاعليّة إلا تلك الإرادة .. وعلام يتعلّق الجَنان بما لا حقيقة لوجوده ولا لفاعليّته!
وحين يخلص جنان الإنسان من الشعور بغير هذه الحقيقة الواحدة، ومن التعلّق بغيرها .. يتحرّر من جميع القيود، وينطلق من كل الأوهاق .. يتحرّر من الرغبة، وهي أصل قيود كثيرة .. ويتحرر من الرهبة كذلك .. وفيم يرغب وهو لا يفقد شيئًا متى آمن بالله؟ ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعليّة إلا لله؟
ومتى استقرّ هذا التصوّر الذي لا يرى في الوجود إلا حقيقة الله، فستصحبه رؤية هذه الحقيقة في كل وجود آخر انبثق عنها .. وهذه درجة يرى فيها الجنان قدرة الله في كل شيء يراه .. ووراءها الدرجة التي لا يرى فيها شيئًا في الكون إلا هذه القدرة؛ لأنه لا حقيقة هناك يراها إلا هذه القدرة!
(1) في ظلال القرآن: 6: 4002 وما بعدها بتصرف.
وهنا تنسكب في الجنان الطمأنينة!
و (الدّين القيم)، دين الأمّة الوسط الخيرة، يريد من الناس أن يسلكوا الطريق إلى هذه الحقيقة، وهم يكابدون الحياة الواقعيّة بكل خصائصها، ويزاولون الحياة البشريّة بكل معالمها، والخلافة الأرضية بكل مقوّماتها!
ومن هنا ينبثق منهج كامل للحياة، قائم على ذلك التفسير وما يشيعه في النفس من تصوّرات ومشاعر واتجاهات!
منهج للعبادة!
ومنهج للتلقّي!
ومنهج للتحرّك!
وهو منهج رفيق طليق .. الأرض فيه صغيرة، والحياة الدنيا قصيرة، ومتاعها زهيد قليل .. والانطلاق من هذه الحواجز والشوائب غاية وأمنية .. وليس معنى هذا الاعتزال ولا الإهمال، ولا الكراهية ولا الهروب .. إنما معناه المحاولة المستمرّة، والكفاح الدائم لترقية البشريّة كلها، وإطلاق الحياة البشريّة جميعها .. ومن ثم فهي الخلافة والقيادة بكل أعبائها .. مع التحرّر والانطلاق بكل مقوّماتهما!
يروي الترمذي وغيره بسند صحيح عن أبيّ بن كعب: أَن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انْسُبْ لنا ربّك، فأنزل الله:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} !
فالصمد: الذي لم يَلِدْ ولم يُولد؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله عز وجل لا يموت، ولا يورث:
{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} !
قال: لم يكن له شبيهٌ ولا عِدْل، وليس كمثله شىِء (1)!
ويروي البخاريُّ وغيره عن أبي سعيد الخدري: أن رجلًا سمع رجلًا يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ! يردّدها، فلما أصبح جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له -وكأن الرجل يتقالها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده! إِنها لتعدل ثلث القرآن"(2).
قال ابن حجر (3): حمله بعض العلماء على ظاهره، فقال: هي ثلث باعتبار معاني القرآن؛ لأنه أحكام وأخبار وتوحيد، وقد اشتملت هي على القسم الثالث، فكانت ثلثًا بهذا الاعتبار، ويستأنس لهذا بما أخرجه أبو عبيد من حديث أبي الدرداء قال:
جزأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ثلاثة أجزاء:
فجعل قل هو الله أحد جزءًا من أجزاء القرآن!
(1) الترمذي (3364)، وأحمد: 5: 134، والبخاري: التاريخ الكبير: 1 (778)، والطبري: التفسير: 30: 342، وابن خزيمة: التوحيد: 41، والحاكم: 2: 540 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والبيهقيُّ: الأسماء والصفات: 1: 419.
(2)
البخاريُّ: 66 - فضائل القرآن (5013)، وانظر (6643، 7374)، ومالك: 1: 208، وأحمد: 3: 35، وأبو داود (1461)، والنسائيُّ: 2: 171، والكبرى (1067، 10534)، وعمل اليوم والليلة (698)، والبغويُّ (1209)، والطحاوي: مشكل الآثار (1217، 1218)، وأبو يعلى (1548)، وابن عبد البر: التمهيد: 19: 226، 230، والبيهقيُّ: 3: 21، وابن حبّان (791).
(3)
فتح الباري: 9: 61، وانظر: كتاب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن من أن (قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن، لشيخ الإِسلام ابن تيمية، وهو كتاب قيّم!
هذا، وافتتاح السورة بالأمر بالقول لإظهار العناية بما بعد فعل القول (1)، وقد عرفنا أن السورة نزلت على سبب السؤال، فكانت جوابًا على سؤال السائلين، فلذلك قال الله له:{قُلْ} ، فكان للأمر بفعل {قُلْ} ، تلك الفائدة!
وضمير {هُوَ} ، ضمير الشأن لإفادة الاهتمام بالجملة التي بعده، وإذا سمعه الذين سألوا تطلّعوا إلى ما بعده!
