الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منابع الكسب:
هذا، وكم ناشد القرآن الحكيم واجد المال أن يبذله .. ! وكم ناشد فاقد المال أن يسعى إليه ويحصله!
غير أن لبذل المال أساليب شتى، ولكسب المال طرائق متنوّعة .. وليس كل بذلك خليقاً بالحمد، ولا كل سعي جديراً بالشكر، قرّب عطاء، خير منه الحرمان، وربّ قاعد عن طلب المال خير من ساع إليه!
نعم، إن في البذل تطهيراً للنفس من رذيلة البخل، وإن في الكسب ترفعاً بالكرامة عن ذل الحاجة، ولكن شيئاً من ذلك لن يكون طهراً وشرفاً حقًّا، إلا إذا كان طهور المادة شريف الأداة، حتى لا يكون غسلاً للنجس بالنجس ومحواً للسيّئة بسيئة مثلها، أو بما هو أسوأ منها!
لا جرم، كان للكسب قوانينه وآدابه، وكان للبذل قوانينه وآدابه!
وهي توجيهات تتناول الكسب من جهات ثلاث:
من جهة وسيلته، ومن جهة غايته، ومن جهة أسلوبه وطريقته!
والمرء إذا شغفه حبّ المال، قد يندفع إلى التماسه من كل طريق، اغتناماً لكل ريح هبّت، واقتناصاً لكل فرصة أقبلتْ، لا يستشير عقله في مقاييس النفع والضرّ، ولا يستغني قلبه في معايير الخير والشر، بل يخبط في سعيه خبط عشواء، فتراه يجمع من المال ما قلّ أو كثر، دون أن يوازن بين الجهد الذي يبذله والربح الذي يحصله، وتراه يقتحم في سبيل ذلك من المخاطر ما خفي وظهر، لا يبالي ما يصيبه منها في يومه أو غده القريب والبعيد!
هذه الدفعة الطائشة الحمقاء، قد تهدأ عن صاحبها قليلاً، فتتركه يستعرض أبواب المكاسب، ثم ينتقي منها وينتخب، ويأخذ منها ويذر، ولكنها توحي إليه سراً قاعدة الاختيار!
إنها تدعوه إلى أن يوازن بين وجوه الكسب، أيّها أكثر ريعاً وأوفر ربحاً، وأيّها أقلّ غَرَراً وأيقن نجاحاً!
هكذا، نزعة مبصرة هنا، ودفعة عمياء هناك!
ولكنها في كلتا الحالين انبعاثة ماديّة خالصة، لا أثر فيها للقيم المعنوية، ولا للاعتبارات الإنسانية .. ماديّة غليظة القلب، ساقطة الهمّة، منهومة البطن، لا تتورع أن تستمدّ حياتها من فنون الحيل والمكر، والجور والغدر، والكذب والتزوير، والملق والنفاق، والرشوة والقمار، وغيرها من ألوان الإثم والسحت!
إنها لا يعنيها شرف الوسيلة، ولا طهارة اليد، ولكن يعنيها ضمان الحصيلة، ووفرة العدّ!
ويجيء القرآن الكريم، فيصدر أمره بإغلاق هذه الأبواب الفاجرة كلها .. فلنستمع إليه حين ينهى عنها، وحين يحذّر وينقر منها، ولنستمع إليه حين يشدّد النكير على أصحابها، أولئك الذين يأكلون التراث أكلاً لمًّا، لا يبالون من أين جمعوه، انتهاباً واغتصاباً، أو غشًّا وخداعاً، أو امتصاصاً من دم اليتيم:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} (البقرة)!
{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} (الروم: 39)!
ثم يجمع القرآن الكريم هذه القوانين المفصّلة، فيردّها إلى قانون كليّ أعلى، يضع معيار العاطفة الرحيمة، وميزان الفطرة السليمة، مكان تلك الموازين الجشعة الأثيمة، يقول لنا:
الشأن كل الشأن ليس في كثرة العدد، ولكن في طبيعة المعدود .. قليل طيّب مبارك فيه، خير من كثير ممقوت لا بركة فيه:{قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (المائدة: 100)!
أجل، هذا هو قانون القيم ودستورها الأعلى .. إنه لا يسري على الأموال وحدها، ولكنه ينطبق كذلك على الأقوال والأعمال، والأحكام والآراء، ونظم الشورى والدفاع، وسائر شؤون الجماعة والفرد، في السلم والحرب:
{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 249)!
هكذا يجب أن نصحّح نظرتنا إلى قيم الأشياء، فإن الجودة فوق الكثرة، والنوع قبل العدد!
ولسنا ننكر مع ذلك أن العامل العددي إذا انضم إلى العامل النوعي كان ذلك خير الخير، ولكنه إذا انحاز كل واحد منهما إلى جانب غير جانب صاحبه فإن الفوز في النهاية للقوّة المعنويّة، على تلك الكثرة العدديّة، التي تتجمّع في رأي العين، ولكنها غثاء كغثاء السيل، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى!
ألا فلنهتد بهدي هذا الدستور الأعلى، في شأن مكاسبنا وثرواتنا!
ألا فليعلم المكثرون أنهم هم المقلّون .. المكثرون من السحت والحرام، إن أكلوا منه نبت لحمهم طعمة للنار، وإن تصدّقوا به لم يتقبّل منهم؛ لأن الله تعالى طيّب لا يقبل إلا طيّباً، وإن تركوه لذريّتهم كان مصيره المحق والدمار، ولو بعد حين، وإن دَعَوْا ربّهم وفي أجوافهم أو على أجسادهم منه شيء، فهيهات أن تجاب دعوتهم!
يروي مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس! إِن الله طيّب لا يقبل إِلا طيّباً، وإِن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} (المؤمنون)! وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (البقرة: 172)!
ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمدّ يديه إِلى السماء! يا ربِّ! يا ربِّ! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنى يُستجابُ لذلك؟ " (1)!
(1) مسلم: 12 - الزكاة (1015)، والبخاري: رفع اليدين (94)، وأحمد: 2: 328، والدارمي (2720)، وعبد الرزاق (8839)، وعلي بن الجعد (2094)، والبيهقي: 3: 346، والترمذي (2989)، والبغوي (2028).