الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7 - وصايا قرآنيّة:
ويطالعنا النداء العلويّ الجليل، للأمر العظيم الثقيل .. نذارة هذه البشريّة وإيقاظها، وتخليصها من الشرّ في الدنيا، ومن النار في الآخرة، وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان .. وهو واجب ثقيل سياق، حين يناط بفرد من البشر -مهما يكن نبياً ورسولاً- فالبشرية امتلأت من الضلال والعصيان، والتمردّ والعتوّ، والعناد والإصرار، والالتواء، والتفصّي من هذا الأمر، بحيث تجعل من الدعوة أصعب وأثقل ما يكلفه إنسان من المهام في هذا الوجود (1)!
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} !
والإنذار هو أظهر ما في الرسالة، فهو تنبيه للخطر القريب الذي يترصّد للغافلين السادرين في الضلال وهم لا يشعرون .. وفيه تتجلّى رحمة الله بالعباد، وهم لا ينقصون في ملكه شيئاً حين يضلّون، ولا يزيدون في ملكه شيئاً حين يهتدون، غير أن رحمته اقتضت أن يمنحهم كل هذه العناية، ليخلصوا من العذاب الأليم في الآخرة، ومن الشرّ الموبق في الدنيا، وأن يدعوهم رسله ليغفر لهم ويدخلهم جنته من فضله!
ثم يوجه الله رسوله في خاصّة نفسه، بعد إذ كلّفه نذارة غيره:
فهو وحده الكبير، الذي يستحقّ التكبير، وهو توجيه يقرر جانباً من التصوّر الإيماني لمعنى الألوهيّة، ومعنى التوحيد!
(1) في ظلال القرآن: 6: 3754 وما بعدها بتصرف.
إن كل أحد، وكل شيء، وكل قيمة، وكل حقيقة .. صغير .. ! والله وحده هو الكبير .. ! وتتوارى الأجرام والأحجام، والقوى والقيم، والأحداث والأحوال، والمعاني والأشكال، وتنمحي في ظلال الجلال والكمال، لله الواحد الكبير المتعال!
وهو توجيه للرسول صلى الله عليه وسلم ليواجه نذارة البشريّة، ومتاعبها وأهوالها وأثقالها، بهذا التصوّر، وبهذا الشعور، فيستصغر كل كيد، وكل قوّة .. وهو يستشعر أن ربه الذي دعاه ليقوم بهذه النذارة، هو الكبير .. ومشاق الدعوة وأهوالها في حاجة دائمة إلى استحضار هذا التصوّر، وهذا الشعور!
وبعد ذلك يطالعنا: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} !
وطهارة الثياب كناية في الاستعمال العربي عن طهارة القلب والخُلق والعمل .. طهارة الذات التي تحتويها الثياب، وكل ما يلمّ بها أو يمسّها .. والطهارة هي الحالة المناسبة للتلقّي من الملأ الأعلى .. كما أنها ألصق شيء بطبيعة هذه الرسالة، وهي بعد هذا وذلك ضروريّة لملابسة الإنذار والتبليغ، ومزاولة الدّعوة في وسط التيّارات والأهواء والمداخل والدروب .. وما يصاحب هذا ويلابسه من أدران وأخلاط وشوائب .. تحتاج من الداعية إلى الطهارة الكاملة؛ كي يملك استنقاذ الملوّثين دون أن يتلوّث، وملابسة المدنّسين من غير أن يتدنّس .. وهي لفتة دقيقة عميقة إلى ملابسات الرسالة والدعوة والقيام على هذا الأمر بين شتّى الأوساط، وشتّى البيئات، وشتّى الظروف، وشتّى القلوب!
وبعد ذلك يطالعنا قوله جل شأنه: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} !
والرسول صلى الله عليه وسلم -كما عرفنا- كان هاجراً للشرك، ولموجبات العذاب، حتى قبل النبوّة، فقد عافت فطرته السليمة ذلك الانحراف، وهذا الركام من المعتقدات الشائهة، وذلك الرجس من الأخلاق والعادات، فلم يعرف عنه أنه شارك في شيء من خوض الجاهلية .. ولكن هذا التوجيه يعني المفاصلة، وإعلان التميّز الذي لا صلح فيه ولا هوادة .. فهما طريقان، مفترقان لا يلتقيان، كما يعني التحرز من دنس هذا الرجز -والرجز في الأصل هو العذاب، ثم أصبح يطلق على موجبات العذاب- تحرزّ التطهر من مس هذا الدنس!
ويوجّهه إلى إنكار ذاته وعدم المنّ بما يقدّمه من الجهد، أو استكثاره واستعظامه:{وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)} !
