الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإيمان النبي صلى الله عليه وسلم بما أنزل الله من ربّه هو إيمان التلقّي المباشر .. تلقّي القلب النقيّ للوحي العليّ، واتصاله المباشر بالحقيقة المباشرة .. الحقيقة التي تتمثّل في كيانه بذاتها من غير كدّ ولا محاولة، وبلا أداة أو واسطة .. وهي درجة من الإيمان لا مجال لوصفها، فلا يصفها إلا من ذاقها، ولا يدركها من الوصف -على حقيقتها- إلا من ذاقها كذلك!
وقد أوتي الرسول صلى الله عليه وسلم من قوّة الاحتمال والصبر على فوادح الشدائد ما لم يؤته أحد من البشر!
واستحضار رسول الله صلى الله عليه وسلم أعباء ما كلّفه، وأثقال ما ينتظره في تبليغ رسالته إلى الخلق، حريّ أن يضيء معالم الطريق!
7 - أم المؤمنين خديجة أعرف بقدر محمَّد صلى الله عليه وسلم
-:
ونجد أنفسنا أمام قول أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها:
(كلاّ والله! ما يخزيك الله أبدًا، إِنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق)!
هذه الكلمات المشرقة بنور الإيمان الفطري (1)، النابعة من ضمير الغيب، إلهامًا من وحي اليقين بمخايل الحقيقة الكبرى في تصوّر مستقبل محمَّد صلى الله عليه وسلم، تضيف إلى يقين النبي صلى الله عليه وسلم وثباته أمام الأحداث، ورباطة جأشه في ملاقاتها، تثبيتًا يزيده قوّة إلى قوّته، ويسرّي عنه ما ألمّ بخياله، ويمسح عن خواطره ما عسى أن يكون طاف بها من تخوّف العقبات في سبيل انطلاقه برسالته؛ بل إن خديجة رضي الله عنها تريه بهذه الكلمات المشرقة أنها تستبعد كل الاستبعاد
(1) محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1: 307 وما بعدها بتصرف.
أن تضعف قواه البشريّة عن تحمّل أثقال ما حُمّل من أعباء الرسالة، وحرصًا منه صلى الله عليه وسلم على تمكّنه من تبليغ رسالة ربّه، وتخطي ما تصوره من العقبات في سبيل ذلك التبليغ!
وتضيف هذه الكلمات المشرقة إلى ما تحلّى به الرسول صلى الله عليه وسلم من قوّة اليقين والصبر ضرويًا من المصابرة، تزيد في شحنة عزيمته على المضيّ قدمًا في طريق أداء واجبه نحو هذه الإنسانيّة المعذّبة في الأرض، ليخرجها من ظلمات العبوديّة الوثنيّة بصورها وأشكالها الكافرة بتوحيد الله تعالى، وإفراده بالتعبد له وحده، إلى نور التحرّر والمساواة الإنسانيّة في الحقوق والواجبات!
وكانت كلمات الإيمان الفطري -من الزوجة الأمينة الوفيّة، وزيرة الصدق، ومأنس القلب والروح، أعقل نساء العالمين -تستشرف أفق مستقبل محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أطوار رسالته بأمل فسيح أفيح، موصول بأخصّ عناصر حياته الخُلُقية، وأفضل فضائل الإنسانيّة النبيلة، مجموعة في طبيعة إنسان، وُلد بها، وشبّ واكتهل عليها، فكانت -كما أسلفنا- معالم لشخصيّته صلى الله عليه وسلم بين قومه، يعرفونه بها عَلَمًا مفردًا في اكتمالها فيه، وكماله فيها، ولم يعرف فيهم أحد اجتمعت له هذه الخصال دون أن يشوبها إفراط يخرج بها عن مقاييس الفضائل، أو يلحقها تفريط يقصّر بها عن مدى محاسن الشمائل!
