الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكري، وإنما كان امتيازه بينهم أنه المثل الأعلى لمعالي المكارم، ومكارم المعالي، يعرفونه بـ (الصادق الأمين) أكثر مما يعرفه باسمه، لا يمسهم في محافل رذائلهم، ولا يقرب من أندية وثنيّاتهم، ولا ينزل من علياء استقامته إلى مباءات مفاسدهم وشرورهم، تسامى بنفسه -وهو بينهم كأحدهم- عن كل ما يخدش سيرته، أو يقتحم عليه سريرته، عاشرهم في شوارف حياتهم، وخالطهم فيما يأثرون من مفاخر الفضائل الإنسانية فيهم!
فكانت سجيّة صدق الحديث فيه عنوانًا على ما طوى الغيب في كتاب مستقبله في رسالته الخالدة، وكشفت إشراقات إيمان أمّ المؤمنين خديجة رضي الله عنها عن مضامن ما طواه العنوان من جميل صنع الله في أفضاله عليه بإحسانه إليه، وإسباغه أجلّ نعمه عليه إذ أرسله رحمةً للعالمين!
وطارت خديجة رضي الله عنها بأجنحة الإيمان، وصدق اليقين، ويقين التوسم إلى ربض علّيّين، حيث أعدّ الله لها ما أعده للصّديقين، والله يهدي من يشاء من عباده بفضله، وهو العزيز الحكيم!
9 - صلة الرحم:
وصلة الرحم فضيلة إنسانيّة من أفضل وأشرف الفضائل الاجتماعيّة التي تربط الأفراد والأسر بوشائج الودّ والإخاء، تقرّب البعيد، وتُدني القصيّ، وتردّ الشارد، وتغسل الأحقاد، وتزرع المودّات!
وتتجلّى هذه الفضيلة الإنسانيّة في حسن المعاملة، وإحسان العشرة، ومشاركة البرّ، ومواساة الإحسان، وإيثار الفضل في المنافع، مع نقاء السريرة وبهجة العلانية، ومعاونة المحتاج، وتبادل الخيرات، والعفو عن الزلات!
وهي أقدر الفضائل على توثيق عرى المحبّة بين ذوي القربى، تجمع القلوب على الصفاء، وتشدّ أواصر التآخي، تجمع حول من يتحلّى بها، ويبذل في سبيلها الجود والرحمة، ينفق مما ملكت يمينه، ويبذل في غير منٍّ ولا رياء، لذوي رحمه وقرابته، بالتعاطف والتراحم، وسماحة المكارم، فيحبّونه، ويحبّون الخير عنده، يدافعون عنه إذا حاول أحد النيل منه، يبادلونه المنافع في غير أثرة ولا طمع، يخلصون له الودّ، ويشاركونه بأساءه، ويقاسمونه سرّاءه، يفرحون لفرحه، ويألمون لألمه، إن أحزنه شيء تعرّفوا مصادره فدرؤوها عنه إن استطاعوا، فإن لم يستطيعوا كانوا معه في أحزانه حتى يسرّى عنه!
كذلك كانت هذه الفضيلة الاجتماعيّة مغروسةً في خلائق محمَّد خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم، تجلّت آثارها واضحة في حياته صلى الله عليه وسلم قبل نبوّته، فأحبّه من أحبّه منهم .. واستجاب من استجاب لدواعي هذه الفضيلة من محاسن شمائله، فدخلوا معه في حصار الشّعب -كما سيأتي- من آمن منهم بدعوته، ومن لم يؤمن، وصبروا على بلاء هذا الحصار الظلوم الجهول الغشوم وجهده، واحتملوا فيه ما حُملوا من الإجاعة والقطيعة وجهد البلاء، لا لمجرّد العصبيّة القبليّة، والنخوة العنصريّة، فقد أبى أن يشارك في هذه المحنة القاسية كثيرون، وهم أشدّ العرب حميّة وتعصّبًا قبليًّا، ولكن الذين قبلوا أن يستظلّوا بلوائه في الترابط الرحمي إنما صنعوا ذلك تحقيقًا لمقتضيات التواصل مع من عرفوه أوصل الخليقة للرحم، وأبرّ الناس بذوي القربى، محمَّد خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم الصادق في ودّه ووصله، الأمين في حفاظه لوشائج القربى والرحم!
وسبق أن ذكرنا ما رواه الشيخان وغيرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه -
قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214] قال: "يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتَرُوا لأنفسكم، لا أُغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفيّة عمّة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمَّد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا"! وفي رواية لأحمد وغيره بسند صحيح عنه رضي الله عنه: جعل يدعو بطون قريش بطنًا بطنًا: "يا بني فلان، أنقذوا أنفسكم من النار"!
