الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التنافس والتحاسد، ثم انشقاق الخصام، ثم تقطيع الأرحام، ثم سفك الدماء، ثم ما شئت من محن تتوارثها الأجيال!
والشح مرض وبائي سريع العدوى والانتقال .. وإذا تفشّى في أمّة، وقف دولاب حركتها، وتعوّق سير نهضتها، وبدأت الشيخوخة تدبّ في أعضائها، وطمع فيها أعداؤها، بل غدت نهباً للمطامع، وسلعةً يسومها كل مشتر وبائع!
الشح إذن داء تتولّد منه أدواء .. إنه عشّ تفرخ فيه الأورام، ووكر يسكن فيه وحي الشيطان، ينفخ الشيطان في روع صاحبه ليزّين له فاحشة البخل، وليجعله من خوف الفقر في فقر، يقول له:
أمسك عليك مالك، إن المال شقيق الروح، وعماد الحياة!
والله لا يأمر أحداً أن يبذل كل ماله، وأن يذر نفسه وعياله عالة يتكفّفون الناس، إنما يريد منا أن ينفق كلٌّ من فضل ماله، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، وذلك ليجعل متعتين وسعادتين:
متعة بالاستغناء عن الغير، ومتعة بإغناء الغير!
سعادة مباشرة نتذوّقها .. وسعادة أخرى هي صدى للسعادة التي ننشرها، والله بعد ذلك يعد المنفق خلفاً، والممسك تلفاً، على رغم أنف الشيطان:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)} (البقرة)!
فريضة الكسب:
هذا، والآيات الحكيمة تعالج من النفوس أبوابها المغلقة، حتى فتحت أغلاقها، وعقدها الموثقة، حتى حلّت وثاقها!
كرهت إليها خلّة الضّنّ والإمساك، وحبّبت إلينا شيمة البذل والإنفاق -كما عرفنا- وما برحت تحبّبنا في هذه، وتبغضنا في تلك .. حتى خشينا أن يكون الانطلاق في بذل المال انطلاقاً إلى غير مدى، وأن يكون الزهد على غير هدًى .. وإذا بالحكمة القرآنيّة تضع الأمور في نصابها .. وإذا هي حين فتحت الكنوز أقامت الحرَّاس على أبوابها، لورودها وصدورها، وتنظيماً لوجوه توزيعها توزيعاً بالقسط، يوفّر على النفس حظها المقسوم، ويؤدّي للغير حقّه المعلوم، لا حرمان ولا تقتير، ولا إضاعة ولا تبذير، وكان بين ذلك قواماً!
هذه الوصيّة الثنائيّة، هل تراها وصيّة عاملة شاملة؟ وهل كل فرد من الناس أهل لأن يوجه إليه خطابها؟!
أليس في الناس المرزوق والمحروم؟!
أليس فيهم الواجد والفاقد؟!
فمن لم يجد ما ينفقه أو يمسكه، كيف يقال له: لا تمسك ولا تقتر، ولا تسرف ولا تبذر!
إنها إذن وصيّة واحدة لشَطر واحد من شطري الأمّة، فما خطب شطرها الثاني؟!
إنها وصيّة لأرباب الأموال، فما بال من لا مال له؟!
هل أعدّ القرآن الحكيم لهم وصيّة مقابلة؟!
نعم، وإنها بدورها لوصيّة ثنائية، تهدي كذلك إلى طهارة مزدوجة .. وصيّة من لم يجد، أن يجد ليجد، ثم وصيته ألا يتطلّع إلى ما في يد
الواجدين .. دعوة إلى شرف العمل الكاسب، الذي يغني صاحبه، وينشر الغنى من حوله على العاجزين، ثم دعوة إلى أشرف نوعي الغنى وأكرمهما!
يروي الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليس الغنى عن كثرة العَرض، ولكن الغنى غنى النفس"(1)!
والتسامي عن موقف الحاجة والضراعة، وعن ذلّ السؤال والالتماس؛ بل عن التشهّي والتمنّي لما في أيدي الناس!
بهاتن الوصيّتين الذهبيّتن جاء الذكر الحكيم في آية، ما أحرانا أن نتدبّرها، وأن نزن أنفسنا بميزانها:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)} (النساء)!
يقول الله تعالى لهؤلاء الذين يمدّون أعينهم إلى ما عند غيرهم: إنكم في التماس الخير لأنفسكم، تتركون الفجاج الواسعة الآمنة، وتميلون إلى المسارب الضيّقة الموحشة .. إنكم تتركون النهر الدافق وتستقون من الغدير!
ما لكم وما في أيدي الناس؟!
فإنما من عندي نالوا رزقهم، وإن أبوابي مفتوحة لكم ولهم!
تحوّلوا عن هذا الطريق؛ فإنه طريق شائك غير مسلوك، وقد مهّدت لكم بدلا منه طريقين مسلوكين، فولوا وجوهكم شطرهما!
(1) البخاري: 81 - الرقائق (6446)، والأدب المفرد (276)، ومسلم (1015)، والحميدي (1063)، وأحمد: 2: 243، 261، 315، 338، 389، 390، 438، والترمذي (2373)، وابن ماجه (4137)، وأبو يعلى (6259، 6583)، والطحاوي: شرح المشكل (6052)، والشهاب القضاعي (1207، 1210، 1211)، وابن حبان (679).
دونكم الأرض الواسعة، جعلتها لكم ميدان الكسب والعمل، فامشوا في مناكبها، وكلوا من رزقي .. دونكم السماء الرفيعة، جعلتها لكم قبلة الدعاء والأمل، فإيّاي فادعوا، وفضلي فالتمسوا!
