الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثاني في القراءة من المصحف بالصلاة
المدخل إلى المسألة:
* يرجع الخلاف في القراءة من المصحف في الصلاة إلى اختلافهم في تقليب أوراق المصحف، والنظر فيه، أهو من العمل الكثير في الصلاة أم لا، وإذا كان كثيرًا، أيغتفر؛ لكونه لمصلحة الصلاة، أم لا، أم يفرق بين الحافظ وغيره، وبين الفرض والنفل؛ لكون النفل أوسع من الفرض.
* ذكر الحنفية أنه لو نظر إلى مكتوب، وفهمه بقلبه لم تفسد صلاته بالإجماع، يقصدون بذلك ولم يحرك لسانه؛ لكون السكوت في الصلاة لا يقطع الموالاة.
* حكى أبو الطيب الطبري الإجماع على أنه لو تفكر طويلًا، أو نظر طويلًا لم تبطل صلاته، فكذلك إذا جمع بينهما.
* إذا اعتبرنا النظر في المصحف عبادة، قال النووي: لم أَرَ فيها خلافًا، فإذا نظر فيه فقرأ بلسانه ما يشرع له قراءته لم تبطل صلاته؛ لأن انضمام العبادة إلى عبادة أخرى لا يفسدها.
* عمل السلف على جواز القراءة من المصحف في النفل؛ لطول القيام في النفل فيحتاج إليه بخلاف الفرض.
* هل يقال: ما صح في النفل صح في الفرض إلا بدليل؟ وقد سئل أحمد عن القراءة من المصحف في الفرض، فقال: لم أسمع فيه شيئًا، أم يقال: لم يكن من عمل الناس بالفرض، والأصل في العبادات المنع، الأول أقرب، وإبطال العبادة يفتقر إلى دليل، والأصل صحتها.
* قلب الورقة إذا فرغ من قراءتها عمل يسير جدًّا، والعمل الكثير إذا كان متفرقًا غير متصل ولمصلحة الصلاة لا يبطلها.
* صح في النفل الصلاة راكبًا وقاعدًا، وإلى غير القبلة، فالحركة الكثيرة إذا احتيج إليها في النفل لا تبطلها بخلاف الفرض، فيغتفر في النفل ما لا يغتفر في الفرض.
* الحاجة ترفع الكراهة، والضرورة ترفع التحريم.
[م-614] وأما القراءة من المصحف في الصلاة فقد اختلف العلماء فيها على أقوال:
فقيل: لا تجوز، وإن قرأ من المصحف فسدت صلاته، وبه قال أبو حنيفة، وهو رواية عن أحمد، واختاره ابن حزم وحكاه عن ابن المسيب، والحسن البصري، والشعبي، وأبي عبد الرحمن السلمي
(1)
.
قال ابن حزم: «ولا تجوز القراءة في مصحف، ولا في غيره لِمُصَلٍّ، إمامًا كان أو غيره، فإن تعمد ذلك بطلت صلاته»
(2)
.
وقيل: تحرم على الحافظ فقط، وتجوز لغيره، وهو رواية عن أحمد
(3)
.
وقيل: تجوز القراءة من المصحف على خلاف بينهم:
فقيل: تجوز مطلقًا في فرض ونفل، وهو مذهب الشافعية، والمذهب عند الحنابلة
(4)
.
قال النووي: «لو قرأ القرآن من المصحف لم تبطل صلاته، سواء أكان يحفظه
(1)
. الجامع الصغير وشرحه النافع الكبير (ص: 97)، الأصل للشيباني ط القطرية (1/ 177)، المبسوط (1/ 201)، النتف في الفتاوى للسغدي (1/ 51)، بدائع الصنائع (1/ 236)، الهداية شرح البداية (1/ 63)، العناية شرح الهداية (1/ 402)، البحر الرائق (2/ 11).
واختلف عن أبي حنيفة في القدر المبطل، فالمشهور أنها تبطل بالقليل والكثير، وقيل: بالآية، وقيل: بقدر الفاتحة. انظر فتح القدير (1/ 402).
وقال ابن مفلح في الفروع (2/ 268): و «عنه تبطل فرضًا، وقيل: ونفلًا وفاقًا لأبي حنيفة» .
وانظر: المبدع (1/ 440)، الإنصاف (2/ 109).