وهو صلى الله عليه وسلم سيقدّم الكثير، وسيبذل الكثير، وسيلقى الكثير من الجهد والتضحية والعناء .. ولكن الله يريد منه ألا يظل يستعظم ما يقدّمه ويستكثره ويمتنّ به .. وهذه الدعوة لا تستقيم في نفس تحسّ بما تبذل .. فالبذل فيها من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه، بل حين لا تستشعره من الأصل؛ لأنها مستغرقة في الشعور بالله، شاعرة بأن كل ما تقدمه هو من فضله ومن عطاياه، فهو فضل يمنحها إيّاه، وعطاء يختارُهَا له، ويوفّقها لنيله، وهو اختيار واصطفاء وتكريم يستحق الشكر لله، لا المنّ والاستكثار!
ويوجهه أخيراً إلى الصبر لربّه: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)} !
وهي الوصية التي تتكرر عند كل تكليف بهذه الدعوة أو تثبيت، والصبر هو هذا الزاد الأصيل في هذه المعركة الشاقة .. معركة الدعوة إلى الله، المعركة المزدوجة مع شهوات النفوس وأهواء القلوب، ومع أعداء الدعوة الذين تقودهم شياطين الشهوات، وتدفعهم شياطين الأهواء!
وهي معركة طويلة عنيفة لا زاد لها إلا الصبر الذي يقصد فيه وجه الله، ويتّجه به إليه احتساباً عنده وحده!
وقد كانت الوصيّة الأولى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} ! نبراساً قويًّا أضاء لنا رقعة الوجود -كما يقول المرحوم الدكتور دراز (1) - فأرانا فيها مكاننا ومكانتنا، وحدّد لنا فيها وجهة سيرنا وقبلتنا .. ثم كانت هُتافاً عالياً هتف بنا أن نوجّه إلى هذه القبلة أبصارنا وبصائرنا .. قالت لنا -وما أصدق وأعدل ما قالت:
أيها الإنسان، لئن كنت قد هبطت من علياء الفردوس إلى هذه الأرض المتواضعة، لقد هبطت إليها واقفاً على قدميك، ولم تهبط إليها مكبًّا على وجهك ولديك!
ألم تر كيف خُلقت منصوب القامة، مرفوع الهامة؟ فجعل نصيب الأرض منك أن تطأها برجلك ونعلك!
أمَّا ناصيتك، فقد بقيت مرفوعةً إلى السماء، تذكّرك بما هنالك ومن هنالك، مِن وطنك وأهلك!
إن هذا الرأس المرفوع يتأبّى لك بفطرته أن تنكّسه وتقلب وجهه، خضوعاً لشيء من المخلوقات، أو ركوعاً لأحد من المخلوقين!
أيها الإنسان، لئن كان لك في هذه الأرض مستقرّ ومتاع إلى حين، لقد علمت أنك سوف تخرج منها إلى مستقر آخر، متى جاء هذا الحين .. فهل تحبّ أن تعرف حقيقة مصيرك ونهايتك؟!
(1) من خلق القرآن: 10 وما بعدها بتصرف.
ما عليك إذن إلا أن تنظر إلى أسلوب مسيرك في بدايتك، فإن كنت ممن يسيرون رافعي رؤوسهم، متطلّعين إلى الأفق الأعلى، فإن الأبرار الطائعين الفاعلين كل خير في عليّيّن:{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} (المطففين)!
ولفظ {عِلِّيِّينَ} يوحي بالعلوّ والارتفاع (1)!
وإن كنت ممن ينكّسون رؤوسهم أمام صنم الدنيا؛ فإن الفجّار العصاة في سجّين: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)} (المطففين)!
والفجار هم المتجاوزون للحدّ في المعصية والإثم (2)!
هكذا يكون المستقرّ في النهاية، حيث يتوجّه البصر في البداية:{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)} (الملك)!
والذي يمشي مكبًّا على وجهه إما أن يكون هو الذي يمشي على وجهه فعلاً، لا على رجليه في استقامة، كما خلقه الله، وإما أن يكون هو الذي يعثر في طريقه فينكب على وجهه، ثم ينهض ليعثر من جديد (3)!
(1) انظر: في ظلال القرآن: 6: 3858 وما بعدها.
(2)
انظر: المرجع السابق: 3857.
(3)
انظر: المرجع السابق: 3644.
وهذه كتلك حال بائسة تعاني المشقّة والعسر والتعثّر، ثم لا تنتهي إلى هدى ولا خير ولا وصول!
وأين هي من حال الذي يمشي مستقيماً سوياً في طريق لا عوج فيه ولا عثرات، وهدفه أمامه واضح مرسوم؟!
إن الحالة الأولى هي حال الشقي المنكود الضال عن طريق الله، المحروم من هداه الذي يصطدم بنواميسه ومخلوقاته؛ لأنه يعترضها في سيره، ويتخذ له مساراً غير مسارها، وطريقاً غير طريقها، فهو أبداً في تعثّر، وأبداً في عناء، وأبداً في ضلال!
والحال الثانية هي حال السعيد المهتدي إلى الله، الذي يسير وفق نواميسه في الطريق اللاحب المعمور، الذي يسلكه موكب الإيمان والحمد والتمجيد .. وهو موكب هذا الوجود بما فيه من أحياء وأشياء!
