الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غير أنه لكي يفضي بنا إلى صدور الرخصة، ولا يدعنا نتجاوز قدر الضرورة، وصّانا بأربع وصايا:
الوصيّة الأولى:
التحقّق والتثّبت من وقائع الذنب، حتى لا نأخذ بالشبهة أو الظن، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)} (النساء)!
الوصيّة الثانية:
ألا نأخذ جارًا بظلم جاره، ولا أحداً بذنب أخيه، قال تعالى:{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} (النجم)!
الوصيّة الثالثة:
أن تكون العقوبة على قدر الجريمة، قال تعالى:{وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (البقرة: 194)!
الوصيّة الرابعة:
وقف الجزاء متى توقّف الجاني عن جنايته، وذلك بالكفّ عن عقوبة المتهمين، قال تعالى:{فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} (البقرة)!
8 - سياسة الاستسرار:
ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم بتسديد الله وتوفيقه (1)، وحكمة توجيه دعوته في سيرها، وتبليغ رسالته، أن لا يبادي قومه بعداوة، وأن لا يعلن إليهم دعوته في
(1) محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 2: 6 وما بعدها بتصرف.
أول خطواتها، وهو وحيد منفرد في قومه، ليس معه من ينصره منهم، ولا من غيرهم، وهم جميعاً، ومن ورائهم سائر العرب، بل سائر الدنيا، إلْبٌ على هذه الأعمال الهادية الراشدة، التي تعيب وثنيّتهم، وتنعَى عليهم شركهم، وتسفّه أحلامهم، وتندّد بحياتهم الماديّة الظالمة التي يحيونها دون رادع يردعهم عن فجور ظلم يرتكبونه، أو عتوّ بغي يأتونه، حيث لا قانون ولا دين، ولا نظام ولا ضمير!
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ماضٍ في دعوته، لا يصدّه عنها صادّ، ولا يردّه عن سبيلها رادّ، فاستجاب له -كما سبق- من استجاب!
واتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم من (دار الأرقم) في أصل الصفا دار دعوته، ومعهد تلقّي رسالته، جعلها مجمع السابقين إلى الإيمان من أصحابه، وأقبل عليه أهل الصدق من شباب قريش، وغير قريش مؤمنين بدعوته، متّبعين له في دينه، مصدّقين برسالته، مهتدين بهديه، أعزّة في قومهم، كرماء على أنفسهم، وكثروا وتكاثروا، وهم في دار الأرقم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،وشعَرت بهم، وبخطرهم عليها وعلى حياتها الجاهليّة قريش، ومادت الأرض تحت أقدامها، والتفَت رجال كل بيت في قريش إلى أنفسهم وأسرهم، أبنائهم وإخوتهم، فإذا هم يرون أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد اجتذب منهم زهرات شبابهم، ومصدر قوّتهم، وعدّة مستقبلهم، فهم عنده ومعه مسلمون، مؤمنون، واعتنقوا عقيدته، عقيدة التوحيد، وهجروا آلهة آبائهم وأسلافهم، وسفّهوا أحلامهم، ووصموا بالدنيّة قومهم، وأصبحوا جند دعوة خاتم النبيّين محمد صلى الله عليه وسلم، وكتائب رسالته، ودخلوا معه بشظف العيش، وشدّة الحياة وفقرها، بعد الترف والمتعة في بيوتهم بين أهليهم، وفارقوا المال والولد، والإخوة والآباء، والأمّهات
والزوجات، وتبدّلوا بهم محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يسمعون للرسول صلى الله عليه وسلم، ويقولون بقوله، لا يخالفون عن أمره، يلحظون موضع إشارته، ويرمقون نظراته، ويتأدّبون بأدبه .. يحبّونه أكثر مما يحبّون أنفسهم، لا يتردّدون في تحقيق رغبة من رغباته، ولو كان فيها حياة أحدهم، فكانوا منه ومعه، بما لم يكونوا به من أمّهاتهم وآبائهم، ومع أولادهم!
