الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثاني في قراءة المأموم ما زاد على الفاتحة في السرية
المدخل إلى المسألة:
* الأمر بالإنصات للقرآن لعلة السماع، فانتفى الأمر به في الصلاة السرية لانتفاء علته، وكيف ينصت لشيء لا يسمعه؟
* لا يتعبد بالسكوت في الصلاة إلا أن يسمع قراءة إمامه.
* المستمع بمنزلة القارئ؛ لهذا كان التعبد بالإنصات لقراءة الإمام داخِلًا في جملة أذكار الصلاة.
* شرعت الصلاة لإقامة ذكر الله، إما بفعل المصلي، أو بالاستماع إليه من الإمام.
* اشتغال المأموم بالقراءة إذا لم يسمع قراءة الإمام أولى من تفرغه للوساوس، وحديث النفس.
* إذا كان الإمام لا يتحمل عن المأموم سائر أذكار الركوع والسجود والتشهد، فكذلك لا يتحمل عنه القراءة في الصلاة السرية.
[م-375] اختلف العلماء في قراءة المأموم ما زاد على الفاتحة في الصلاة السرية:
فقال الجمهور: تستحب له القراءة
(1)
.
قال أبو الوليد الباجي: «المشهور من قول مالك أن المأموم يقرأ خلف الإمام
(1)
. التوضيح لخليل (1/ 337، 338)، شرح ابن ناجي على الرسالة (1/ 173)، إكمال المعلم (2/ 285، 278)، عقد الجواهر الثمينة (1/ 99)، المنتقى للباجي (1/ 157)، المسالك في شرح موطأ مالك (2/ 379)، شرح التلقين (1/ 594)، تفسير القرطبي (1/ 119)، شفاء الغليل في حل مقفل خليل (1/ 72)، الاستذكار (4/ 229)، بداية المجتهد (1/ 154)، تحفة المحتاج (2/ 51)، التهذيب في فقه الإمام الشافعي للبغوي (2/ 99)، كشاف القناع (1/ 463)، الإقناع (1/ 162)، منتهى الإرادات (1/ 264)، مطالب أولي النهى (1/ 626).
فيما أسر فيه، ولا يقرأ خلفه فيما جهر فيه»
(1)
.
(ح-1470) واستدلوا بما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن ابن أكيمة الليثي،
عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: هل قرأ معي منكم أحد آنفًا؟ فقال رجل: نعم. أنا يا رسول الله قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أقول ما لي أنازع القرآن؟ فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
[صحيح إلا أن قوله: (فانتهى الناس عن القراءة
…
) إلخ مدرج من قول الزهري، قاله أحمد، والبخاري والذهلي، وأبو داود، وجماعة]
(3)
.
وجه الاستدلال:
فقوله: (مالي أنازع القرآن)؟ فإذا أسر المأموم القراءة فقد انتفت العلة.
ولمفهوم قوله: (فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم) فدل على أنهم لم ينتهوا عن القراءة في السر.
ولأن المأمور بالاستماع والإنصات هو من يسمع القرآن دون من لم يسمع، قال تعال:{وَإِذَا قُرِاءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} [الأعراف: 204] فالمأموم إما مستمع وإما قارئ، ولا يتعبد بسكوت لا استماع معه.
وقال الحنفية: لا يقرأ خلف الإمام مطلقًا، وبه قال أشهب وابن وهب وابن حبيب من المالكية
(4)
.
وأدلة الحنفية على التحريم هي أدلتهم نفسها في تحريم قراءة الفاتحة خلف الإمام، وقد سبق ذكرها، فإذا حَرُمَت الفاتحة على المأموم حَرُمَ غيرها من باب أولى.
(1)
. المنتقى للباجي (1/ 159).
(2)
. الموطأ (1/ 86).
(3)
. سبق تخريجه، انظر (ح 1401).