إن حياة الإيمان هي اليسر والاستقامة والقصد .. وحياة الكفر هي العسر والتعثر والضلال!
فأيّهما أهدى؟
وهل الأمر في حاجة إلى جواب؟
إنما هو سؤال التقرير والإيجاب؟
أيها الإنسان، إن لك في السماء مكاناً يناديك، ففرّ إليه، بل طر إليه .. أقم وجهك للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، ولا تكونن من المشركين:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} !
لكن هنا يتساءل المتسائلون، ويتعجّب المتعجّبون: بأيّ جناح تطير هذه الأرواح إلى مستقرّها الأرفع، بعد أن حملت من أوزار المادّة وأثقالها ما أوهن أجنحتها؟!
وكيف تطمع هذه الأرواح أن تعود كرّة أخرى إلى ذلك الرفيق الأعلى، وقد أصابها منذ هبطت إلى هذا الكوكب، من غبار الدنيا وغبرتها، ومن شعثها وقترتها، ما يباعد بينها وبين ذلك الأفق الأقدس الأطهر؟!
يتساءلون ويعجبون .. إنهم يرونه بعيداً، ولكن القرآن الكريم يراه قريبًا جدّ قريب!
ها هو ذا يرشد الأرواح إلى طهورها الذي يردّ إليها اعتبارها!
ها هو ذا يهيئ للأرواح معراجها الذي يعيدها إلى عزّة مكانها، وشرف جوارها!
{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} (القمر)!
نعم، لقد كانت الوصية الأولى حداءً للأرواح يدعوها إلى الملأ الأعلى:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} !
فجاءت هذه الوصيّة الثانية، تنصب للأرواح معراجها الذي تعرج فيه، لتلبية ذلك النداء:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} !
إنه لمعراج حقاً، ولكن أليس حسب الكسالى مثبطاً أنه معراج؟!
ومعلوم أن واجب الطهر ليس عمل ساعة، وإنما هو قرين العمر، وليس شغل يوم، ولكنه مشغلة الدهر!
إن الغبار متلاحق متواصل، لو ترك في أوقات متوالية تراكمت طبقاته، وتزايدت مشقاته!
وهو غبار أخّاذ نفّاذ، ينفذ من ظاهر الأغشية والأغطية، إلى باطن الصناديق والأوعية!
وهو غبار تتداعى أجزاؤه، وتتجاذب أطرافه، حتى ليفضي اليسير منه إلى الكثير، والصغير منه إلى الكبير!
ألا فلندع جانباً هؤلاء الكسالى، الذين كره الله انبعاثهم فثبّط عزائمهم، ولننظر إلى فضل الله علينا وعلى الناس؛ إذ جعل لنا في كل مرحلة من مراحل هذا الغبار الثائر، سبيلاً إلى التنزّه عنه، أو إلى التطهّر منه!
ذلك أن هذا الغبار -وإن نفذ من غلاف إلى غلاف، وإن اقتحم على النفس أسوارها، حجاباً بعد حجاب- لا يبلغَ جهده أنَ يصل إلى جوهرها الكمين في قراره المكين، كلا، ولو فعل .. إذن لسقط التكليف، ورفعت التبعات، وزالت حجّة الله على الناس!
وإنما قصارى أمره -ما دام زمام المسؤوليّة في أيدينا- أن يسدّ على النفس منافذ حسّها من قريب أو بعيد، وأن يغشى زجاجة نورها بحجاب رقيق أو غليظ فيدسّها ويخفيها .. ولكن ما هو إلا أن تزال عنها تلك الغشاوات والحجب، فإذا هي قد تجلّى نورها، وتدفّق ماء حياتها، وعادت كما كانت إلى السير!
ترى، ما كنه تلك الثياب التي أمرنا بتطهيرها؟
أما الحرفيّون الماديّون فإنهم يفهمون منها أدنى معانيها إلى حسّهم، ذلك
اللباس الذي تتوارى به أبداننا، أما المتفقّهون في أسرار اللغة والدّين، فإنهم يفهمون منها شمائل الأخلاق:{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)} (الأعراف)!
والقول الجامع أن النفس يحيط بها أربع طبقات، كل واحدة منها تعد ثوباً لها: أدناها إلى جوهرها طبقة الصفات والأحوال النفسيّة، وهذا هو ثوب الشعار!
ثم يلي ذلك ثلاث طبقات من الدثار: طبقة السير والأعمال!
ثم طبقة البنية والجثمان!
ثم طبقة الملبس!
والقرآن الكريم يناشدنا أن نحرص على طهارة الطبقات الأربع جميعاً، بل على طهارة كل ما نلامسه ونباشره من مكان ومصلّى ومسكن، وعلى التحلّي بكل حسن جميل، والتخلّي عن كل دنس ذميم، حسياً كان أو معنويًّا:
{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} (الأنعام: 120)!
{وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (الأنعام: 151)!
{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31)!
{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)} (الحج)!