(2)
. المحلى، مسألة (401).
(3)
. المبدع (1/ 440)، الإنصاف (2/ 109)، الفروع (2/ 268).
(4)
. فتح العزيز (4/ 130)، المجموع (4/ 95)، حلية العلماء (2/ 89)، روضة الطالبين (1/ 294)، البيان للعمراني (2/ 311)، أسنى المطالب (1/ 149)، تحفة المحتاج (2/ 34)، مغني المحتاج (1/ 353)، الإنصاف (2/ 109)، شرح منتهى الإرادات (1/ 211)، الإقناع (1/ 132)، كشاف القناع (1/ 384).
أم لا، بل يجب عليه ذلك إذا لم يحفظه»
(1)
.
وفقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: يكره مطلقًا، وصلاته صحيحة
(2)
.
وقيل: يكره في الفريضة، وهو مذهب المالكية وقول عند الحنابلة
(3)
، واختلفوا في النافلة وقيام رمضان:
فقيل: تجوز مطلقًا، وهو قول في مذهب الحنابلة، وبه قال الزهري وإسحاق وجماعة من السلف
(4)
.
(5)
.
وقيل: إن ابتدأ النافلة بالقراءة من المصحف جاز، وإن ابتدأ بغير مصحف فأراد النظر فيه في أثناء النفل كره، وهو مذهب المالكية
(6)
.
وقيل: تجوز في النفل لغير حافظ، فإن كان حافظًا كرهت كالفرض، اختاره القاضي أبو يعلى من الحنابلة
(7)
.
(1)
. المجموع (4/ 95).
(2)
. المبسوط (1/ 201)، بدائع الصنائع (1/ 236)، البحر الرائق (2/ 11).
(3)
. مختصر خليل (ص: 39)، التهذيب في اختصار المدونة (1/ 374، 375)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/ 316)، الإنصاف (2/ 109)، المبدع (1/ 440).
(4)
. الإنصاف (2/ 109)، المبدع (1/ 440)، مسائل الإمام أحمد وإسحاق رواية الكوسج (495).
(5)
. شرح منتهى الإرادات (1/ 211).
(6)
. قال خليل في مختصره في معرض بيان ما يكره (ص: 39): «ونظر بمصحف في فرض، أو أثناء نفل، لا أوله» .
وقال الخرشي (2/ 11): «يكره قراءة المصلي في المصحف في صلاة الفرض، ولو دخل على ذلك من أوله؛ لاشتغاله غالبًا، ويجوز ذلك في النافلة إذا ابتدأ القراءة في المصحف، لا في الأثناء فيكره» .
وانظر: المدونة (1/ 288)، الجامع لمسائل المدونة (3/ 1190)، التاج والإكليل (2/ 382)، الذخيرة للقرافي (2/ 408)، منح الجليل (1/ 345)، جامع الأمهات (ص: 133)، شرح الزرقاني في مختصر خليل (1/ 501).
(7)
. المغني (1/ 411)، الإنصاف (2/ 109)، الفروع (2/ 268).
* هذه مجمل الأقوال في المسألة، وخلاصتها.
التحريم مطلقًا.
التحريم على الحافظ.
الجواز مطلقًا.
الكراهة مطلقًا.
التفريق بين الفريضة فيكره، واختلفوا في النافلة على أقوال منها:
الجواز مطلقًا، والكراهة من الحافظ. والجواز إذا ابتدأ القراءة من المصحف وإلا فلا، فهذه سبعة أقوال.
* دليل من قال: تحرم القراءة من المصحف وتفسد بها الصلاة:
الدليل الأول:
احتج ابن حزم على التحريم بأن القراءة من المصحف عمل لم يَأْتِ بإباحته في الصلاة نص، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن في الصلاة لشغلًا، رواه البخاري
(1)
.
* ونوقش:
بأن قوله صلى الله عليه وسلم: (إن في الصلاة لشغلًا) المراد منه الاشتغال بأفعال خارجة عن الصلاة.
(ح-1610) فقد رواه البخاري من طريق ابن فضيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة،
عن عبد الله، قال: كنت أُسَلِّمُ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علي، فلمَّا رجعنا سلمت عليه، فلم يرد علي، وقال: إن في الصلاة لشغلًا
(2)
.
