الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هؤلاء وهؤلاء تجّار يستوفون أجورهم في هذه العاجلة، ولا يبقى لهم منها رصيد، في الآجلة!
وتلك هي النفوس الأرضيّة الطينيّة!
ألا ترى القرآن الحكيم حين وعد الله المتقين الوعد الجميل، اشترط أن تتجرّد صدقاتهم من هذه المبادلات والمعاوضات السابقة واللاحقة؟ هكذا يقول جل شأنه:{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)} (الليل)!
ويقول: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} (الإنسان)!
أما النيَّة المثاليّة في الصدقات، فهي النيّة النقيّة المصفّاة من كل عوض، المتنزّهة عن كل غرض، وإنما يقصد بها وجه الله تعالى خالصاً، وتلك هي النفوس العلويّة الربانيّة، التي وصفها القرآن في غير ما آية:
{وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} (البقرة: 272)!
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (النساء: 114)!
{إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)} (الليل)!
طهارة القلوب من الغلّ والحسد:
وهكذا كانت أول حملة تطهيريّة أعلنها القرآن الحكيم في مكّة -بعد حملته على الشرك والوثنيّة- حملته على ذلك الداء الاجتماعي الوبيل، داء تكديس الأموال وتجميعها، وحبسها من الانتفاع بها في وجوهها المختلفة، لخدمة الفرد والجماعة!
عشرات من السور المكّيّة، كان من أوائل أهدافها تليين تلك القلوب المتحجّرة، وحلّ تلك الأنامل المعقودة، تطهيراً لها من وصمة الشح والبخل، وتحلية لها بحلية السخاء والبذل!
ثم لم يقصر القرآن دعوته على واجدي المال، مناشداً إيَّاهم أن يبذلوه، ولكنه دعا كذلك فاقدي المال، أن يجدّوا ليكتسبوه ويبذلوه!
وبعد أن رأينا القرآن يضع أساس فريضة الكسب، وأساس فريضة البذل، رأيناه يرسم لكلتا الفريضتن آدابها ومناهجها، من حيث الوسائل والمقاصد، ومن حيث المصادر والموارد، ومن حيث المقادير والمعايير!
هذه الحملة الواسعة المنظمة، في مكافحة مرض الحرص والبخل، إنما كان هدفها ذلك النوع الذي يعرفه الناس باسمه، وهو ضنّ الإنسان الواجد بشيئه الذي في يده!
غير أن هناك نوعاً آخر، لا يعرفه الناس باسم البخل، وهو مع ذلك شر أنواع البخل، وأذلّ ضروب الحرص، وهو مرض يصاب به الغنيّ والفقير، والواجد والمحروم على السواء، ذلك هو ضنّ الإنسان بشيء غيره، وبما ليس في يده!
ماذا نقول؟!
هل يتصوّر في العقل أن أحداً يضنّ بشيء غيره، وبما ليس في يده؟!
نعم! وهل الحقد والحسد إلا ذلك؟!
فالحسود لا يبخل على محسوده بما عنده فحسب، بل يكره أن تصل نعمة الله إليه، ولا يرضى أن ينزل الله من فضله عليه!
إنه عدوّ نعمة الله ورحمته، لو استطاع أن يمنعها عن الغير لمنعها، ولو رآها وصلت إليه لتمنّى زوالها، وسعى سعيه لتحويلها!
هذه النفوس الشحيحة الطبع، لو وكلت على خزائن الله؛ لأغلقت أبوابها دون خلق الله، أو لحوّلت قليلاً منها إلى من تشاء، وصرفته عمن تشاء!
هكذا وصفها الله في كتابه الحكيم: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)} (الإسراء)!
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} (الزخرف: 32)!
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (المؤمنون: 71)!
الحسود إذن ساخط على قضاء الله وقدره، غير راض عن حكمته في قسمته، وهذا أول باب من الكفر والمعصية ظهر في السماء، وأول باب من الكفر والمعصية ظهر في الأرض، حسد إبليس آدم، فأبى أن يسجد له، ثم حسد ابن آدم أخاه:{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)} (المائدة)!
مثل الحاسدين أمام قافلة المقادير، كمثل الكلاب تنبح والقافلة تسير!
من رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، وقدر الله نافذ على الحالين، لن يرد حسن الحاسدين منه شيئاً، ولن يحول مجراه قيد أنملة!
الحسد إذن محاولة عابثة فاشلة، بل نقول: إنه حركة يائسة، ورمية طائشة،
تفضي إلى عكس مقصودها، ويرجع سهمها إلى نحو راميها، ذلك أنه لا يشفي غلة صاحبه، بل يزيد غلته، ويضاعف كمده وحسرته!
انظر إلى الحسود وهو يشعل نار الحسد، يحسب أنه يحرق بها غيره، وهو بها يحترق، ثم استمع إلى حركات أنفاسه، وهو يتابعها، يظن أنه ينفس بها عن صدره، وهو في الحقيقة يختنق!
ألا إن ذلك هو الانتحار البطيء!
كلا، لن يذهب ما يغيظ، ولكنه يذهب نفسه، ويضحي بحياته:
{قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)} (آل عمران)!
وترى الحاسدين في الناس رجلين، أحدهما أقل إجراماً، وأيسر علاجاً من صاحبه: رجل يريد أن يسلبك نعمة هو فاقدها، لتتحوّل هذه النعمة عنك إليه!
ورجل يريد أن يسلبك هذه النعمة، ولو كان عنده مثلها أو أضعافها، ولم يتحوّل إليه أوفى نصيب منها!
أما الفئة الأولى، فإن مطلبها الأعظم هو خير نفسها، ولكنها أخطأت السبيل، فالتمسته من طريق حرمان غيرها، حسنت مقصداً، وساءت وسيلةً!
وأما الفئة الأخرى فقد جمعت بين الرذيلتين: إنها تطلب الشر للغير، ولو لم يصل إليها منه خير، إنها تبغي الشر للشر، قبحت مقصداً، وساءت سبيلاً!
كيف نطهّر النفوس من هذا المرض بنوعيه؟!
هلم بنا إلى منهل القرآن الحكيم، نغترف منه مادة التطهير!
ولنبدأ بالنفوس التي هي أقبل للدواء، وأدنى إلى الشفاء، تلك النفوس المتعطشة إلى رزقها، ولكنها في طلبها لهذا الرزق، كانت ضيّقة الأفق، قصيرة النظر، قليلة التبصّر والحذر، فأخذت تقتحم الأسوار الممنوعة، وترتع في الحمى المحرم، تزاحم أرباب الحمى بمناكبها، وتدوسهم بأقدامها، تريد أن تطردهم من دارهم، وأن تأخذ هي مكانهم!
فلنسمع إلى صوت الهدى، وهو يناشدها ليردّها إلى الطريق السوي:
أيتها النفوس الشرود!!
لفتة يسيرة، ترى أنك تقحّمت المضيق، وتنكّبت الطريق، تاركة وراءك الآفاق الفساح، والرزق الهنيء المباح!
أحسبت أن رزق الله قد ضاق حدوده، وانحصرت موارده في هذا الذي بأيدي الناس؟!
كلا، إن أرض الله واسعة، فاسلكي سبلها ذللاً، وإن سماء الله أوسع، فأوسعيها رجاءً وأملاً!
أيها الناس: لقد أبدلكم الله بهذا الطريق الضيّق الموحش، طريقين اثنين واسعين آمنين!
دعوا إذن هذا التشهّي والتمنّي لما في أيدي الخلق!
{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
…
}!
ولكن دونكم ميدان الكسب والعمل، ففيه متسع للسالكين!