الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثاني الصلاة بالقراءة المخالفة لرسم المصحف
المدخل إلى المسألة:
* كل قراءة صح سندها، ولها وجه في العربية، ولم تخالف رسم المصحف فإن القراءة بها في الصلاة صحيحة في الأصح، ولو كانت خارج القراءات العشر.
* كل قراءة صح سندها، ولها وجه في العربية، وخالفت رسم المصحف فإنها تثبت قراءة على الصحيح، وهل تثبت قرآنًا؟ في ذلك خلاف.
* لا نقطع بقرآنية ما خالف رسم المصحف؛ لمخالفتها ما أُجْمِعَ عليه، ولا ننفي قرآنيتها وقد صح سندها؛ لاحتمال أن تكون مسموعة من النبي صلى الله عليه وسلم، ونحتاط للصلاة ركن الإسلام الأعظم بعد الشهادتين فلا نؤدي بها فرض القراءة، ونحتاط للشريعة فلا نهدرها فيستفاد منها في الأحكام والتفسير، على قاعدة: واحتجبي منه يا سودة.
* كل قراءة كانت جائزة في حياته صلى الله عليه وسلم حتى مات، فهي جائزة إلى يوم القيامة ولو خالفت الرسم إذا اشتهرت واستفاضت.
* كل ما لم يصح سنده، ولا وجه له في العربية، وخالف رسم المصحف فهذا باطل، لا يعد قراءة.
* القراءات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن متواترة بين الصحابة، وإلا لما اختلف عمر وهشام بن حكيم في صفة قراءة سورة الفرقان، ولما اختلفوا في قرآنية البسملة.
* قال الزركشي: القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان
(1)
.
* قال الطوفي: اعلم أن بعض من لا تحقيق عنده ينفر من القول بعدم تواتر
(1)
. البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/ 318).
القراءات، ظنًّا منه أن ذلك يستلزم عدم تواتر القرآن، وليس ذلك بلازم، لما ذكرناه أول المسألة، من الفرق بين ماهية القرآن والقراءات، والإجماع على تواتر القرآن
(1)
.
* لم يشترط الصحابة رضي الله عنهم حين جمعوا القرآن من بعضهم التواتر، وكل ما لم يكن شرطًا في جمعه، لا يكون شرطًا في أدائه.
* كوننا نقطع بأن بعض هذه القراءات الشاذة قد قرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذها بعض الصحابة منه من حيث الجملة، لا يلزم منه القطع في أفراد هذه القراءات كالقول في حجة الوداع، فإن وقوعها متواتر، ولا يلزم من تواتر وقوعها تواتر الأخبار الواردة في صفتها.
* أصل المسألة يرجع إلى أن القراءة الشاذة أهي مما نقطع بخطأ ناقلها لكونها تتوافر الدواعي على نقلها عادة أم نقطع بصوابه، أم لا نقطع بخطئه ولا نجزم بصوابه، فإن وافقت المصحف المجمع عليه قُبِلَت قراءة وقرآنًا ولو لم تتواتر؛ لعدالة ناقلها، وموافقتها ما أجمع عليه من الصحابة، وإن خالفت الرسم، وكانت آحادًا ولم تشتهر فيتوقف في قرآنيتها، ويستفاد منها في التفسير والأحكام؟
[م-610] اختلف العلماء في الصلاة بالقراءة الثابتة عن الصحابة رضي الله عنهم إذا كانت مخالفة لمصحف عثمان رضي الله عنه:
فقال الأئمة الأربعة: لا يقرأ بها في الصلاة
(2)
.
فإن قرأ بها فاختلفوا في بطلان صلاته:
(1)
. شرح مختصر الروضة (2/ 23).
(2)
. حاشية ابن عابدين (1/ 486) و (6/ 422)، جاء في المدونة (1/ 177):«سئل مالك عمن صلى خلف رجل يقرأ بقراءة ابن مسعود؟ قال: يخرج، ويدعه، ولا يأتم به» .
وانظر: البيان والتحصيل (9/ 374)، التمهيد لاختصار المدونة (1/ 252)، التمهيد لابن عبد البر (8/ 293)، الذخيرة للقرافي (2/ 187)، مختصر خليل (ص: 40)، التاج والإكليل (2/ 421)، المجموع (3/ 392)، مغني المحتاج (1/ 153)، أسنى المطالب (1/ 63)، الإنصاف (2/ 58)، الإقناع (1/ 119)، الفروع (3/ 183)، شرح منتهى الإرادات (1/ 193).
فقيل: تبطل مطلقًا، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، واختاره السرخسي من الحنفية
(1)
.
وقيل: تبطل إن اقتصر عليها، فإن قرأ معها من القرآن ما يُؤَدِّي به فرض القراءة لم تفسد صلاته، وهو مذهب الحنفية، وقول لبعض الشافعية، واختاره بعض الحنابلة
(2)
.
قال في الإنصاف: «واختار المجد أنه لا يجزئ عن ركن القراءة، ولا تبطل الصلاة به، واختاره في الحاوي الكبير»
(3)
.
وقيل: إن خالفت الرسم بطلت صلاته، وإن لم تخالف الرسم، فصلاته صحيحة، وإنْ حَرُمَت القراءة بها، وهو مذهب المالكية
(4)
.
وقيل: إن قرأ بالشاذ صحت صلاته إن لم يغيِّر معنى، ولا زاد حرفًا، ولا نقصه، وهو مذهب الشافعية، وقياس قول أبي حنيفة في صحة القراءة بالفارسية
(5)
.