فكان في الصلاة شغل عن رد السلام على الغير، وهو ليس من فعل الصلاة ولا من مصلحتها، بخلاف القراءة من المصحف فإنه من مصلحة الصلاة فالاشتغال به لا حرج فيه، لا سيما إذا كان محتاجًا إلى ذلك.
والقول بأنه لم يرد نص بالإباحة غير مسلم؛ لأن النصوص الآمرة بالقراءة
(1)
. صحيح البخاري (1216).
(2)
. صحيح البخاري (1216).
مطلقة، والمطلق جارٍ على إطلاقه في الأصول، لا يقيد إلا بنص، ولم يَأْتِ نص ينهى عن القراءة من المصحف، بل جاء عن عائشة ما يدل على الإباحة كما سيأتي في أدلة القائلين بالجواز.
الدليل الثاني:
لأبي حنيفة في فساد الصلاة من القراءة من المصحف طريقتان في الاحتجاج:
الطريقة الأولى:
أن حمل المصحف، ووضعه عند الركوع، ورفعه عند القيام، وتقليب أوراقه، والنظر إليه، وفهمه والتفكر فيه، أعمال كثيرة ليست من أعمال الصلاة، ولا حاجة لتحملها في الصلاة، والعمل الكثير مفسد للصلاة.
وقياس هذه الطريقة: أن المصحف لو كان موضوعًا بين يديه، ويقرأ منه من غير حمل، وتقليب أوراق، أو يقرأ ما هو مكتوب على المحراب من القرآن، فإن الصلاة لا تفسد؛ لعدم المفسد، وهو العمل الكثير
(1)
.
وسوف يأتي الجواب عنه في أدلة القائلين بالجواز دفعًا للتكرار.
الطريقة الثانية:
أنه يُلَقَّنُ من غيره، فوجب أن تبطل صلاته كما لو تلقن من معلم، وصححه السرخسي في المبسوط
(2)
.
وعليه فلو كان حافظًا للقرآن، وقرأ من المصحف بلا حمل صحت صلاته؛ لانتفاء العمل والتلقين، ومجرد النظر بلا حمل غير مفسد، وجزم به الرازي وتبعه السرخسي، وجزم به في الفتح والنهاية والتبيين، قال في البحر: وهو وجيه كما لا يخفى
(3)
.
وقريب من هذا التعليل، ما ذكره بعض الحنابلة: بأنه اعتمد في فرض القراءة
(1)
. المبسوط (1/ 201)، مجمع الأنهر (1/ 120)، بدائع الصنائع (1/ 236)، البحر الرائق (2/ 11).
(2)
. المبسوط (1/ 201)، البحر الرائق (2/ 11).
(3)
. حاشية ابن عابدين (1/ 624)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 336)، تبيين الحقائق (1/ 158) فتح القدير (1/ 402).
على غيره، كما لو اعتمد على حبل في قيامه
(1)
.
* ونوقش:
بأن التلقين في الصلاة منه ما هو مجمع على جوازه كما لو كان المُلَقِّن من جملة المصلين، فلو ارتجت القراءة على الإمام ففتح عليه أحد المصلين صح التلقين بالإجماع.
والتلقين من خارج الصلاة مختلف فيه، والأصح أنه لا يفسد، كالتلقين من داخلها.
قال النووي: «وأما التلقين في الصلاة فلا يبطلها عندنا بلا خلاف»
(2)
.
هذا على التسليم بأن النظر في المصحف بمنزلة التلقين، وبينهما فرق:
فالتلقين من رجل خارج الصلاة بمنزلة مخاطبته إذا لم يقصد المصلي القرآن، والأصل فيه المنع، وأما النظر في المصحف والقراءة منه فلا يتصور وجود خطاب بين اثنين حتى يعطى حكم التلقين من الناس، فهو كما لو قرأ آية مكتوبة في المحراب، أو على حائط المسجد، والله أعلم.
الدليل الثالث:
(ث-428) روى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن العياش العامري، عن سويد بن حنظلة البكري أنه مر على رجل يؤم قومًا في المصحف، فضربه برجله
(3)
.
ورواه ابن أبي داود في المصاحف من طريق محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عياش العامري،
عن سويد بن حنظلة أنه مر بقوم يؤمهم رجل في المصحف، فكره ذلك في رمضان، ونَحَّى المصحف
(4)
.
