الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والهداية من حيرة العقيدة، وضلال الشعاب فيها هي المنّة الكبرى، التي لا تعدلها منّة، وهي الراحة والطمأنينة من القلق الذي لا يعدله قلق، ومن التعب الذي لا يعدله تعب .. وجاءت تذكره وتطمئنه على أن ربه لن يتركه بلا وحي في التّيه، وهو لم يتركه من قبل في الحيرة والتّيه!
إننا نبصر الحنان والرحمة والرضى والشجى، ينسرب من خلال آيات تلك السورة!
19 - موقف الإمام محمَّد عبده:
ومع هذا نرى الإمام محمَّد عبده رحمه الله قد وقف موقفًا عجبًا من حديث بلاغ التردّي من رؤوس شواهق الجبال، الذي بيّنا ردّه من قبل، حيث قال:
اتفقت الروايات على أن سبب نزول هذه السورة {والضُّحَى} هو حصول فترة في توالي الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، فظنّ أو توهّم أو كما قيل إن الله تركه وقلاه .. إلى أن قال: وقد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم حزن لفترة الوحي حزنًا غدا منه مراراً، كي يتردّى من رؤوس الجبال، ولكن كان يمنعه تمثّل الملك له، وإخباره بأنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًّا!
وقال: ليس في نسق السورة {وَالضُّحَى} ما يشير إلى أن المشركين أو غيرهم كانوا بعرض من الخطاب، ومن أين للمشركين أن يعلموا فترة الوحي فيقولوا أو يطعنوا؟!
أما الإشارة في نسق السورة إلى أن المشركين كانوا بعرض من الخطاب (1)،
(1) محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1: 452 وما بعدها بتصرف.
وإن كانت المواجهة به كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم علموا فترة الوحي، فقالوا وطعنوا، فهي موجودة في أسلوب السورة وعباراتها وألفاظها!
ذلك أن القرآن الكريم كلام الله الحكيم العليم، وأسلوبه وعباراته وألفاظه لا تقف عند سنن الإحسان البشريّ في براعة البيان، ولكنها تعلو فوق ذلك إلى درجة الإحسان الإعجازي؛ فلا يمكن أن يحل لفظ من خارج ألفاظ القرآن مكان لفظ من ألفاظه في نسقه البياني؛ لأنّ ألفاظ القرآن في نسق آياته هي التي وقع بها التحدّي، وتمّ بها الإعجاز، فلا بدّ أن تكون ألفاظه متّسقة أكمل اتساق مع المعاني التي قُصد أداؤها بها، حتى كأن بين اللفظ والمعنى نسبًا، وقربى دانيةً، وهذا يستبين بالموازنة بين أساليب البيان القرآني في تأدية مقاصده، فأسلوب البيان الزاجر المتوعّد مغاير تمام المغايرة في ألفاظه القارعة لأسلوب البيان الموعد المرغّب في ألفاظه الهامسة!
يلمح ذلك ويشعر به الناظر ذو الحسّ المرهف، والنظر الغوّاص المتعلّق، فيحسّه في جرس اللفظ، ونسق العبارة، واسترسال الأسلوب!
وإذا كانت السورة -كما عرفنا- فلا يتَّسق مع جلال الأسلوب القرآني في روعة بيانه أن يخاطب الله تعالى نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد فتر عنه الوحي بسبب لا دخل لإرادته فيه، والوحي هو صلته بالملأ الأعلى، وطريقه إلى مشاهدة ملكوت الله، واستجلائه آيات إبداعه في الكون، مغافصة دون تمهيد، مقسماً أعزّ قسم بأنّه لم يترك نبيه وحبيبه ترك قطيعة وإهمال، ولا أبغضه بغضًا يباعده عن مقامات قربه، ومنازل شهوده، بعد أن أحبّه حبًا لم يُنله أحدًا غيره من خلقه، لمجرّد أن الله تعالى أراد أن يلقي الطمأنينة في نفس نبيّه صلى الله عليه وسلم -كما يقول الشيخ الإمام- وهذه الفترة للوحي التي كانت سببًا لنزول سورة {وَالضُّحَى} لم تكن
هي فترة القلق والخوف والفزع عند النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تحتاج إلى لقاء الطمأنينة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم. ولو فرضنا أن تكون به صلى الله عليه وسلم حاجة إلى لقاء الطمأنينة في نفسه، فليس مما يتّسق مع سنّة الله تعالى في مخاطبته نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يفاجئه الوحي إثر فترة لم تكن أسبابها باختياره بهذه الشدّة التي يشعر بها التعبير بلفظ (ودّع) و (قلى) وإن كانتا في حيّز النفي، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في حاجة إلى التلطف به في الخطاب لمسح ما ألمّ به من قلق وخوف وفزع -كما يقول الشيخ الإمام!
والشدّة التي لاقاها النبي صلى الله عليه وسلم في بدء الوحي، ومفاجأة الغار -كما أسلفنا- إنما كانت لاستفراغ بشريّته من العلائق الماديّة، وإعداده روحيًّا لتلقّي وحي اليقظة، ونزول القرآن الكريم، وشهود عوالم الملأ الأعلى، الذي أنست نفسه الشريفة بمطالعة أنواره، وشهود آيات إبداعه!
وقد تمّ ذلك كله له صلى الله عليه وسلم على أتمّ وأكمل مراتب الوحي، وصار صلى الله عليه وسلم يعيش حياته كلها متشوّقًا إلى لقاء أمين الوحي جبريل عليه السلام متشوّقًا إلى ما يلقيه إليه من وحي الله وأمره ووصاياه!
وقول الشيخ الإمام: ومن أين للمشركين أن يعلموا فترة الوحي فيقولوا أو يطعنوا؟ مردود بالحديث السابق الذي لو اطلع الشيخ الإمام عليه وعلى غيره مما يجري مجراه لعلم يقينًا أن من المشركين من كان جيران سوء وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان في طليعتهم عمه أبو لهب وزوجه الخبيثة العوراء أم جميل بنت حرب، أخت أبي سفيان، حمالة الحطب، كما سمّاها القرآن، وكان هؤلاء الأعداء جيران السوء يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتسمّعون عليه، ويرقبون مدخله ومخرجه، وصحوه ونومه، وسائر حركاته وسكناته .. وبيوت العرب يومئذ لم