(1)
. قال في الإنصاف (2/ 58): وإن قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان لم تصح صلاته، وتحرم؛ لعدم تواتره، وهذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب .... ».
وانظر: الإقناع (1/ 119)، الفروع (2/ 183، 185)، شرح منتهى الإرادات (1/ 193)، المبدع (1/ 392). الحاوي في فقه الإمام أحمد (1/ 302)، اللباب في علوم الكتاب (1/ 92)، المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين (1/ 122).
قال السرخسي في أصوله (1/ 280): «لو صلى بكلمات تفرد بها ابن مسعود لم تجز صلاته لأنه لم يوجد فيه النقل المتواتر، وباب القرآن باب يقين وإحاطة، فلا يثبت من دون النقل المتواتر كونه قرآنًا، وما لم يثبت أنه قرآن فتلاوته في الصلاة كتلاوة خبر فيكون مفسدًا للصلاة» .
(2)
. المحيط البرهاني في الفقه النعماني (1/ 320)، حاشية ابن عابدين (6/ 422)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 66)، البحر الرائق (1/ 325)، النهر الفائق (1/ 206).
في المهمات في شرح الروضة والرافعي (3/ 52): «رأيت في فتاوى قاضي القضاة صدر الدين موهوب الجزري أن القراءة بالشواذ جائزة مطلقًا إلا في الفاتحة للمصلي، وذكر ابن الحميري المصري في فتاويه نحوه أيضًا إلا أنه أطلق المنع في الصلاة» .
(3)
. الإنصاف (2/ 58)، وانظر الحاوي الكبير للعبدلياني (1/ 303).
(4)
. شرح الزرقاني على مختصر خليل (2/ 19)، منح الجليل (1/ 360)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/ 328)، لوامع الدرر (2/ 455)، الخرشي (2/ 25).
(5)
. قال النووي في الروضة (1/ 242): «وتصح القراءة بالشاذة إن لم يكن فيها تغيير معنى، ولا زيادة حرف، ولا نقصانه» . =
فزاد الشافعية على شرط المالكية أن لا يتغير معها المعنى.
وقيل: تصح الصلاة بالقراءة بها مطلقًا مع الكراهة، وهو إحدى الروايتين عن الإمام مالك، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، اختارها ابن قدامة، ورجحها ابن الجوزي، واختارها ابن تيمية وابن القيم، وصوبها المرداوي في الإنصاف، ورجحها الشوكاني
(1)
.
جاء في الحاوي في الفقه على مذهب الإمام أحمد: «وعن أحمد صحة الصلاة بما صح نقله من القراءات عن الصحابة؛ لأنها قراءة نقلها الثقات، فأشبهت ما في مصحف عثمان»
(2)
.
وانظر: المهمات في شرح الروضة والرافعي (3/ 52)، تحفة المحتاج (2/ 38، 39)، غاية البيان شرح زبد ابن رسلان (ص: 85)، أسنى المطالب (1/ 151)، فتح الرحمن بشرح زبد ابن رسلان (ص: 273).
وأما تخريج الجواز على قول أبي حنيفة فوجهه: أن أبا حنيفة يرى جواز القراءة بالفارسية، بل بأي لسان كان إذا لم يتغير المعنى، لأن الاعتماد على المعنى، وهذا لا يختلف باختلاف اللغات، وإذا كان الأمر كذلك فبالعربية كانت أولى بالجواز.
وانظر فتاوى قاضي خان (1/ 140)، وسوف أنقل نصه في آخر المسألة.
(1)
. التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 343)، شرح التلقين (2/ 679).
وذكر القاضي أبو يعلى في كتابه المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين (1/ 122): قوله: «نقل إسماعيل بن سعيد، وحنبل: إذا قرأ بقراءة تثبت عن عبد الله فصلاته جائزة، ولا أحب أن يقرأها، لأن قراءة عبد الله كانت مستفيضة» .
فظاهر هذا النص أنه يرى إباحة القراءة بها مع كراهيته لذلك، لقوله: ولا أحب أن يقرأها، وخَصَّ ذلك بقراءة عبد الله بن مسعود؛ وعلل ذلك بكونها قراءة مستفيضة، ويفهم منه أن الإباحة ليست متجهةً في كل قراءة صحيحة خالفت رسم المصحف.
وانظر الإنصاف (2/ 58)، الفروع (2/ 185)، الهداية على مذهب الإمام أحمد (ص: 83)، المغني (1/ 355)، المبدع (1/ 392)، الإقناع (1/ 119)، الحاوي في فقه الإمام أحمد (1/ 302).
(2)
. الحاوي في الفقه على مذهب الإمام أحمد (1/ 302)،.
يقول ابن القيم: «لو قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان، وقد قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده جازت القراءة بها، ولم تبطل الصلاة بها على أصح الأقوال»
(1)
.
ويقول الشوكاني: ومن عجائب الغلو وغرائب التعصب قولهم: إن القراءة الشاذة من جملة ما يوجب فساد الصلاة، وجعلوها من كلام الناس، وأنه لا يكون من كلام الله إلا ما تواتر، وهي القراءات السبع»
(2)
.
* دليل من قال: يحرم القراءة بها، فإن فعل بطلت صلاته:
الدليل الأول:
هذه القراءات الشاذة لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر.
يقول النووي: «قال أصحابنا وغيرهم: .... لا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة؛ لأنها ليست قرآنًا، فإن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وكل واحدة من السبع متواترة، هذا هو الصواب الذي لا يعدل عنه، ومن قال غيره فغالط، أو جاهل، وأما الشاذة فليست متواترة، فلو خالف وقرأ بالشاذة أنكر عليه قراءتها في الصلاة أو غيرها، وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة من قرأ بالشواذ
…
»
(3)
.
