الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ألا من أحسّ في صدره بشيء من الضغينة لأخيه المسلم، بغير جناية، أو لخلّة يسيرة بدرت منه قهراً، ثم تاب عنها وأناب، فليبادر إلى معاملة نفسه بتوجيهات القرآن الكريم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم، فإن استعصى عليه الأمر، ولم تنجح فيه تلك المجاهدات النفسيّة، فليتوجّه إلى الله بقلبه ضارعاً وسائلاً إيّاه -جلّت قدرته- بأن يحول حاله إلى أحسن منها، فهو الذي علّم القرآن، خلق الإنسان، علّمه البيان!
طهارة القلوب من الشرّ والآنانية:
وإذا كنا قد عشنا في رحاب الآيتين الكريمتين: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر)!
فإننا عرفنا الجانب المثالي، جانب العزيمة والتجرّد الخالص، وبقي الجانب العملي، جانب الرخصة والاستثناء!
وعرفنا أن الحقد هو جريمة القلوب المنقلبة، والنفوس المتنمّرة، التي تنطوي على العداوة والبغضاء، تمسكها وتصرّ عليها، ملتمسة لعدوّها كل مكروه وبليّة، محاذرة أن تجده في خير ونعمة!
وعرفنا أن الحسد إذا لم ينبت في أرض الحقد، فإنه ينبت في أرض الجشع
والطمع، وهو خطيئة القلوب المنحرفة، والنفوس الطفيلية النزعة، التي يسيل لعابها على الخير الذي في أيدي الناس، فتشتهيه وتتمناه لنفسها، ولو انتزاعاً من ملك غيرها!
هما إذن جرثومتان اثنتان، يكمن فيهما أصل الداء، تلك العداوة التي توحي بمعنى الشر للأعداء، وتلك الأنانية التي تسرف في حب الخير للغير!
فننظر الآن في مدى القدرة الإنسانيّة على التخلّص من الجرثومة الأولى، أعني نزعة الكراهية والبغضاء، هل في طاعة الفطرة البشريّة أن تتجرّد من هذه النزعة، تجرّداً كليًّا، في كل حال؟!
هيهات .. دلني على واحد من البشر لا يكره ولا يعادي أقل لك: إنه إذن لا يحبّ ولا يوالي، وإنه إذن لا يحبّ الشرّ، بل حبّ الخير في طبعه .. فهو إذن يحبّ الحق والخير، وبالتالي يحبّ أهل الحق وأهل الخير ويواليهم، وهو إذن يكره الإثم والعدوان، ويكره أهل الإثم والعدوان ويعاديهم، ومتى كانت الكراهية والبغضاء تحدث على مبادئ وأسباب صحيحة، فإن من شأنها أن تستقرّ وتستمرّ، ما دامت أسبابها موجودةً، ومن شأنها كذلك أن تستتبع آثارها!
فكيف إذن يطالبنا القرآن بأن نمحو من قلوبنا البغض لكل أحد، حتى للمجرمين؟!
وكيف يحرم علينا إرادة الشر للشقيّ؟! وعدم الحبّ للأشرار والمعتدين؟!
وإن أخص ما تمتاز به وصايا القرآن أنها -مع سموها ونبلها- لا تتطلّب المحال، ولا تتشبّث بالخيال!
إنها -مع مثاليّتها- عمليّة واقعيّة، لا تحمل النفوس على ضدّ طباعها، ولا تكلّف نفساً إلا وسعها!
وما الوصيّة التي نحن بسبيلها إلا واحدة من تلك الوصايا الحكيمة الجامعة بين المثاليّة والواقعيّة!
إنها لا تحظر البغض كله، ولا تحرّمه جملة؛ إنها تحظر عليك أن تبغض أخاك لمجرّد هواك، لغير ذنب جناه، ولكن حنقاً ونفاسة عليه، وإنها تحرّم عليك أن تكره الخير لأخيك، طالما أنه لم يستعن بهذا الخير على شيء يغضب ربّك أو يؤذيك!
ولكنها لا تمنع أحداً من أن يبغض الإثم وأهله، وأن يمقت البغي وشقيقه الظلم!
أما علمت أن من علامة الإيمان الحبّ في الله، والبغض في الله، والرضا في الله، والسخط في الله؟ قال تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (المجادلة: 22)!
نعم، إن دعوة القرآن الحكيم -في جوهرها- دعوة حبّ ووئام، ولكنها في الوقت نفسه دعوة عدل ونظام!
إنها تغضب للحرمات المنهوكة، والدماء المسفوكة، وللحقوق والأمانات المضيّعة، وهي بذلك تطالبنا أن نردّ الحق إلى صاحبه، وعلينا أن نأخذ الجاني بذنبه:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} (الشورى: 41)!
على أننا لو تأمّلنا في نظرة الإسلام إلى عقوبة الباغي وجدناه لا يرى فيها
إرادة شرّ به، بل أراد سعياً في خيره، ونصرًا له على نفسه، هكذا سماه الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري وغيره عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"انصُرْ أخاك ظالماً أو مظلوماً". قالوا: يا رسول الله! هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً، قال:"تأخذ فوق يديه".
وفي رواية: فقال رجل: يا رسول الله! أنصره إِن كان مظلوماً، أفرأيت إِذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال:"تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإِن ذلك نصره"(1)!
بل إن المعجزة الرادعة التي تمحق طغيان البغي، لا يرى فيها القرآن خيراً للباغي فحسب، بل يرى فيها خير المجتمع كله، بل أساس حياته الصالحة، يقول الله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 179)!
ثم يرى في هذه العقوبة الرادعة ترضيةً محبوبةً للنفوس المؤمنة، الحريصة على صيانة الحق والعدل في الأرض، واستمع لأمر الله سبحانه وتعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} (التوبة)!
هكذا، بعد أن وضع القرآن قانون المحبّة والرحمة، وجعله هو العزيمة الأولى، رخّص لنا عداوة من يستحقّ العداوة، وعقوبة من يستحقّ العقوبة!
(1) البخاري: 46 - المظالم (2443، 2444)، وانظر (6952)، وأحمد: 3: 201، والترمذي (2255)، وعبد بن حميد (1401)، والبيهقي: 6: 94، 10: 90، وأبو نعيم: الحلية: 10: 405، وتاريخ أصبهان: 2: 14، والبغوي (3516، 3517)، والطبراني الصغير (576)، والقضاعي (646)، وابن حبان (5167، 5168).