الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولمَّا كانت عناية القرآن دائماً بالجوهر والمخبر أشدّ منها بالصورة والمظهر، كان الهدف الأوّل الذي تتجه إليه الوصيّة ها هنا، هو الجانب الروحي الخُلُقي، جانب السيرة والسريرة!
وهذا هو ما فهمه الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين!
وإنه لطهر شامل للمظهر والمخبر معاً!
ترى، أما آن لنا أن نقبس من هذا الطهر ما يضيء أمامنا معالم الطريق؟!
بين البخل والسرف:
والشأن في المسلم أن يوقن أن حصر همّه في جمع المال وتعديده يشقيه تَعَباً ويعييه، وأنه لا محالة مفارقه يوماً ما تركةً، ليستمتع به من لم يكن يهمه ولا يعنيه، وأنه سيلاقيه أخيراً، لا ملكاً ولا انتفاعاً، ولكن عذاباً واصباً في الآخرة، فوق ما كان هماً ناصباً في هذه الدنيا!
ومن ثم ينفعه إيمانه، ويتبدّل حرصه الشديد على المال إنفاقاً في سبيل الله، وزهداً في متاع الحياة، وتتحوّل عبوديّته له سيادة وسلطاناً عليه، وتنفرج أنامله المعقودة، وتنبسط كفّه المقبوضة، ويصبح شعاره: أنفق .. أنفق .. بعد أن كان مثله: أمسك .. أمسك!
لكن، ألست ترى أن حلّ هذه المشكلة الأولى، هو نفسه إثارة لمشكلة أخرى؟!
ألست ترى أن السلامة من هذا الداء، هي بعينها مدرجة، ومزلقة إلى واد آخر؟!
لقد كفينا آنفاً من مرض الإمساك والتقتير .. ألسنا بهذا العلاج نسلط عليه جراثيم من فصيلة الإسراف والتقتير؟!
كلا، إن القرآن الحكيم لم يدع هذه النزعة الجديدة تنطلق انطلاقها، وتجاوز مداها .. لقد وضع أمامها سدوداً وحواجز تقف بها دون طرفها الأقصى، كما وضع أمام النزعة الأولى سدوداً وحواجز تقف بها دون طرفها الأدنى، فكما قال:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} !
قال عقبها في نفس الآية: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (الإسراء: 29)!
ومن صفات عباد الرحمن نقرأ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} (الفرقان)!
هما إذن طرفان ذميمان، خيرهما شر، وموردان يفيضان، أحلاهما مر .. بلى على التعيين والتحديد!
إن هذا المرض أفحش ضرراً وأعظم خطراً، وإن اشتركا في أصل الضرر والخطر .. فالممسك والمسرف كلاهما يضع المال في غير موضعه .. غير أن الممسك يضعه في مكان عزيز حريز فما يدرينا؟ لعل الله يقيض لهذا المال بعد ذلك، من يثيره في مكمنه، ويوجّهه الوجهة السديدة التي يرضاها الخُلق والدين!
أما المسرف فإنه حين وضعه في غير موضعه وضعه في مضيعة، لقد بعثره وبدّده واستهلكه وأهلكه، فلا سبيل إلى إعادته وتصحيح وجهته!
الممسك يفوّت مصلحة المال إلى أمد، والمسرف يفوّتها إلى الأبد!
الممسك يعلّقها ويعطلّها، والمسرف يمحوها ويبطلها!
الممسك -بقعوده عن الإنفاق في الخير- يضر من طريق سلبي، والمسرف -بإنفاقه في سبيل الشر- يضرّ من طريق لا حدود لها!
الممسك شيطان ساكن ساكت، والمسرف شيطان متحرك ناطق، عامل دائب!
لا جرم أنه كان في حكم الله تعالى أحق باسم الشيطان: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)} (الإسراء)!
هكذا نبصر رذيلتي الإمساك والإسراف، كأنهما من فصيلتين مختلفتين .. وفي الحق لا يختلفان إلا في بادئ الأمر وفي رأي العين .. أما في نظر الحكمة الفاحصة التي تعيش الأشياء من أعماقها، فإنهما يبدوان فصيلة واحدة من المرصد الخلقي، مردها إلى جرثومة واحدة!
نعم، إن محور الشرّ في داء البخل، ليس في حفظ المال وصيانته، لكن في حبسه عن مصارفه، كما أن موطن الضرر في داء الإسراف، ليس في إنفاق المال وبذله، ولكن لما أنفق في غير موضعه، كان ذلك حرماناً لأهله ومستحقّيه، وهذا هو بيت القصيد في نظر الحكيم!
هكذا رجع الداء إلى أصل واحد، وعنصر واحد، وهو حبس المال عن وجوهه وحرمان أرباب الحقوق منه، سواء أبقي في يد صاحبه فسميّناه بخلاً وإمساكاً، أم تبدّد في أيد أخرى، فسميناه تبذيراً وإسرافاً، فهذا الإسراف نفسه هو في نظر الفضيلة إمساك؛ لأنه حبس للمال عن أهله، وهذا التبذير هو التقتير بعينه على الوجوه الأخرى، التي هي أحرى بالإنفاق!
ترى، ما تلك الوجوه الحريّة بالإنفاق؟ والتي إذا لم نبذل المال فيها كان ذلك وصمة لنا بإحدى الرذيلتين؟ وإذا بذلنا المال فيها، كان ذلك طهراً لنا من الدنسين جميعاً، وشفاءً لنا من الدائنين كليهما، في دفعة واحدة؟ يجيب المتطرفّون من أهل الأثرة والأنانية: نفسك .. نفسك .. ومن ورائك الطوفان!
ويجيبنا المتطرّفون من أهل الإيثار والغيريّة: احرق شمعتك .. احرق شمعتك لتضيء للناس، وأهلك نفسك ليحيا الناس!
أما القرآن الكريم، فإنه يجيبنا بحكمته الجامعة:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77)!
نعم، إنها الموازنة، تراعى فيها الحقوق كلها، وتؤذى فيها الواجبات جميعها .. إن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً!
يروي البخاري وغيره عن أبي جحيفة عن أبيه قال:
آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذّلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا! فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً، فقال له: كل، قال: فإِني صائم! قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل! فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: ثم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن: فصليّا، فقال له سلمان: إِن لربّك عليك حقاً! ولنفسك عليك حقاً! ولأهلك عليك حقاً! فأعط