ولأن من تعريف العلماء للقرآن قولهم: المنقول إلينا بالتواتر.
والتواتر: هو ما رواه جماعة، عن جماعة يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب من أول السند إلى منتهاه من غير تعيين عدد على الصحيح.
وصاغ الآمدي الدليل بطريقة أخرى، فقال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مكلفًا بإلقاء ما أنزل عليه من القرآن على طائفة تقوم الحجة القاطعة بقولهم، ومن تقوم الحجة القاطعة بقولهم لا يتصور عليهم التوافق على عدم نقل ما سمعوه منه، فالراوي له إذا كان واحدًا: إن ذكره على أنه قرآن فهو خطأ، وإن لم يذكره على أنه قرآن
(1)
. أعلام الموقعين تحقيق مشهور (6/ 205).
(2)
. السيل الجرار (ص: 146).
(3)
. المجموع شرح المهذب (3/ 392)، وانظر التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 343)، مقدمة غرائب القرآن للنيسابوري (1/ 23).
فقد تردد بين أن يكون خبرًا عن النبي عليه السلام، وبين أن يكون ذلك مذهبًا له، فلا يكون حجة»
(1)
.
وكلام الآمدي هو دعوى في محل النزاع.
ويقول أبو القاسم النويري: عدم اشتراط التواتر قول حادث مخالف لإجماع الفقهاء والمحدثين وغيرهم؛ لأن القرآن عند الجمهور من أئمة المذاهب: هوما نقل بين دفتي المصحف نقلًا متواترًا، وكل من قال بهذا الحد اشترط التواتر كما قال ابن الحاجب
…
صرح بذلك جماعات كابن عبد البر، وابن عطية، والنووي، والزركشي، والسبكي، والإسنوي، والأذرعي، وعلى ذلك أجمع القراء، ولم يخالف من المتأخرين إلا مكي وتبعه بعضهم
(2)
.
ومكي قد عاش بين (355 إلى 437)، فكيف يحسب على المتأخرين.
* ونوقش هذا من وجوه:
الوجه الأول:
أن المصحف الذي جمعه الخليفة عثمان رضي الله عنه، وأجمع عليه الصحابة ثابت بالتواتر القطعي، فهل جميع القراءات السبع أو العشر، أو غيرهما جميع آحادها متواترة، ما اتفق فيه القراء، والروايات والطرق وما اختلفت عليه؟
فالمتواتر يفيد العلم الضروري الذي لا يمكن لأحد دفعه، يقول تاج الدين السبكي عن القراءات العشر:«متواترة معلومة من الدين بالضرورة، وكل حرف انفرد به واحد من العشرة معلوم من الدين بالضرورة أنه منزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يكابر في شيء من ذلك إلا جاهل، وليس تواتر شيء منها مقصورًا على من قرأ بالروايات، بل هي متواترة عند كل مسلم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، ولو كان مع ذلك عاميًّا جِلْفًا لا يحفظ من القرآن حرفًا»
(3)
.
(1)
. الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 160).
(2)
. إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشرة، تحقيق أنس مهرة (ص: 8)، وانظر: الإبانة عن معاني القراءات (ص: 123)، مدخل في علم القراءات (ص: 51).
(3)
. النشر في القراءات العشر (1/ 46).
والسؤال: إذا كان هذا ما يفيده التواتر، فكيف يتصور أن هذه القراءات كلها متواترة، ثم يحصل الخلاف بين علماء القراءات فضلًا عن غيرهم في تواترها.
فهناك من يثبت التواتر لجملتها، ويُقِرُّ بعدم ثبوت التواتر لآحادها فردًا فردًا وهو أقربها، وهناك من يثبت لها الشهرة والاستفاضة، وهي أقلُّ من التواتر، وهناك من يثبت التواتر للسبع، وينفيه عما عداها كما هو قول ابن الحاجب والنووي والرملي وغيرهم، وهناك من يثبته للقراءات العشر كالسبكي والبغوي، ويحكم بشذوذ ما وراء العشر، وهناك من ينفي اشتراط التواتر لصحة القراءة، وأن اشتراطه قول لبعض المتأخرين مخالفًا أئمة السلف، وهناك من يقول بعكس ذلك، وأن عدم اشتراط التواتر قول حادث، وهناك من يرى أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فهذا الاختلاف بحد ذاته دليل على عدم حصول التواتر في جميع آحاد القراءات السبع، ولو وقع التواتر لجميع آحاد القراءات السبع أو العشر لحصل العلم به لعموم الناس، ولم يختلف فيه العامة فضلًا عن العلماء، فضلًا عن علماء القراءات.
فهذا النووي وهو يقول بتواتر القراءات السبع يقول في التبيان في آداب حملة القرآن: «تجوز قراءة القرآن بالقراءات السبع المجمع عليها، ولا يجوز بغير السبع، ولا بالروايات الشاذة المنقولة عن القراء السبعة»
(1)
.
فلم يجعل النووي الروايات المنقولة عن القراء السبعة كلها مجمعًا عليها، بل هناك قراءات مجمع عليها عنهم، وهناك روايات منقولة عنهم هي من قبيل الشاذ، والله أعلم.
وإذا كانت القراءات كلها متواترة، فكيف وقع الخلاف بين عمر رضي الله عنه وهشام بن حكيم كما في الصحيحين في صفة قراءة سورة الفرقان.
(2)
.
(1)
. التبيان في آداب حملة القرآن (ص: 97).
(2)
. شرح مختصر الروضة (2/ 23).