[صحيح].
(1)
. المبدع (1/ 440).
(2)
. المجموع (4/ 95).
(3)
. المصنف (7224).
(4)
. المصاحف لابن أبي داود (ص: 453).
* ويناقش:
بأنه صح عن عائشة رضي الله عنها جوازه، فيحمل أثر سويد بن حنظلة على الكمال، أو مع عدم قيام الحاجة، ويحمل أثر عائشة رضي الله عنها على الجواز، وعلى تقدير التعارض فإنه لا حجة لقول الصحابي إذا عارضه غيره، فيطلب مرجح خارجي.
الدليل الرابع:
(ث-429) ما رواه ابن أبي داود في المصاحف من طريق نهشل بن سعيد، يحدث، عن الضحاك،
عن ابن عباس قال: نهانا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن يؤم الناس في المصحف، ونهانا أن يؤمنا إلا المحتلم
(1)
.
[ضعيف جدًّا]
(2)
.
الدليل الخامس:
(ث-430) روى الخطيب في تاريخه من طريق أبي بلال الأشعري، قال: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن سفيان الثوري، عن عياش بن عمرو العامري، عن نعيم بن حنظلة البكري،
عن عمار بن ياسر أنه كان يكره أن يؤم الرجل الناس بالليل في شهر رمضان في المصحف، قال: هو من فعل أهل الكتاب
(3)
.
[ضعيف]
(4)
.
(1)
. المصاحف لابن أبي داود (449).
(2)
. في إسناده علتان:
إحداهما: نهشل بن سعيد، متروك، وكذبه إسحاق.
الثانية: أن الضحاك قد صرح بأنه لم يسمع من ابن عباس رضي الله عنهما، انظر تهذيب الكمال (13/ 293، 294).
وقال يحيى القطان: كان شعبة ينكر أن يكون الضحاك لقي ابن عباس قط.
(3)
. تاريخ بغداد (9/ 130).
(4)
. في إسناده أبو بلال الأشعري ضعفه الدارقطني.
وعباس بن عمرو العامري الصحيح عياش بن عمرو العامري.
ونعيم بن حنظلة البكري وثقه العجلي وابن حبان، وقال الذهبي في الميزان (4/ 270): لا يعرف.
وأظن أن هذا التخليط من أبي بلال الأشعري، فإن الأثر روي عن عياش بن عمرو العامري، عن سويد بن حنظلة من قوله، وليس عن نعيم بن حنظلة، وليس فيه عمار بن ياسر، وقد سبق تخريجه، انظر (ث-428)، والله أعلم.
* أدلة القائلين بالكراهة:
الدليل الأول:
استدلوا بأدلة القائلين بالتحريم؛ إلا أنهم حملوها على الكراهة.
الدليل الثاني:
القراءة من المصحف ليس فيها إلا حمل المصحف بيده، والنظر فيه، وذلك جائز كما لو حمل شيئًا آخر إلا أننا قلنا بكراهتها من أجل أن في ذلك تشبهًا بفعل أهل الكتاب.
* ويناقش بأكثر من وجه:
الوجه الأول:
تعليل الكراهة بالتشبه يفتقر إلى أن يأتي في شريعتنا ما يدل على أنه من فعل أهل الكتاب، ولا أعلم دليلًا مرفوعًا يذكر أن ذلك من فعلهم، وروي عن ابن عباس ولا يصح عنه.
(ث-431) فقد روى أبو يوسف في الآثار، أنه قال: وبلغني عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: في الرجل يؤم القوم، وهو ينظر في المصحف إنه يكره ذلك، وقال: كفعل أهل الكتاب
(1)
.
[ضعيف لانقطاعه].
وروي صحيحًا من قول إبراهيم النخعي.
(ث-432) فقد روى ابن أبي شيبة في المصنف، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش،
(1)
. الآثار لأبي يوسف (171).
عن إبراهيم أنه كره أن يؤم الرجل في المصحف كراهة أن يتشبهوا بأهل الكتاب
(1)
.
[صحيح عن إبراهيم، إلا أنه موقوف عليه].
الوجه الثاني: إذا ثبت أن ذلك الفعل من أهل الكتاب فإنه لا يكفي حتى يثبت أن ذلك الفعل مختص بهم، فيصح التعليل بالكراهة لعلة التشبه، فلم يثبت الأول حتى يثبت الثاني.