(4)
. فتح القدير (1/ 338)، إكمال المعلم (2/ 278)، شرح التلقين (1/ 594)، المنتقى للباجي (1/ 159)، شرح ابن ناجي التنوخي على الرسالة (1/ 173).
[م-475] واختلفوا في قراءة المأموم في الصلاة الجهرية إذا كان لا يسمع قراءة إمامه لبعدٍ أو صممٍ أو نحوهما، أيمتنع عن القراءة اعتبارًا بصفة الصلاة وكونها جهرية، أم يقرأ اعتبارًا بحال المصلي؟ على قولين:
فقيل: تستحب له قراءة ما زاد على الفاتحة، وهو مذهب الشافعية، وقول في مذهب المالكية، ونص عليه أحمد
(1)
.
قال ابن مفلح في الفروع: «وإن لم يسمعه لبعدٍ قرأ في المنصوص
…
ولِطَرَشٍ فيه وجهان»
(2)
.
والمشهور في المذهب أن الأطرش يقرأ إلا أن يخشى أن يؤذي من بجانبه.
(3)
.
* دليل هذا القول:
أن المأموم إذا لم يسمع قراءة الإمام صارت الجهرية في حقه كالسرية، بجامع أن كُلًّا منهما يقرأ فيها الإمام، ولا تسمع قراءته.
ولأن الصلاة شرعت لإقامة ذكر الله تعالى، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].
وإقامة الذكر في الصلاة إما بفعله أو بالتعبد باستماعه، فلا يُتَعَبَّدُ في الصلاة بالسكوت المجرد من الذكر أو الاستماع.
ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قُرِاءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
(1)
. مواهب الجليل (1/ 536)، حاشية الدسوقي (1/ 247)، المختصر الفقهي لابن عرفة (1/ 241)، تحفة المحتاج (2/ 51)، فتح العزيز (3/ 311)، المجموع (3/ 364)، روضة الطالبين (1/ 241)، التهذيب في فقه الإمام الشافعي (2/ 98)، كشاف القناع (1/ 464)، الهداية على مذهب أحمد (ص: 95)، المغني (1/ 407)، الفروع (2/ 193)، الإنصاف (2/ 231)، الإقناع (1/ 162)، شرح منتهى الإرادات (1/ 264).
(2)
. الفروع (2/ 193).
(3)
. المغني لابن قدامة (1/ 407)، وانظر: التمهيد (11/ 38).
وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} [الأعراف: 204].
فأمر الله بالإنصات لعلة السماع، فانتفى الأمر في الصلاة السرية لانتفاء علته، وكيف ينصت لشيء لا يسمعه؟
ولأن اشتغاله بالقراءة أولى من تفرغه للوسواس، وحديث النفس.
وإذا كان الإمام لا ينوب عن المأموم في سائر أذكار الركوع والسجود والتشهد، فكذلك لا ينوب عنه في قراءة ما زاد على الفاتحة في الصلاة السرية.
وأشار ابن عبد البر إلى تخريج قراءة من لم يسمع قراءة إمامه مِنْ إجازة بعض أصحاب مالك كلامَ مَنْ لم يسمع خطبة الإمام في الجمعة.
قال ابن عبد البر نقلًا من مواهب الجليل: «يتخرج فيه قول بأنه يقرأ، من قول من قال من أصحاب مالك: إنه يجوز التكلم لمن لا يسمع خطبة الإمام»
(1)
.
مع مراعاة الفرق بأن الكلام مباح إذا لم يسمع خطبة الجمعة، وقراءة المأموم من الذكر في الصلاة، وهو مشروع في السرية، فكذلك هنا، فيكون جوازه في الفرع أولى من جوازه في الأصل المقيس عليه.
وقيل: لا يقرأ، وهو المنصوص عند المالكية، واقتصر عليه خليل في مختصره، ووجه في مقابل الأصح عند الشافعية
(2)
.
قال خليل: «وإنصات مُقْتَدٍ، ولو سكت إمامه»
(3)
.