وإذا انقطع التواتر عنها في الصدر الأول، لم يحصل لها التواتر فيما بعده.
وإذا كانت قراءة أحدهما آحادًا، ولهذا لم يعلم بها الآخر، فهل كونها آحادًا تكون شاذةً؛ لأنها فقدت صفة التواتر، وكيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم لكل واحد منهما: هكذا أنزلت، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسير منه، متفق عليه
(1)
، ثم تكون شاذة.
وكذلك يقال في البسملة، وكيف وقع الخلاف فيها بين القراء والفقهاء: بين من يقول: ليست قرآنًا مطلقًا، بل هي ذكر كتبت للتبرك بها، وبين من يقول: هي آية من كتاب الله على خلاف بينهم، أهي آية مستقلة، أم آية من الفاتحة ومن كل سورة، أم آية من الفاتحة فقط، فلو كان القرآن لا يثبت إلا بالتواتر لما اختلف فيها، والاختلاف فيها لا يمنع من كونها قرآنًا على الصحيح، والقول بأنها متواترة عند بعض القراء وليست متواترة في قراءة بعضهم، فهذا كدعوى الشيء ونقيضه، فلو تواترت لما جاز لأحد أن ينفي قرآنيتها؛ لأن التواتر يفيد العلم الضروري.
قال القسطلاني في اللطائف نقلًا من تفسير القاسمي: اشتراط التواتر بالنظر لمجموع القرآن، وإلا فلو اشترطنا التواتر في كل فرد فرد من أحرف الخلاف انتفى كثير من القراءات الثابتة عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم
(2)
.
وقد نقل ابن الجزري عن الإمام مكي أبي محمد (355 - 437) شروط ما يقبل من القراءات وما لا يقبل.
* فذكر من شروط ما يقبل قراءة وقرآنًا ثلاث خلال:
الأولى: أن ينقل عن الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد حاول بعض المعاصرين أن يأخذ من كلمة (الثقات) اشتراط التواتر، باعتبار الثقات جمعًا، وهذا من التكلف، فالتعبير بالثقات باعتبار طبقات السند، بأن يكون الإسناد من ابتدائه إلى منتهاه من رواية الثقة عن مثله، وعلى التنزل فليس كل جمع يدل على التواتر، بل ولا يدل على الاستفاضة والشهرة.
(1)
. صحيح البخاري (2419، 6936)، وصحيح مسلم (270 - 818).
(2)
. انظر تفسير القاسمي (محاسن التأويل)(1/ 186).
الثانية: أن يكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن سائغًا.
الثالثة: أن يكون موافقًا لخط المصحف؛ لأن خط المصحف أخذ عن إجماع
(1)
.
فجعل الإمام مكي القراءة، وإن كانت آحادية إذا وافقت المصحف العثماني فقد وافقت ما أجمع عليه، فقبلت قراءة، وقبلت قرآنًا، بخلاف ما صح سنده، وخالف ما أجمع عليه من خط المصحف، فيقبل قراءة، ولا يقبل قرآنًا.
فلم يشترط مكي التواتر لثبوت القراءة، وهو من المتقدمين، فكيف يزعم أن القول بعدم اشتراط التواتر لم يقل به إلا المتأخرون.
وذهب ابن الجزري إلى عَكْسِ قول أبي القاسم، حيث كان يرى أن اشتراط التواتر هو قول لبعض المتأخرين، وأنه مخالف لما عليه أئمة السلف والخلف.
يقول ابن الجزري: «وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن، ولم يَكْتَفِ فيه بصحة السند، وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر
…
وهذا مما لا يخفى ما فيه؛ فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من الرسم وغيره؛ إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترًا عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب قبوله، وقطع بكونه قرآنًا، سواء أوافق الرسم أم خالفه، وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم، وقد كنت قبل أجنح إلى هذا القول، ثم ظهر فساده، وموافقة أئمة السلف والخلف»
(2)
.
فابن الجزري، وهو من علماء القراءات كان يذهب إلى اشتراط التواتر موافقة لبعض المتأخرين كتقي الدين السبكي وتاج الدين السبكي، ثم ظهر له فساد هذا القول، فتركه ورأى أن في تركه موافقة لأئمة السلف والخلف.
ويقول الإمام أبو شامة في المرشد الوجيز (ت: 665): «غاية ما يبديه مدعي تواتر المشهور منها .... أنه متواتر عن ذلك الإمام الذي نسبت تلك القراءة إليه بعد أن يجهد نفسه في استواء الطرفين والواسطة إلا أنه بقي عليه التواتر من ذلك الإمام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في كل فرد فرد من ذلك، وهنالك تسكب العبرات، فإنها من ثم لم
(1)
. انظر: النشر في القراءات العشر (1/ 14).
(2)
. النشر في القراءات العشر (1/ 13).
تنقل إلا آحادًا، إلا اليسير منها»
(1)
.
وبصرف النظر عن الراجح من هذا الخلاف فإن اختلافهم يقدح في صحة دعوى التواتر؛ فالتواتر إذا وقع أفاد العلم الضروري، الذي يضطر الإنسان إليه، بحيث لا يمكن دفعه، ولا يعول فيه على إسناد، ولا على غيره، ويحصل للعامي كما يحصل للعالم، واختلافهم في تواتر القراءات دليل على أنه من قبيل العلم النظري القائم على النظر والاستدلال، ويستفاد منه الظن، وليس القطع، مع القول بوجوب العمل به.
