الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يراد بها استبانة ما يقرؤه، والمعنى أيّ شيء أقرأ؟ كما يوضحه مجيء العبارة بصيغة الاستفهام الصريح، استخبارًا عما يريد منه أن يقرأه في مرسل ابن عمير:"ماذا أقرأ"؟!
و (ما) في المرّة الثالثة: "ما أنا بقارئ" استفهاميّة
بمعنى كيف، فهي استخبار عن الحالة التي يكون بها النبي صلى الله عليه وسلم قارئًا، وفي مرسل الزهري في دلائل البيهقي:"كيف أقرأ"؟! (1)
لأنّ تحقيق القراءة منه بعيد جدًا عن حالته التي وُلد عليها، ونشأ بها!
وجاء الرد بالآيات استجابة لطلب القراءة المطلق:
كن قارئًا إعجازًا، وحقّق القراءة، وأنت على أميّتك، مستعينًا باسم ربّك الذي ربّاك، وأعدّك لرسالتك الخالدة، وليست قراءتك المطلوبة منك أن تقرأ كما يقرأ غيرك تعلّمًا، وإنما أن تقرأ كما يعلّمك الله بعلمه الذي ربّاك في أحضان كرمه، وهو جل جلاله كما علّم الإنسان بقلم البيان تعلّمًا سيعلّمك بقلم الفضل والإحسان، لتكون معلّم الدنيا برسالتك الخاتمة لرسالات السماء!
وكان هذا أوّل لقاء يقظي بوحي قرآني بين خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم والروح الأمين جبريل عليه السلام وهو لقاء محجّب بستور الغيب!
3 - كمال البشريّة وميلاد الرسالة:
وقد كان كمال بشريّة محمَّد صلى الله عليه وسلم ممهدًا لميلاد رسالته .. ذلك أن طبيعة بشريّته التي وُلد بها ميلادًا بشريًّا، ونشأ عليها نشأة إنسانيّة -كما أسلفنا- هي
(1) انظر: فتح الباري: 1: 24.
التي عاش بها إنسانًا مع الناس في حياتهم (1)، يعاشرهم، ويتبادل معهم مطالب الحياة التي تقتضيها طبيعة البشر في دائرة أفضل الكمالات التي يمكن أن يكون عليها إنسان في حياته مع الناس!
وهذه الكمالات الإنسانيّة هي التي نشأ عليها، وعُرفت له في قومه وبلده، فتزوّج ووُلد له، وقام على رعاية أولاده وزوجه، وأصهر إلى أكرم قومه، وتعاون في أمور العيش وتكاليف الحياة وأعبائها مع أهله وجيرانه، وسائر قومه، يواسي قرابته، ويحسن إلى خدمه، ويكرم ضيفه، ويبرّ إخوانه وأصدقاءه، ويأكل ويشرب .. وينام ويصحو، ويغضب ويرضى، ويعطي ويأخذ، ويسافر ويحضر، ويثيب على ما يقدم إليه من خير أفضل منه، ودود كريم، حييّ حليم، يصدق الحديث، ويؤدّي الأمانة، وفيّ بالعهد، سليم الصدر، يعين الضعفاء، أغنى الناس بالقناعة، وأجودهم بالعطاء، يألف ويؤلف، عزوف عن الدنيا، لا يزاحم عليها، ولا يخاصم في شيء منها، يلجأ إليه قومه، ويشاركهم في أعمال الشرف والمروءة!
وهو صلى الله عليه وسلم في ذلك كله من مآثر طبيعته البشريّة لا بدّ أن يكون دائبًا على تبليغ رسالة ربّه، يدعو إلى الله تعالى، ويرغب في الخير، ويعظّم في أنفسهم نعم الله عليهم، ويجاهد أعداء الله، ويقيم موازين العدل!
وهكذا كان يقوم في ظل طبيعته البشريّة بكل ما تتطلبه حياة الناس بما كان لهم من أعراف عادلة، وعادات فاضلة، وأخلاق عالية، وخلائق نبيلة، في حدود كمالاته الإنسانيّة التي نشأ عليها جبلّة وتخلّقًا، مع عظيم قيامه بحق تبليغ رسالته، فلم يقع منه في حياته البشريّة ما يفسد الفطرة الأصيلة
(1) المرجع السابق: 281 وما بعدها بتصرف.