حتى انتهى إِلى فاطمة فقال: "يا فاطمةُ بنتَ محمَّد، أنقذي نفسك من النار، لا أملك لكم من الله شيئًا، غير أن لكم رحمًا سأبُلُّها ببلالها"(1)!
ومعنى ذلك أن كفركم وعدم قبولكم لدعوتي، والإيمان برسالتي، لا يمنعني من صلة رحمكم في الدنيا، ولا أغني عنكم في الآخرة من الله شيئًا؛ لأنّ صلة الرحم ومودّة ذوي القربى من أصول المكارم الإنسانيّة التي لا يحول دونها في شرعة الفضائل -كفر ولا عصيان!
ولأمر ما جاء التنويه بشأن هذه المكرمة من أصول مكارم الأخلاق لموضعها من سجايا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم، قال تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]!
(1) البخاري: 55 - الوصايا (2753)، وانظر (3527، 4771)، والأدب المفرد (48)، ومسلم (206)، وأحمد 2: 333، 360، 519، والترمذي (3184)، والنسائيّ: 6: 248، 249، والتفسير (397)، والطبري: التفسير: 19: 120، وأبو عوانة: 1: 94، والطحاوي: شرح المعاني: 4: 387، والطبراني: الأوسط (8506)، والبيهقيُّ: 6: 280، والدلائل: 2: 177، وابن حبّان:(646، 6549).
فقد جعلت الآية الكريمة المودّة في القربى وصلة الرحم أقصى ما يطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرًا ومكافأة من قومه على ما جاءهم به من هُدى وخير، فهو لا يسألهم مالًا يرزؤهم به، ولكنه يطلب إليهم أن يوادّوه ويصلوا رحمه بأرحامهم!
والمعنى كما قال ابن كثير: قل يا محمَّد لهؤلاء المشركين من كفار قريش: لا أسألكم على هذا البلاغ، والنصح لكم مالًا تعطونيه، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شرّكم عنّي، وتذروني أبلغ رسالات ربّي، إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة (1)!
وروى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سئل عن قوله: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ! فقال سعيد بن جُبير: قُربى آل محمَّد صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس: عجلتَ، إِن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطنٌ من قريش إِلا كان له فيهم قرابة، فقال:"إِلا أن تصِلُوا ما بيني وبينكم من القرابة"(2)!
وفي رواية للحاكم عن الشعبي قال: "أكثر الناس علينا في هذه الآية: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} !
فكتبنا إِلى ابن عباس نسأله عن ذلك، فكتب ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوسط بيت في قريش، ليس بطنٌ من بطونهم إِلا قد ولده، فقال الله عز وجل:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} !
(1) تفسير ابن كثير: 4: 111 - 112.
(2)
البخاري: 65 - التفسير (4818)، وأحمد: 1: 229، 286، والترمذي (3251)، والنسائيّ: التفسير (494)، والبغويُّ: معالم التنزيل: 4: 124، وابن جرير: 25: 15، وابن حبّان (6262).
إِلى ما أدعوكم إِليه، إِلا أن تودّوني بقرابتي منكم، وتحفظوني بها (1)!
وهذا تعظيم لفضيلة صلة الرحم، وهي خليقة من خلائق محمَّد خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم التي وصفته بها خُلقًا زوجته الأمينة الوفيّة قبل أن يبعث للناس رسولًا!
وقد جاءت رسالة خاتم النبيّين محمَّد صلى الله عليه وسلم تحمل في هدايتها وآدابها وأخلاقها ترغيبًا في التخلّق بهذه المكرمة العظيمة بما لم تظفر به فضيلة من الفضائل الإنسانيّة التي ينتظمها عقد الفضائل الاجتماعيّة التي تربط وشائج المجتمع بأوثق عرى المودّة والمحبّة، فالقرآن الكريم يقرن تعظيم هذه الفضيلة بتعظيم الله -جلَّ شأنه- في طلب اتقائه فيقول:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]!
ويروي الشيخان وغيرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (2): "خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم، فأخذت بِحَقْوِ الرحمن، فقال لها: مه، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا
(1) الحاكم: 2: 444 وقال: قال هشيم: وأخبرني حصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحو من ذلك، هذا حديث ولم يخرجاه بهذه الزيادة وهو صحيح على شرطهما، فإن حديث عكرمة صحيح على شرط البخاري، وحديث داود بن أبي هند صحيح على شرط مسلم، وقال الذهبي: وروى حصين عن عكرمة عن ابن عباس بنحوه (خ م) وقد رويا منه من حديث طاوس عن ابن عباس!
(2)
البخاري: 65 - التفسير (4830)، وانظر (4831، 4832، 5987، 7502)، والأدب المفرد (50)، ومسلم (2554)، وأحمد 2: 330، والبغويُّ (3431)، والبيهقيّ: 7: 26، والنسائيُّ: الكبرى (11497)، والطبري: التفسير: 26، 56، والحاكم: 4: 162، وابن حبّان (441).