* ولهذا اختلف العلماء في اشتراط التواتر على أربعة أقوال:
أحدها: أن القرآن متواتر مطلقًا، سواء ما كان منه من جوهر اللفظ كمالك، وملك، أم كان منه من قبيل الأداء والهيئة: كالتفخيم والترقيق، والمدِّ والإدغام ونحو ذلك، وهذا قول الجمهور.
الثاني: أن القرآن ليس متواترًا مطلقًا، لا في أصله، ولا في هيئته، عكس القول الأول.
الثالث: أن القراءات السبع متواترة فيما ليس من قبيل الأداء، وهو اختيار ابن الحاجب وغيره.
قال ابن الحاجب: القراءات السبع متواترة فيما ليس من قبيل الأداء، كالمد، والإمالة، وتخفيف الهمزة ونحوه
(2)
.
يعني: فيما زاد على القدر المشترك في المد ونحوه، وإذا لم يثبت متواترًا فيكفي شهرته واستفاضته.
قال ابن الجزري: ولا نعلم أحدًا تقدم ابن الحاجب إلى ذلك
(3)
.
الرابع: التوقف في اشتراط التواتر في القرآن، وإليه ذهب ابن الأمير الصنعاني
(4)
.
(1)
. المرشد الوجيز (ص: 178).
(2)
. بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 462).
(3)
. النشر في القراءات العشر (1/ 30).
(4)
. انظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/ 319)، الإتقان في علوم القرآن (1/ 273)، معترك الأقران في إعجاز القرآن (1/ 122)، تفسير القاسمي (1/ 191، 196)، النشر في القراءات العشر (1/ 30)، منجد المقرئين (ص: 72)، مناهل العرفان (1/ 438)، شرح مختصر أصول الفقه للجراعي (1/ 522)، الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع (1/ 412)، الاختيارات الأصولية للصنعاني. د. الحرازي رسالة دكتوراه (1/ 466، 467).
والتوقف ليس حكمًا شرعيًّا؛ لأنه يتعلق بحال المجتهد.
والراجح: أن أكثر القراءات العشر متواترة خاصة فيما أجمعوا عليه، وهناك روايات عن القراء السبعة ليست متواترة، بل منها ما هو مشهور، ومنها ما هو من قبيل الآحاد، كما سبق بيانه في الفصل السابق.
الوجه الثاني:
لم يعرف عن أحد من أهل العلم أن التواتر شرط في قبول القراءة قبل جمع عثمان مصحفه، وحتى كثرت القراءات في القرن الثاني والثالث، فأراد العلماء ضبط هذا الاختلاف، وعليه يكون اشتراطه حادثًا، فما لم يكن شرطًا في صحة الصلاة قبل جمع عثمان لم يكن شرطًا بعد ذلك، وفي هذا رد على قول أبي القاسم النويري بأن عدم اشتراط التواتر قول حادث، بل عكسه هو الصحيح، وأن اشتراط التواتر هو الحادث، وأن ذلك لم يكن معروفًا في الصدر الأول.
الوجه الثالث:
أن التواتر قد يُسَلَّم فيما لم يختلف فيه القراء السبعة أو العشرة، واتفقت عليه الروايات والطرق، أما ما اختلفوا فيه من القراءات فلو كان متواترًا لما اختلفوا فيه.
قال أبو العباس أحمد الشهير بابن حلولو القروي المالكي: قد اختلف الناس فيما اختلف القراء السبعة فيه، هل هو متواتر أو لا؟ ولا يعلم عن أحد إنكار القراءة بما اختلف فيه القراء من الحروف، أو صفة الأداء
(1)
.
الدليل الثاني:
حكى بعض أهل العلم الإجماع على أنه لا تجوز القراءة بالشاذ.
قال ابن عبد البر: «قال مالك: من قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود أو غيره من الصحابة مما يخالف المصحف لم يُصَلَّ وراءه. قال ابن عبد البر: وعلماء
(1)
. انظر: نشر البنود على مراقي السعود (1/ 83).
المسلمين مجمعون على ذلك إلا قومًا شذوا لا يعرج عليهم»
(1)
.
وقال الرازي في تفسيره: «اتفقوا على أنه لا يجوز في الصلاة قراءة القرآن بالوجوه الشاذة»
(2)
.
وبالغ ابن العربي، فحكى في القبس اتفاق الأمة على أن القراءة الشاذة لا توجب علمًا، ولا عملًا
(3)
.
* ويناقش:
بأن الأمة لم تتفق على رسم الشاذ، حتى تتفق على تحريم القراءة به، وسبق لنا كلام العلماء في تعريف القراءة الشاذة:
فقيل: ما خالف المصاحف العثمانية مطلقًا، سواء أكانت في القراءات السبع، أم في القراءات العشر، أم في غيرهما.
وقيل: ما عدا القراءات السبع.
وقيل: ما عدا القراءات العشر.
وسبق لي نقل الخلاف في المبحث السابق.
الدليل الثالث:
هذه القراءات المخالفة لمصاحف عثمان رضي الله عنه تحتمل أن تكون تفسيرًا سمعه الصحابي رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم فظنه قرآنًا، والتفسير لا يقرأ به في الصلاة، وإن قرأ به بطلت صلاته ككلام الآدميين.
* ويناقش:
بأن هذا الاحتمال بعيد جدًّا، وكيف يظن بالصحابي بأنه لا يفرق بين القرآن والتفسير، وهم الأمنة على نقل الشريعة، وإذا فتح هذا الوسواس أبطل كثير من المبطلين السنة بهذا الاحتمال.
(1)
. التمهيد (8/ 293).
(2)
. تفسير الرازي (1/ 69).
(3)
. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 319)، وانظر: المسالك في شرح موطأ مالك (3/ 57).