ويجوز أن يكون {هُوَ} أيضًا عائدًا إلى الربّ في سؤال المشركين حين قالوا: (انْسُبْ لنا ربك)!
وقوله: {أَحَدٌ} معناه أنه منفرد بالحقيقة التي لوحظت في اسمه العلم، وهي الإلهّية المعروفة، فإذا قيل:{الله أَحَدٌ} فالمراد أنه منفرد بالإلهيّة، وإذا قيل (الله واحد)؛ فالمراد أنه واحد لا متعدّد، فمن دونه ليس بإله، ومآل الوصفين إلى معنى نفي الشريك له تعالى في إلهيته!
فلما أريد في صدر البعثة إثبات الوحدة الكاملة لله، تعليمًا للناس كلهم، وابطالاً لعقيدة الشرك، وُصف الله في هذه السورة بـ {أَحَدٌ} ولم يوصف بـ (واحد)؛ لأنّ الصفة المشبّهة نهايةُ ما يمكن به تقريب معنى وحدة الله تعالى إلى عقول أهل اللسان العربيّ المبين!
وقال ابن سينا: إن {أَحَد} دالّ على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه، وأنه لا كثرة هناك أصلًا، لا كثرة معنويّةً، وهي كثرة المقوّمات، والأجناس، والفصول، ولا كثرةً حسيّة، وهي كثرة الأجزاء الخارجيّة المتمايزة عقلًا، كما في المادّة والصورة، والكثرة الحسيّة بالقوّة أو بالفعل، كما في الجسم، وذلك
(1) التحرير والتنوير: 15: 612 وما بعدها بتصرف.
متضمّن لكونه سبحانه منزّهًا عن الجنس والفصل، والمادّة، والصورة، والأعراض، والأبعاض، والأعضاء، والأشكال، والألوان، وسائر ما يثلم الوحدة الكاملة، والبساطة الحقّة اللائقة بكرم وجهه عز وجل أن يشبهه شيء، أو يساويه سبحانه شيء، وتبيينُه:
أما الواحد فمقول على ما تحته بالتشكيك، والذي لا ينقسم بوجه أصلًا أولى بالواحديّة مما ينقسم من بعض الوجوه، والذي لا ينقسم انقسامًا عقليًا أولى بالواحديّة من الذي ينقسم انقسامًا بالحسّ بالقوة ثم بالفعل، فـ (أحد) جامع للدلالة على الواحديّة من جميع الوجوه، وأنه لا كثرة في موصوفه!
قال ابن القيم (1): فهو توحيد منه لنفسه، وأمر للمخاطب بتوحيده، فإذا قال العبد:{قُلْ هُوَ الله أحد (1)} كان قد وحّد الله بما وحّد به نفسه، وأتى بلفظ {قُلْ} تحقيقًا لهذا المعنى، وأنه مبلّغ محض، قائل لما أمر بقوله .. وهذا بخلاف قوله:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} (الفلق)!
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} (الناس)!
فإن هذا أمر محض بإنشاء الاستعاذة، لا تبليغ لقوله .. فإن الله لا يستعيذ من أحد، وذلك عليه محال، بخلاف قوله:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} !
فإنه خبر عن توحيده، وهو سبحانه يخبر عن نفسه بأنّه الواحد الأحد، فتأمّل هذه النكتة البديعة، والله المستعان (2)!
وقال: في سورة الإخلاص من كمال التوحيد العلمي الاعتقادي، وإثبات
(1) بدائع التفسير: 5: 367 وما بعدها بتصرف.
(2)
انظر: بدائع الفوائد: 2: 172.
الأحدية لله، المستلزمة نفي كل شركة عنه، وإثبات الصمديّة المستلزمة كل كمال له، مع كون الخلائق تصمد إليه في حوائجها، أي: تقصده الخليقة، وتتوجّه إليه، علويّها وسفليّها، ونفي الوالد والولد والكفء عنه، المتضمّن لنفي الأصل والفرع، والنظير والمماثل، مما اختصّت به، وصارت تعدل ثلث القرآن، ففي اسمه الصمد إثبات كل الكمال، وفي نفي الكفء التنزيه عن التشبيه والمثال، وفي الأحد نفي كل شريك لذي الجلال، وهذه الأصول الثلاثة هي مجامع التوحيد (1)!
وقال: فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} : متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للربّ تعالى من الأحديّة المنافية المشاركة بوجه من الوجوه، والصمديّة المثبتة له جميع صفات الكمال التي لا يلحقها نقص بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد الذي هو من لوازم الصمديّة، وغناه وأحديّته ونفي الكفء المتضمّن لنفي التشبيه والتمثيل والتنظير!
فتضمَّنت هذه السورة إثبات كل كمال له، ونفي كل نقص عنه، ونفي إثبات شبيه أو مثيل له في كماله، ونفي مطلق الشريك عنه!
وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي الذي يباين صاحبه جميع فرق الضلال والشرك!
ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن، فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة: أمر! ونهي! وإباحة!
والخبر نوعان:
خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته، وأحكامه!
(1) انظر: زاد المعاد: 4: 180.