وطارت عقول قريش شعاعاً من أدمغتها، إذْ تمثّلوا هذا في واقعهم، ودارت أفئدتهم في حنايا أضلعهم، وتنفّسوا الصُّعداء غمًّا وهمًّا وكمداً، وما يغني غمّ الدنيا وهمّها وكمدها شيئاً، فليركبوا رأس الشيطان فجوراً وعتواً، وليفتكوا بكل من يقدرون عليه من فلذات أكبادهم الذين تابعوا محمداً صلى الله عليه وسلم، ولتذهب رحمة الأبوّة، وشفقة البنوّة، راغمةً تحت أقدام آلهتهم، لعلّها ترضى عنهم، كما سيأتي!
وهنا نبصر سياسة الحكمة التي سلكها رسول الله في صلى الله عليه وسلم بتوفيق الله في استمراره بالدعوة، وهي مشرقة في أفق الحياة .. سياسة حكيمة محكمة، أثمرت ثمراتها في تجميع قوة من المؤمنين الراسخين في ايمانهم، الصادقين في يقينهم، الذين تولَاّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل ما تولّى بالتربية والتوجيه، حتى فشا (الدّين القيّم) في مكّة، وتسامع به الناس في أنديتهم ومحافلهم، وبدأت قريش -وهي سيّدة مكّة- تحسّ بخطر هذه القوّة يدخل عليها في بيوتها، ويجتذب منها شبابها، ويأخذ بحلاقيمها، فشنّت على المؤمنين بالله ربًّا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً، حرباً خسيسةً، لا مواجهة فيها، ووقف المؤمنون من هذه الحرب الفاجرة موقف الصبر والاحتمال، بل موقف الصفح والعفو!
واستمرّ هذا الطور السرّي للدعوة ثلاث سنين!
ولا يفوتنا أن نذكر دار الأرقم بن أبي الأرقم التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي فيها سرًّا بالداخلين في (الدّين القيّم)، هي الدار المعروفة الآن بـ (دار الخيزران) عند الصفا، كما قال الشامي (1)!
ولم يكن الأرقم معروفاً بإسلامه، وهو من بني مخزوم التي تحمل لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم، ويستبعد أن يلتقي الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الدار التي هي في قلب العدوّ، وقد كان الأرقم فتىً صغيراً عندما أسلم ومن ثم تنصرف الأذهان إلى منازل كبار الصحابة (2)!
وهذه المنطقة تشتد فيها حركة الناس بصورة واضحة، مما يصعب معه إدراك وجود حركة خاصة بأناس يجتمعون في هذه الدار!
وهذه الدار دعيت (دار الإسلام) تصدّق بها الأرقم على ولده، الذي قضى أنها محرّمة بمكانها من الحرم، لا تباع ولا تورث، ولم تزل هكذا حتى كان زمن أبي جعفر (3)!
وفي سياسة الاستسرار -كما أسلفنا- مشروعيّة الأخذ بالحيطة، والأسباب الظاهرة، وما يقرره العقل السليم من الوسائل التي ينبغي أن تتخذ من أجل
(1) انظر: سبل الهدى والرشاد: 2: 320، وقال اللواء إبراهيم باشا: هذه الدار في زقاق، على يسار الصاعد إلى الصفا، وبابها يفتح إلى الشرق، ويدخل منه إلى فسحة سماويّة طولها نحو ثمانية أمتار في عرض أربعة: مرآة الحرمين: 1: 199 ط. أولى!
(2)
انظر: الرحيق المختوم: 49، وابن سعد: 3: 244، وابن هشام: 1: 424، والأصبهاني: المعرفة: 2: 378، والسيرة النبويّة في ضوء المصادر الأصلية:195.
(3)
انظر كتابنا: أحاديث الوقف الإسلامي: 289 وما بعدها.