* دليل من قال: تصح القراءة بالشاذ مع الكراهة:
الدليل الأول:
لا نزاع بين العلماء أن القراءات السبع ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل بها القرآن، وقد تقدم نقل إجماع السلف والخلف على ذلك في الفصل السابق
(1)
.
والصحيح من أقوال أهل العلم، والذي عليه جماهير العلماء من السلف، والخلف وأئمة المسلمين أن المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، وليست هي مجموع الأحرف السبعة، ورجح ذلك ابن الجزري، وابن تيمية وغيرهما خلافًا لبعض الفقهاء وبعض القراء، وبعض المتكلمين
(2)
.
وإذا كان ذلك كذلك فإننا نقطع بأنه يوجد قراءات خارج القراءات السبع، والعشر تعتبر قراءات صحيحة، وإن خالفت رسم المصحف، بل قد تكون أصح من القراءات السبع.
الدليل الثاني:
هذه القراءات -التي اصطلح عليها بأنها شاذة؛ لكونها شذت عن رسم المصحف المجمع عليه- نقطع بأن بعضها قد قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذها بعض الصحابة منه، ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم قبل جمع عثمان مصحفه يقرؤون بقراءات لم يثبتها عثمان رضي الله عنه في مصحفه، وكانوا يصلون بها، ولا يرى أحد منهم تحريم ذلك، ولا بطلان صلاتهم به، وهذا بينهم كالإجماع.
فكيف نحكم على قراءتهم بأنها قراءة شاذة، ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قرأ ببعض هذه القراءات، كما في قصة عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم؟
ولهذا كان يشكل على ابن دقيق العيد تسمية هذه القراءات بالشذوذ، فقد نقل عنه أنه قال: «هذه الشواذ إذ نقلت نقل آحاد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعلم ضرورة أن
(1)
. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/ 422).
(2)
. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/ 422)، انظر: مقدمة الحجة للقراء السبعة (ص: 8)، الإبانة عن معنى القراءات (ص: 32).
رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بشاذ منها، وإن لم يعين، كما أن حاتمًا نقلت عنه أخبار في الجود كلها آحاد، ولكن حصل من مجموعها الحكم بسخائه، وإن لم يتعين ما تسخى به، وإذا كان كذلك فقد تواترت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاذ، وإن لم يتعين بالشخص، فيكف يسمى شاذًّا، والشاذ لا يكون متوترًا؟»
(1)
.
* الجواب على الدليلين السابقين من وجهين:
الوجه الأول:
أن هذه القراءات وإن كنا نقطع بأن بعضها قد قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذها بعض الصحابة منه، لكن لا نستطيع القطع في أفراد هذه القراءات بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قرأها؛ فلا يلزم من تواتر قراءته بهذه الأفراد من حيث الجملة تواتر أفراده؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم زمن عثمان لم يجمعوا عليها، فلا نقطع بقرآنيتها، ولا نجحدها، بل يستفاد منها في التفسير، وفي الأحكام، وخير مثال على ذلك حجة الوداع، فإن وقوعها متواتر، ولا يلزم من تواتر وقوعها تواتر الأخبار الواردة في صفتها، فلا تثبت آحاد هذه الأخبار لتواتر حجة الوداع، وقل مثل ذلك في أحاديث الشفاعة، وأحاديث رفع اليدين في الدعاء ونحوهما.
يقول مكي نقلًا من كتاب النشر: ما صح نقله عن الآحاد وصح وجهه في العربية وخالف لفظه خط المصحف، فهذا يقبل، ولا يقرأ به لعلتين:
إحداهما: أنه لم يؤخذ بإجماع، إنما أخذ بأخبار الآحاد ولا يثبت قرآنًا يُقْرَأُ به بخبر الواحد. (يعني أنه يثبت قراءة، ولا يثبت قرآنًا).
العلة الثانية: أنه مخالف لما قد أجمع عليه، فلا يقطع على مغيبه وصحته، وما لم يقطع على صحته لا يجوز القراءة به، ولا يكفر من جحده، ولبئس ما صنع إذا جحده
…
إلخ
(2)
.
وهذا يبتنى على أصل: وهو أن ما لم يثبت كونه من الحروف السبعة، فهل يجب القطع بكونه ليس منها؟
(1)
. منجد المقرئين ومرشد الطالبين لابن الجزري (ص: 22).
(2)
. النشر في القراءات العشر (1/ 15).
(1)
.
قال الإمام أحمد فيما نقل عنه المروذي: قراءة العامة أعجب إليَّ، وإن قرأ بقراءة ابن مسعود لا أقول يعيد
(2)
.
فلم يتجرأ الإمام أحمد على إبطال صلاته؛ لعدم القطع بالمبطل.
الوجه الثاني:
أن هناك فرقًا بين القرآن والقراءة على القول الصحيح، فكل قرآن قراءة، وليس كل قراءة قرآنًا، فكانت القسمة ثلاثة.
القسم الأول: ما اجتمعت فيه أركان القراءة الصحيحة السابق ذكرها بأن صح سندها، ووافقت العربية ورسم المصحف: فهي قراءة صحيحة، ويقرأ بها أيضًا، فكانت قرآنًا.
والقسم الثاني: لا يعتبر قراءة، ولا يقرأ به، وهو ما لم يصح سنده.
والقسم الثالث: ما ثبت قراءة، ولا يقطع بكونه قرآنًا، وهو ما صح سنده، وصح وجهه في العربية، وخالف رسم المصحف.