وقال الدردير في الشرح الكبير «تكره قراءته ولو لم يسمعه»
(4)
.
وقال الحطاب: «قال ابن ناجي في قول الرسالة: (لا يقرأ معه فيما يجهر فيه)
(1)
. مواهب الجليل (1/ 536)، وانظر المختصر الفقهي لابن عرفة (1/ 241).
(2)
. مختصر خليل (ص: 32)، حاشية الدسوقي (1/ 247)، مواهب الجليل (1/ 536)، إكمال المعلم (2/ 278)، شرح زروق على متن الرسالة (1/ 281)، الشامل في فقه الإمام مالك (1/ 107)، الدر الثمين والمورد المعين (ص: 302)، التوضيح لخليل (1/ 337)، المجموع (3/ 364).
(3)
. مختصر خليل (ص: 32).
(4)
. الشرح الكبير للدردير (1/ 247).
ظاهر كلامه، ولو كان لا يسمع صوت الإمام، وهو كذلك على المنصوص»
(1)
.
وقال النووي: «قال أصحابنا: وإذا قلنا لا تجب عليه في الجهرية، بأن كان أصم، أو بعيدًا عن الإمام لا يسمع قراءة الإمام، ففي وجوبها عليه وجهان مشهوران للخراسانيين:
أصحهما: تجب؛ لأنها في حقه كالسرية.
والثاني: لا تجب لأنها جهرية»
(2)
.
[م-575] لو جهر الإمام في السرية أو أَسَرَّ في الجهرية فما حكم قراءة المأموم؟
في ذلك خلاف بين العلماء:
فقال المالكية، وهو وجه عند الشافعية: إن جَهَرَ خلاف السنة لم ينصت المأموم بل يقرأ؛ لأن جهره إذا وقع مخالفًا للسنة في حكم العدم، فلا يؤمر بالاستماع، ولأنه لو أمر بالإنصات لمطلق القراءة ولو كانت خلاف السنة لأمر بالاستماع للقراءة خارج الصلاة.
وكذلك لو أَسَرَّ في الجهرية لم يقرأ؛ لأن الإسرار في غير محله، فالاعتبار في الجهر والإسرار ما وقع بِمَحَلِّه متبعًا فيه سنة الصلاة، لا مطلقًا.
(3)
.
واختار الشافعية في الأصح: «أن الاعتبار بفعل الإمام، فإذا جهر في السرية أنصت، وإذا أَسَرَّ في الجهرية قرأ
(4)
.
قال النووي: «ولو جهر الإمام في السرية، أو أسر في الجهرية، فوجهان:
أصحهما، وهو ظاهر النص: أن الاعتبار بفعل الإمام.
(1)
. مواهب الجليل (1/ 536).
(2)
. المجموع (3/ 364).
(3)
. الفواكه الدواني (1/ 206)، حاشية الدسوقي (1/ 247)، منح الجليل (1/ 257).
(4)
. تحفة المحتاج (2/ 54).
والثاني: بصفة أصل الصلاة»
(1)
.
ولو قيل بالتفريق بين الجهر والإسرار، فإذا جهر في السرية قرأ؛ لمخالفة الإمام لسنة القراءة، فكان الجهر في حكم العدم.
وإذا أسر في الجهرية فإنه يقرأ؛ لأنه لا يستفيد من إنصاته، لأن الإنصات إنما يعد من أفعال الصلاة إذا كان يستمع فيه قراءة القرآن؛ لأن المستمع بمنزلة القارئ، ولأن المانع من القراءة هو الاستماع لقراءة الإمام إذا كان الجهر موافقًا فيه سنة القراءة، فإذا لم يسمع لقراءة الإمام فكيف ينصت؟ ولأن السكوت الطويل مُخِلٌّ بالمقصد الشرعي من إقامة الصلاة، وهو إقامة ذكر الله تعالى، والله أعلم.
* * *
(1)
. المجموع (3/ 364).