النقيّة الطاهرة .. لم يقع ما يغمط حق العقل الإنساني في إدراكاته ومعارفه، ولم يقع منه قط ما يخدش وجه الفضيلة، فهو صلى الله عليه وسلم كما أسلفنا- أكمل البشر خَلْقًا وخُلُقًا، وأعدلهم عملًا، أرسله الله رحمة للعالمين بالهدى ودين الحق!
وهذه الطبيعة البشريّة تعني شخصيّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، التي عرفه الناس عليها، وعرفته الحياة كلها بها، وعرفه التاريخ بخصائصها إنسانًا من الناس، اصطفاه الله نبيًّا ورسولًا، بلّغ الناس رسالة ربّه، فهدى الله به من شاء من عباده، ويهدي لرسالته من يشاء من خلقه!
فهي أحد جانبي طبيعته الزدوجة من عناصر البشريّة وخصائصها الماديّة والروحيّة العامة، التي لا يكون الإنسان إنسانًا إلا بتكامل تلك الخصائص الإنسانيّة بشقّيها المادي والروحي العام!
وبهذا التصوير يتبيّن وجه اعتبارها جانبًا من جانبي الطبيعة المزدوجة لشخصيّة (محمَّد رسول صلى الله عليه وسلم)، وبالفواصل الخصائصيّة بينها وبين الجانب الروحاني يتبيّن وجه اعتبارها طبيعة مستقلة بالنسبة إلى خصائص الجانب الروحاني الذي اعتبرناه -بالنظر إلى خصائصه- طبيعة مستقلة، ولكن الوشائج التي تربط بين الجانبين أو الطبيعتين أقوى من الفواصل الخصائصيّة بينهما!
ومن ثم نبصر ميلادًا جديدًا للحياة جدّد معالمها، يوم أن تمّ أول لقاء بملك الوحي يقظة في (غار حراء) .. ذلك الميلاد هو ميلاد الرسالة بخصائصها في أكمل الكمالات الروحانية، وأعظم إشراقاتها العقليّة، وأنوارها العليّة، وتناسباتها الملائكيّة!
هذه الطبيعة الروحانيّة هي الميلاد الجديد، ميلاد (رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم) الذي كان في الحقيقة ميلادًا للحياة، تجدّدت به معالمها، وتغيّرت به طرائقها،
واستقامت على سننه هدايتها، وقامت على دعائمه موازينها، واستنارت بنوره مسالكها، متدرّجة في مراحل نموّها الحضاري والفكري!
هذه الطبيعة الروحانيّة هي التي تلقّى ويتلقّى بها (محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن الله تعالى ما يلقيه إليه الملك في وحي اليقظة والمواجهة، وهو صلى الله عليه وسلم على أكمل مراتب إحساساته، وأتمّ درجات شعوره ويقظة مشاعره، وأعلى إدراكات عقله، وأضوأ إشراقات روحه، وأقرب منازل قربه!
وبهذه الطبيعة الروحانيّة كان يَلْقَى الرسول صلى الله عليه وسلم أمين الوحي جبريل عليه السلام في صور وتشكلات ملائكيّة مختلفة المظهر -كما أسلفنا- تجلّ عن مدارك العقول؛ فلا يُستطاع تحديدها بصورة معيّنة، أو بشكل خاص، يلتزمها في جميع لقاءاته بالرسول صلى الله عليه وسلم!
ويهذه الطبيعة كان صلى الله عليه وسلم يتقبّل ما يُلقى إليه من ضروب الوحي في رسالته، ليبلّغه إلى الناس هدايةً ورحمةً، ونورًا وبرًا، وعدلًا ومحبّة، وإخاءً ومساواةً وإيثارًا ومواساةً!
وهذه الطبيعة الروحانيّة باستعلائها على الطبيعة البشريّة تُذيب خصائص البشريّة الماديّة عند الرسول صلى الله عليه وسلم، اتقاء لاستحواذها عليه، وتغلّب الخصائص الروحانيّة لتكون كاملة التجلّي الباطن، مشرقة الشفافية، ليتحقّق بها التناسب بين طبيعة الملك التي يلقاه عليها الروح الأمين في أكثر حالات وحي اليقظة، وبين طبيعة البشر التي تبقى للنبي صلى الله عليه وسلم مظاهرها كاملة في تلقي وحي المشافهة، إبقاء على مرتبة التناسب البشري في التبليغ!