والماضي -أبدًا- في حياة المصطفين المخلصين صفحة تكتب فيها الحياة بقلم الغيب المكنون أنباء معالم مستقبلهم في رسالاتهم، الأصفياء هم القادرون على قراءة ما كتب قلم الغيب في صحيفة المصطفين ليقرؤوا في ضوئها معالم مستقبلهم وهم أندرُ في وجودهم من وجود العقل الشفيف الذي يستشفّ بخاصة إدراكه ما وراء الحجب، فيلمح خيط القدر الحكيم، وهو يربط ماضي
من اختير لحمل أعباء الرسالة الإلهيّة بمستقبله بنور المدد الإلهي، ولن تظهر لهذا العقل الشفيف في استشفافه نقط المحن وفوادح النوازل على رقعة حياة هؤلاء المخلصين؛ لأنّ أشعة العزائم المنبعثة من آفاق رسالاتهم، وقوّة الحق الممدّدة لأرواحهم تغطي بظلالها النورانيّة نقط المحن ونوازل البلاء، فلا يراها الناظرون إلا ريثما يتحفّز المخلصون إلى وثبات الإقدام في طريق عزائمهم المؤيّدة بقوى الحق والخير، المستضيئة بنور الهُدى والرشاد!
ويتفاضل المخلصون في ذلك بتفاضل رسالاتهم، قال تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]!
وقال جلّ شأنه: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]!
وكل صاحب رسالة يُعطى من الفضل وقوّة الصبر والمجاهدة على قدر رسالته، وما جعل الله فيها من عموم الخير والإصلاح والهداية .. وعموم رسالة خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم تشريعًا وزمانًا ومكانًا وأجيالًا وإصلاحًا، جعلها الله أفضل الرسالات الإلهيّة، وجعل رسولها أفضل الرسل، وجعل أمّته أفضل الأمم، قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]!
وذلك لما أعطيت من فضيلة الوراثة في التبليغ ضمانًا لخصيصة العموم والخلود في رسالة خاتم النبيّن محمَّد صلى الله عليه وسلم، وكان للرسول صلى الله عليه وسلم من فضل قوّة الاحتمال ما تميّز به صلى الله عليه وسلم في مستقبل دعوته!
ومن ثم قال ربّه تبارك وتعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]!
فهو صلى الله عليه وسلم مكلّف أن يجمع إلى صبره صبر جميع أولي العزم من المرسلين، وإلى عزيمته في القيام بحق رسالته قُوى عزائمهم في قيامهم بحق رسالاتهم!
ومن هنا قيل له بعد ذكر الأكابر من المرسلين في معرض الثناء عليهم، والحفاوة بهم، وأن الله آتاهم الكتاب والحكمة والنبوّة:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]!
فخاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم مأمور من ربّه أن يجمع إلى هداه هدى أولئك الأكابر من المصطفين المخلصين!
فالسيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها كانت صفوة الندرة في إلهامها قراءة ما كتب قلم الغيب في صحيفة ماضي محمَّد صلى الله عليه وسلم من أنباء معالم مستقبله في رسالته، فترجمت بكلماتها النورانيّة عنوانات تلك المعالم في مستقبله نبيًّا ورسولًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا!
ولهذا كانت رضي الله عنها في سجل الرسالة المحمديّة نفحة من نفحات المدد الإلهي لم تتكرّر ولن تتكرّر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم!
وقد قالت خديجة رضي الله عنها وهي تردّ على تساؤله الذي بدا فيه من الإشفاق على مستقبل دعوته التي كُلِّف تبليغها، تستبعد ما عسى أن يكون قد خطر في خواطره: كلاّ، والله! ما يُخزيك الله أبدًا!
كلاّ، يا أكمل الكملة، لن يقع لك ما تتخوّفه على نفسك الزكيّة العليّة من ضعف عن تحمّل أعباء ما شرّفك الله به من رسالة الخلود، ولن تعجز عن القيام بموجبات تبليغها؛ لأنّ الله تعالى هو الذي اختارك لها، وهو أعلم حيث