الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ألا وليعلم المقلّون أنهم هم المكثرون، المقلّون تحرّياً للحلال الطيّب في مكاسبهم؛ فإن أكلوا منه أكلوا هنيئاً مريئاً، وإن أنفقوا منه تقبّل منهم وضوعف لهم، وإن تركوه لذريّتهمِ تولى الله حفظه لهم:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ} (الكهف: 82)!
وأخيراً، إن دعوا ربهم كانوا أحرياء أن يستجاب لهم:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)} (المائدة).
أهداف الكسب:
ونجد أنفسنا أمام أهداف الكسب بعد أن طهرت الأداة، وأصلحت الوسيلة، حيث يجب أن نطهّر الباعث ونصحّح النيّة، وننظّم الأسلوب، ونهذّب الخطّة، على الوجه الذي يرضاه الله!
ومن ثم يجب أن نسائل أنفسنا: ماذا نبغي من وراء هذا الكسب؟
ذلك أن للكسب بواعث شتّى، وأغراضاً متفاوتة، تردي صاحبها وتوبقه، ونيّة تنجي صاحبها وتعتقه، ونيّة تنجيه وترفعه إلى أعلى عليّين!
وهكذا ترى الناس -على حسب نياتهم- في درجات ثلاث: فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات!
أتريد مثالاً من النية الفاجرة المردية؟ ما عليك إلا أن تفتح عينيك لترى!
فهذه فئة من الناس، إنما تطلب المال لتطغى به على العباد، ولتنشر به في الأرض الفساد!
وهذه فئة أخرى تسعى إلى المال، لتغامر به وتقامر، أو لتخالل وتخادن، أو لتنفقه في ألوان المسكر والمخدّر!
وهذه فئة ثالثة تطلب المال، لا لتبطش بيدها، ولا لتفجر بجارحتها، ولكنها آثمة القلب، أسيرة للهوى الخفي، تريد أن تباهي بثروتها وتفاخر، وأن تنافس بها وتكاثر:{كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)} (الإسراء)!
هذه أمثلة من البواعث الملتوية، لا نقتبسها من الفروض العقليّة، ولكن نستمدّها من صحيفة الواقع، ومن تقليب النظر في سيرة الجمهور الكادح!
ها هم أولاء يكتسبون عيشهم بعرق الجبين، بكدح الذهن أو كدّ اليمين، فإذا فتشت صدورهم لتعرف نوازعها إلى العمل، وأهدافها من السعي والتنقيب، لا تجد في أكثرها معنى إنسانيًّا ولا روحيًّا!
إنه ليس يهم الحديث على الأهل والولد!
وليس يهم الرعاية لحق الله والوطن!
ولكنه النزول على حكم الشهوات الجامحة، في صورة من هذه الصور أو أمثالها!
ستجد أكثرهم يلتمسون الرزق من حلّه، ولكن هدفهم هو إنفاقه في غير محله! إنهم يتخذون نعمة الله أداة لمعصية الله!
إنهم يطلبون الثروة ليحوّلوها عن طريقها، ويضعوها في يد غير مستحقيها!
ألا تدخل معي إلى بيت من بيوتهم لتنظر في وجوه أهليهم وأولادهم؟!
وارحمتاه لهذه الأكباد الطاوية، والأجساد العارية!! تتلفت طول يومها، وتقضي جلّ ليلها، تشوّقاً إلى كافلها وعائلها، وهو عنهم في شغل بين قرناء السوء، يغرق ماله في كؤوس الصهباء، أو يحرقه ويذره دخاناً في الهواء، أو يدفنه في بالوعة الموائد الخضراء!
يا حسرتا على الجهود الضائعة، والقوى المنهوكة، والثروة المبدّدة!! على حين أن الشعوب من حولنا، تزدهر ثروتها ازدهاراً، وتستعر قوتها استعارًا، بل تكاد تنفجر انفجاراً!
فيا ليت شعري، متى يفيق أبناء هذا الجيل من سكرتهم، ويتنبهون إلى ما يراد بهم؟!
متى يصون كل منهم ثروته وقوّته، ويأخذ للمجد أهبته وعدّته؟!
على أننا الآن، لسنا بصدد البحث في تحديد اللون الطائش من السلوك، وهذا الأسلوب المنحرف من أساليب الحياة، هو الذي يداعب نفوس الجماهير عندنا، وهو الذي يحرّك همّتهم إلى السعي، ويغريهم بالجدّ في الكسب!
إنهم يغبطون السفهاء المسرفين، يتمنّون أن يكون لهم مثل ثروتهم، ليسرفوا كإسرافهم، يقول كل منهم: يا ليت لي مثل ما أوتي فلان! إنه لذو حظ عظيم!
أما أني لو كنت مكانه، لكنت أشدّ منه بطشاً بقوّتي، وأكثر استمتاعاً بثروتي!
فهم من قبل أن ينفقوا، بل من قبل أن يكسبوا ما ينفقون، محاسبون على هذه النيّة الفاجرة!
إنهم منذ الآن مأزورون غير مأجورين!
إن عليهم مثل أوزار المسرفين العابثين!
ومن كان في شك من ذلك فليقرأ:
فلم يهدّد العالين المسرفين وحدهم، ولكنه توعّد الذين يريدون العلوّ والفساد، فتلك هي النيّة المردية الموبقة، وصاحبها ظالم لنفسه!
أما النيّة المنجية المعتقة، فإنها على درجتين:
درجة مقتصدة، تدرأ عن صاحبها الذم واللوم؛ ولكنها لا تستوجب له مدحاً ولا ثواباً .. وحدّ هذه المرتبة أن يكون همّ العامل من كسب الحلال، هو أن ينفقه في الاستمتاع بالحلال، لا يفكّر فيما وراء ذلك!
ودرجة عالية رفيعة، تستوجب لصاحبها الثّناء، وتكفل له أحسن الجزاء، ذلك أن يكون حظّ نفسه تابعاً لحقّ الله عليه، وأن يكون حقّ نفسه مغموراً في حقوق غيره:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)} (القصص)!
أولئك هم السابقون السابقون .. ترى الواحد منهم يجدّ ويسعى امتثالاً لأمر الله، وقياماً بالأعباء التي تفرضها عليه الحياة، ليعفّ نفسه وأهله -أول كل شيء- عن الحرام، وليغنيهم وإيّاه عن ذلّ السؤال .. ثم ليعود بفضله على