الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العاجزين والمحرومين .. ثم ليزيد في ثروة أمّته وقوّتها .. وأخيراً ليزيد في ثروة الأرض وازدهارها كلها، تحقيقاً لحكمة الله الذي استخلف الإنسان على الأرض واستعمره فيها!
تلك هي النيّة الفاضلة الكاملة التي ترفع صاحبها إلى أعلى عليّين:
يروي الشيخان وغيرهما عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنما الأعمال بالنيات، وإِنما لكل امرئ ما نوى
…
" الحديث (1)!
آداب الكسب:
هذا، وقد جاءت هداية القرآن الكريم تجنبنا سبل السحت أي الآثم، وتقود خطانا في سبيل الرزق الحلال السائغ، وما إن وضعنا قدمنا على حافة هذا المنهل المورود، وتطلعنا إلى ما فيه من رزق طيّب، حتى أخذت تناوشنا النوازع والدوافع المختلفة، وتراودنا الأهداف والمقاصد المتنوّعة!
وإذا الهداية القرآنيّة تبرز أمامنا مرة أخرى، لتقود خطوات قلوبنا، كما
(1) البخاري: 1 - بدء الوحي (1)، وانظر (54، 2529 ، 3898، 5070، 6689، 6953)، ومسلم (1907)، والطيالسي (48، 488)، وعبد الرزاق (9567)، وسعيد بن منصور (2543)، وأحمد: 4: 392، 401، 405، 417، وعبد بن حميد (553)، وأبو داود (2517، 2518)، والترمذي (1647)، وابن ماجه (2783)، والنسائي: 6: 23، والطحاوي: شرح المشكل (5106)، والبيهقي: 9: 167، 168، وأبو نعيم: الحلية: 7: 128، والبغوي (2626)، وابن حبان (4636)، وانظر كتابنا: أضواء على حديث "إنما الأعمال بالنيات".
قادت من قبل خطوات أقدامنا .. صوّرت لنا القلوب على اختلاف نزعاتها، وتنوعّ أهدافها من الكسب، فإذا منها الآثم الذميم الذي تحرّكه شهوة الطغيان والعدوان، أو نزعة العبث والإسراف، أو حبّ التنافر والتكاثر!
وإذا منها الغافل الذي لا يعنيه إلا حظ نفسه من المتاع المباح .. وإذا منها الراشد النبيل، الذي يتطلّع إلى أوسع الآفاق وأسمى الدرجات، يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة ولا ينسى نصيبه منها!
هكذا قبل أن نسعى لطلب أرزاقنا .. عرفنا في أي طريق نضع أقدامنا، ومتى وصلنا إلى حقل العمل .. وقبل أن نكدح فيه بأيدينا وأذهاننا، عرفنا كيف نوجّه قلوبنا ونيّاتنا .. وسيلة مشروعة أو غاية مبرورة!
أدبان نقتبسهما من القرآن الحكيم .. هل بقي وراءهما شيء من آداب الكسب؟
نعم، فما تلك إلا وصيّة أوّل الطريق .. وإن طريق الكسب طويل متشعّب، قد يمتدّ بامتداد الأجل، وقد يتعرّج بتعاريج القوة والضعف واليأس والأمل .. ذلك أن للجهد فترات وله نزوات، وأن للحظ إقبالاً وإدباراً، وللقلب في كلتا الحالين تقلّبات .. أفتتركنا هداية القرآن عند أول الطريق، وتدعنا نهباً لما يصادفنا فيه من هذه العوامل المختلفة، ليعالجها كل امرئ منا بوحي ساعته أو ميزان طبعه ومزاجه؟!
حاشا لله الرحمن الرحيم: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]!
ألا فقد رسم القرآن الحكيم لنا منهج السير الحكيم بإزاء هذه التطوّرات في جهودنا البدنيّة، وبإزاء هذه التقلّبات في حالاتنا النفسيّة!
أما جهودنا البدنّية، فإنه يحارب منها طرق فترتها ونزوتها، ويكافح فيها حدّي رخاوتها وحدّتها!
هل رأيت أولئك المترفين الذين يشكون الكلال والملل من ساعات يسيرة يقضونها في العمل؟!
أولئك الذين يعملون قليلاً ويلهون طويلاً؟!
أولئك الذين إذا عملوا مسترخين متهاونين، غير جادّين ولا مجيدين؟!
ولذلك لم يجدوا مطلبهم في مكانهم .. لم يجمعوا في أنفسهم همّة تبعثهم على النقلة إليه والرحلة في طلبه!
هؤلاء جميعاً يقبل القرآن الحكيم عليهم جميعاً .. فيبعث فيهم راكد الهمّة، وينفخ فيهم روح السعي والإقدام .. ويوقظ فيهم باعث الإجادة والإتقان:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} [التوبة: 105]!
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10)!
وهل رأيت في الطرف المقابل أولئك الكادحين المنهومين المتكالبين، الذين استمرؤوا الدنيا والنفع والمادة فاستعبدتهم، وأنفقوا فيها ليلهم ونهارهم، ووهبوها همّتهم وقوّتهم؟!
إرهاق لا يعرف منهم رفقاً ولا استجماماً .. وإلحاح لا يحفظ لهم وقاراً ولا كرامة .. وتبذّل لا يبدو فيه أثر لنعمة الله عليهم .. واستغراق لا تأخذ فيه أسرتهم حظّها من الإيناس والمودّة، ولا عقولهم حظّها في الثقافة، ولا نفوسهم حظّها في المتعة البريئة، ولا أرواحهم من الصلة بالمثل العليا!
ألا تراهم! قد يسمعون داعي الله إلى مناجاته وهم عنها لاهون، اشتغالاً بشؤون الوارد والصادر، وحساب الأرباح والخسائر، كأن هذه اللحظات المعدودة التي قد يؤدّون فيها حق ربّهم، هي التي ستقلب الغنم غرماً، وتحوّل الربح خسراً، وما دروا أن الحقيقة ضد ذلك، وأن التقوى مفتاح خفي من مفاتيح الرزق، وأن الله لا يبارك عملاً مباحاً، إذا كان يلهي صاحبه عن واجبه!
ألا إن هذا مثل من الإسراف، الذي يعود به طلب المباح اشتغالاً بالحرام!
ألا إن هذا نموذج من العدوان الذي قال الله في شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} (المائدة)!
نعم، إن على رأس هؤلاء المعتدين أولئك الذين يتوجه إليه القرآن الكريم بندائه القوي وإنذاره الشديد:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} (المنافقون)!
أما المؤمنون الصادقون فإنهم كما وصفهم الله: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} (النور)!