فإن قيل: كيف يكون قراءة، ولا يقطع بكونه قرآنًا؟
فالجواب: أنه لما خالف رسم المصاحف العثمانية لم نقطع بكونه قرآنًا؛ لعدم إجماع الصحابة عليه، كما أننا لا نقطع بأنه ليس قرآنًا، فقد يكون قرآنًا سمعه الصحابي من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأ به، إلا أن القرآن لا يثبت بالاحتمال، فيثبت قراءة، ولا يقرأ به؛ لعدم القطع بقرآنيته، ويستفاد منه في الأحكام والتفسير
(3)
، والله أعلم.
ويقول الزركشي في البرهان: «اعْلَمْ أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن: هو الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز، والقراءات: اختلاف
(1)
. المرجع السابق، الصفحة نفسها.
(2)
. انظر تهذيب الأجوبة (ص: 308) نقلًا من الجامع لعلوم الإمام أحمد، الفقه (6/ 353).
(3)
. انظر: النشر في القراءات العشر (1/ 14).
ألفاظ الوحي المذكور في كتبة الحروف، أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما»
(1)
.
ويقول الطوفي الحنبلي في شرح مختصر الروضة:
(2)
.
واختار الإمام أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، وأبو محمد المكي، والإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة:
أن ما وافق العربية، ولم يخالف رسم المصحف، وصح سنده، فهو قراءة يقرأ بها (أي قرآن)، لا يجوز ردها، ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء أكانت عن الأئمة السبعة، أم العشرة، أم غيرهما.
وما اختل فيها شرط منها فلا يقرأ بها، أي ليست قرآنًا، وإن اعتبرت قراءة
(3)
.
الدليل الثالث:
(ح-1601) روى البخاري ومسلم من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال:
سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: سمعت هشام بن حكيم ابن حزام، يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكدت أن أَعْجَلَ عليه، ثم أَمْهَلْتُهُ حتى انصرف، ثم لَبَّبْتُهُ بردائه، فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ على غير ما أقرأتنيها، فقال لي: أرسله، ثم قال له: اقرأ، فقرأ، قال: هكذا أنزلت، ثم قال لي: اقرأ، فقرأت، فقال: هكذا أنزلت، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا منه ما تيسر
(4)
.
فدل هذا الحديث أن هناك فرقًا بين اختلاف القراء وبين اختلاف الفقهاء،
(1)
. البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/ 318).
(2)
. شرح مختصر الروضة (2/ 23).
(3)
. انظر النشر في القراءات العشر (1/ 9، 14)، وانظر: القراءات وأثرها في التفسير والأحكام (ص: 84).
(4)
. صحيح البخاري (2419)، وصحيح مسلم (270 - 818).
فاختلاف القراء في القراءات من اختلاف صفات العبادة إذا وردت على وجوه متعددة، فكلها حق وصواب نَزَلَ من عند الله، وهو كلامه لا شك فيه، وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم حيث صَوَّب النبي صلى الله عليه وسلم قراءة كل من المختَلِفَيْنِ، وقطع بأنها كذلك أنزلت من عند الله، فلا ترد القراءة لمجرد مخالفتها رسم المصحف إذا كان النقلة لها ثقاتًا، ووافقت العربية، بخلاف اختلاف الفقهاء: فهو اختلاف اجتهادي، والحق مظنون في أحدها لا في كلها، ولا يتعدد بتعدد الاختلاف.
(ح-1602) وقد روى البخاري من طريق إبراهيم (النخعي)، عن مسروق،
ذَكَر عبد الله بن عمرو عبدَ الله بن مسعود فقال: لا أزال أحبه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ بن جبل، وأُبَيِّ بن كعب، ورواه مسلم
(1)
.
الدليل الرابع:
لم يكن مصطلح الشاذ معروفًا في عصر الوحي، ولا في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حتى جمع الخليفة الراشد عثمان مصحفه، وكثر القراء في القرن الأول والثاني وكثرت اختلافاتهم، فظهر اصطلاح الشاذ، وكان الحكم بين هذه الاختلافات بعد صحة إسنادها، وموافقتها لكلام العرب الذي أنزل به القرآن، هو موافقتها أو مخالفتها لخط المصاحف العثمانية، فما وافقها كان قراءة وقرآنًا، وما خالفها حكم عليه بالشذوذ، ولا يعني مخالفتها للمصحف العثماني القطع ببطلانها؛ لأن المصاحف العثمانية حرف من الأحرف السبعة كما سبق، و لو كانت باطلةً لكانت باطلة في خلافة أبي بكر وعمر وصدرًا من خلافة عثمان، والله أعلم.
* يناقش:
بما سبق ذكره بأن القراءات الشاذة لا نقطع ببطلانها إذا صح سندها، ووافقت العربية، ولكن لا نقطع بقرآنيتها أيضًا؛ لمخالفتها المصحف المجمع عليه، فنقبلها قراءة، ولا نقبلها قرآنًا، والصلاة إنما تصح بما نقطع بأنه قرآن، والله أعلم.
(1)
. صحيح البخاري (4999)، وصحيح مسلم (118 - 2464).
* دليل من قال: تصح القراءة بالشاذة ما لم تخالف الرسم أو تغير المعنى:
هذا القول مبني على تعريف القراءة الشاذة عند المالكية وبعض الشافعية، كالنووي والرافعي والرملي، حيث يرون أن القراءة المتواترة هي القراءات السبع، خلافًا للبغوي والسبكي حيث جعلوا العشر كلها متواترة، وما وراء ذلك فهو شاذ، وبالتالي قد توجد قراءات خارج القراءات السبع، بل وخارج القراءات العشر موافقة لرسم المصحف، وموافقة للعربية، وتكون مشهورة، ويحكمون بشذوذها؛ لكونها خارجة عن القراءات السبع، بدعوى اشتراط التواتر، وأن التواتر مختص بالسبع وقيل: بالعشر، فإذا صلى بهذه القراءة الشاذة لم تبطل صلاته عندهم، إلا أن تخالف الرسم زاد الشافعية: ويتغير معها المعنى، والحكم بصحة الصلاة بها حكم بقرآنيتها، حيث سقط بها فرض القراءة، وهو يضعف الحكم بشذوذها، وقولهم هذا اضطرهم إلى تقسيم القراءة الشاذة إلى قسمين: شاذة تفسد الصلاة، وشاذة لا تفسد.