تلك وصيّة الله .. فماذا كان الموقف منها؟!
واأسفاه، لقد وقف كثيرون منها موقف الإباء العنيد، فلا إلى ميدان الأعمال يبرزون، ولا إلى قبلة الآمال يتوجّهون، ولكنهم يحطون أنظارهم على طرف أنوفهم، ويفتحون أعينهم على رزق الجار والقريب والصاحب والزميل، يحصونه ويعدّونه عداً، ثم يقولون: أهؤلاء، منّ الله عليهم من بيننا؟!
هكذا يصنع الناس!
هكذا يصنع الفاقد للشيء، ينفق عمره في التطلّع إلى حظ واجده .. وهكذا يصنع المقلّ .. يضيّع وقته في حساب رزق المكثر .. ولعله لو دقّق الحساب لوجد نفسه قد أوتي ما هو أعزّ قدراً وأغلى ثمناً .. ولكنه ينسى الكنز الذي في يده، ويتطلّع إلى الزخرف في يد صاحبه .. وهبه لم يؤت من الحظوظ ما يعادل تلك الحظوظ الماديّة أو يزيد، فهل حسب أن سعة الرزق عند الآخرين تضيق عليه هو رزقه؟!
وهل يخشى أن سعة الرزق عند الآخرين تنقص من ينابيع الثروة شيئاً فشيئاً، فحرص أن يزاحمهم عليها قبل أن يستنفذوها؟!
يا هذا، إن خزائن الله لا تنفد، وإن معين نعمته لا ينضب، فما بالك تزاحم الخلق على شربهم من هذا الحوض الضيّق المحدود، وأمامك ذلك النهر العذب الذي لا ساحل له ولا حدود؟!
يروي مسلم وغيره عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى أنه قال:"يا عبادي! إِنّي حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم مُحَرَماً فلا تظالموا! يا عبادي! كلكم ضالّ إِلا من هديته، فاستهدوني أَهْدكم! يا عبادي! كلكم جائعٌ إِلا من أطعمته، فاستَطعموني أُطْعُمِكم! يا عبادي! كلكم عارٍ إِلا من كَسَوْتُه، فاسْتكسُوني أَكسُكُمْ! يا عبادي! إِنكم تُخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغْفر لكم! يا عبادي! إِنكم لن تبلغُوا ضرِّي فَتَضُروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني! يا عبادي! لو أن أوّلكم وآخركم، وإنسَكُم وجنَّكمْ، كانوا على أتْقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في مُلْكي شيئاً! يا عبادي! لو أن أوّلكم وآخركم، وإِنْسكمْ وجنَّكُمْ، كانوا على أفْجر قلب رجل واحد، ما نَقَص ذلك من مُلكي شيئاً! يا عبادي! لو أن أولكم وآخِركمْ، وإِنْسكُمْ وجنَّكُمْ، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيتُ كل إِنسان مسألته، ما نَقَص ذلك مما عندي إِلا كما يَنْقُص المخْيَطُ إِذا أُدخل البحر! يا عبادي! إِنما هي أعمالكُم أحْصيها لكُم، ثم أوَفيَكُمْ إِيّاها، فمن وجد خَيْراً فليحمد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلُومنَّ إِلا نفسه"(1)!
(1) مسلم: 45 - البر (2577)، والبخاري: الأدب المفرد (490)، وأحمد: 5: 160، وأبو نعيم: الحلية: 5: 125، 126، والحاكم: 4: 241، وليس من شرطه، وقال الذهبي: هو في مسلم، والطيالسي (463)، وعبد الرزاق (20272)، والترمذي (2495)، وابن ماجه (4257)، وابن حبان (619)، والنووي: الأذكار: 355 - 356 وقال: رجال إسناده مني إلى أبي ذر رضي الله عنهم، كلهم دمشقيون، فاجتمع في هذا الحديث جمل من الفوائد، منها صحة إسناده ومتنه، وعلوّه وتسلسله بالدمشقّيين رضي الله عنهم وبارك فيهم، ومنها ما اشتمل عليه من البيان لقواعد عظيمة في أصول الدين وفروعه، والآداب، ولطائف القلوب وغيرها، ولله الحمد!
ألا، من كان ملتمساً في رزقه الفضل، فمن الله وحده إذن فليلتمسه، ومن كان مطالباً فيه بالحق والعدل، فليطلبه من نفسه، من جِدّه وجهده، من كدِّ يمينه وعرق جبينه!
هكذا يقرر القرآن الحكيم حقّ العمل، أعني حق كل عامل في ملك ثمرة عمله، ونتاج كسبه، يقرّر القرآن حقًّا طبيعيًّا، وإنما هو حق وضعي، ومنحة إلهيّة، وعطيّة من الله!
نعم، قرّر القرآن الحكيم حقّ العمل .. هذه واحدة .. ثم يقرّره حقًّا عامًّا، يستوي فيه الذكر والأنثى .. هذه ثانية!
ولكنه مع ذلك يقرّره حقًّا جزئيًّا، للفرد الكاسب منه نصيب، وللأبوين نصيب .. فهذه ثالثة!
مبادئ ثلاثة، سبق القرآن الحكيم بها أحدث النظريّات الاقتصاديّة، وأعدل المبادئ الاشتراكيّة: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ
…
}!
هما إذن خطّان لا ثالث لهما .. طريق مسدود، وطريقان مفتوحان!
لا تسأل الناس! ولا تحسد الناس! ولا تتمنّى ما في أيدي الناس!
هذا هو الطريق المحظور، ولكن عليك بالعمل، وفي الله الأمل!
هذان الطريقان مفتوحان:
{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)} (النساء)!