والصحيح أن كل قراءة سقط بها فرض القراءة فهو قرآن وقراءة معًا، فلا مسوِّغ للحكم بشذوذها، وهو دليل على ضعف التحديد بالسبع أو بالعشر، فالقراءات الصحيحة أوسع من هذا العدد، والمطلوب بعد ثبوت إسنادها، وموافقتها العربية ألا تخالف رسم المصحف، سواء أكانت من السبع أم من العشر، أم من غيرهما، والله أعلم.
* دليل من قال: إن أدى بالشاذ فرض القراءة لم تصح وإلا صحت:
يختلف العلماء في المقدار الذي يؤدي به المصلي فرض القراءة، فالجمهور يرونه متعينًا في الفاتحة، والحنفية يرونه في مطلق القرآن.
فإذا قرأ آية طويلة ولم يكن فيها حرف شاذ مع القراءة الشاذة صحت صلاته عند الحنفية، أو قرأ الفاتحة ولم يكن فيها حرف شاذ مع القراءة الشاذة صحت صلاته عند بعض الشافعية وبعض الحنابلة.
* وجه القول بالصحة:
إن اقتصر على القراءة بالشاذ لم تصح صلاته؛ لتركه القراءة المتواترة، ولأن فرض القراءة لم يتحقق وجوده.
وإن لم يقرأ من المتواتر ما يؤدي به فرض القراءة، وقرأ معها قراءة شاذة لم
تفسد صلاته؛ لأنه أتى بفرض القراءة المجزئة، فالفساد لا يكون من قراءة الشاذ، بل من تركه القراءة المتواترة.
وقال بعض الحنابلة: إذا قرأ قراءة صحيحة فقد تحقق وجود الفرض المجزئ في صلاته، وشك في وجود المبطل؛ والأصل عدمه.
ولأن القراءة الشاذة تكون حينئذٍ بمنزلة الذكر في الصلاة، فلا تبطل به الصلاة، وهذا التعليل يلزم منه أن يدع من القراءة الشاذة ما يتعلق بالأخبار؛ لأنه لا يصدق عليه أنه من الأذكار، فيكون كالكلام في الصلاة، فيخشى منه إفساد الصلاة.
(1)
.
* الراجح من الخلاف:
أن ما خالف المصحف العثماني مما صح سنده، ووافق العربية لا يقطع بقرآنيته، ولا نقطع بعدمها، فنثبته قراءة، ونستفيد منه بالأحكام والتفسير، ونحتاط للصلاة ركن الإسلام الأعظم بعد الشهادتين، فلا نصلي به، فإن صلى به أحد لم نتجرأ على بطلان صلاته بالشك،
أصل المسألة: أن القراءة الشاذة أهي مما نقطع بخطأ ناقلها لكونها تتوافر الدواعي على نقلها عادة أم لا نقطع بخطئه ولا نجزم بصوابه، فلو وافقت المصحف المجمع عليه لقبلت قراءة وقرآنًا حتى ولو لم تتواتر؛ لعدالة ناقلها، وموافقتها ما أجمع عليه من الصحابة، أما وقد خالفت الرسم، وكانت آحادًا فيتوقف في
(1)
. فتاوى قاضي خان (1/ 140، 141)، وانظر: التقرير والتحبير على تحرير الكمال لابن الهمام (2/ 213، 214).
قرآنيتها، ولا نعطل الاستفادة منها في التفسير والأحكام، وإنما لم تكن الاستفاضة شرطًا في الصدر الأول فذلك لأن الإسناد كان عاليًا، فكلما نزل تطرق إليه احتمال الخطأ والوهم، ويقوى ذلك بمخالفته الرسم، ولذلك الإمام أحمد في رواية عنه قَبِل قراءة عبد الله، وعلل ذلك بكون قراءته مما اشتهر واستفاض.
فقد ذكر القاضي أبو يعلى في كتابه المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين: قوله: «نقل إسماعيل بن سعيد، وحنبل: إذا قرأ بقراءة تثبت عن عبد الله فصلاته جائزة، ولا أحب أن يقرأها، لأن قراءة عبد الله كانت مستفيضة»
(1)
، فكانت استفاضتها جبرت ما فيها من المخالفة لرسم المصحف.
واشترط بعض العلماء التتابع في كفارة اليمين لقراءة ابن مسعود رضي الله عنه، ولم يقبل كثير منهم التتابع في قضاء رمضان لقراءة أُبَيِّ بن كعب (فعدة من أيام آخر متتابعات)
(2)
؛ لأن الأولى استفاضت واشتهرت بخلاف الثانية، والله أعلم.
* * *
(1)
. كتاب الروايتين والوجهين للقاضي أبي يعلى (1/ 221).
(2)
. ذكرها قراءة لأبي بن كعب تفسير الماتريدي (2/ 45)، تفسير الزمخشري (1/ 226)، تفسير الرازي (12/ 422)، البحر المحيط في التفسير (2/ 187)، ابن حجر في الفتح (4/ 189).