الوجه الثالث: لو سلمنا القول بالكراهة فإن الكراهة ترفعها الحاجة.
الوجه الرابع: التابعون مختلفون في القراءة من المصحف حال الصلاة، وأكثرهم على الجواز، فيكون قول الإمام إبراهيم النخعي قول فقيه معارضًا بمثله.
فهذا الزهري والحسن البصري ومحمد بن سيرين وعطاء بن أبي رباح، والحكم، وعائشة بنت طلحة وغيرهم لا يرون بأسًا من القراءة بالمصحف في الصلاة
(2)
.
* دليل من قال بالجواز مطلقًا:
الدليل الأول:
قال تعالى: {اقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20].
(1)
. المصنف (7226).
(2)
. أما أثر الزهري فسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى في أدلة القائلين بالجواز، وأما الآثار عن غيره، فإليك تخريجها:
فقد روى ابن أبي شيبة في المصنف (7215)، قال: حدثنا الثقفي، عن أيوب، قال: كان محمد لا يرى بأسًا أن يؤم الرجل القوم في المصحف. وسنده صحيح.
وروى ابن أبي شيبة أيضًا (7219)، حدثنا أبو داود، عن شعبة، عن الحكم في الرجل يؤم في رمضان يقرأ في المصحف، رخص فيه. وسنده صحيح.
وروى ابن أبي شيبة (7220) حدثنا أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن منصور، عن الحسن ومحمد، قالا: لا بأس به. وسنده صحيح.
وروى ابن أبي شيبة في المصنف (7221) حدثنا أبو داود، عن رباح بن أبي معروف، عن عطاء، قال: لا بأس به. ورباح ضعفه ابن معين والنسائي، وقال أبو حاتم وأبو زرعة وأحمد: صالح. وحدث عنه أحمد.
وقال ابن عدي: ما أرى بروايته بأسًا، ولم أجد له حديثًا منكرًا.
وفي التقريب: صدوق له أوهام.
وروى ابن أبي شيبة في المصنف (7218) حدثنا أزهر، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عائشة ابنة طلحة أنها كانت تأمر غلامًا أو إنسانًا يقرأ في المصحف يؤمها في رمضان. وسنده صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، اتفق عليه البخاري ومسلم
(1)
.
والنصوص الشرعية مطلقة، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، فلم تفرق النصوص بين أن يقرأ ذلك عن حفظ أو نظر في المصحف، ومن قيد القراءة بأن تكون حفظًا فعليه الدليل، فالنصوص المطلقة جارية على إطلاقها لا يقيدها إلا نصوص مثلها، والأصل صحة الصلاة.
الدليل الثاني:
(ث-433) روى ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبي بكر بن أبي مليكة،
أن عائشة أعتقت غلامًا لها عن دبر، فكان يؤمها في رمضان في المصحف
(2)
.
[صحيح من رواية عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، ومن رواية عروة عنها، ورواه البخاري معلقًا عن عائشة مجزومًا به]
(3)
.
* ونوقش هذا:
بأن أثر عائشة في النفل، والنفل أوسع من الفرض، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في
(1)
. صحيح البخاري (756)، وصحيح مسلم (34 - 394).
(2)
. المصنف (7217).
(3)
. ورواه أبو بكر بن أبي داود (457) من طريق وكيع به.
ورواه ابن وهب في الجامع (305)، وفي موطئه (303)، وأبو بكر بن أبي داود في المصاحف (457)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 359)، وفي الخلافيات (2168)، من طريق أيوب السختياني، عن ابن أبي مليكة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمها غلامها ذكوان من المصحف.
ورواه البخاري تعليقًا مجزومًا به (1/ 140)، قال في صحيحه: وكانت عائشة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف.
جاء في فتح الباري لابن رجب (6/ 169): «رواه عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، وذكر أحمد أنه أصح من حديث ابن أبي مليكة؛ لأن هشام بن عروة لم يسمعه من ابن أبي مليكة، إنما بلغه عنه» .
قلت: رواه هشام بن عروة عن أبيه أيضًا في موطأ مالك، فقد رواه مالك في الموطأ (1/ 116) عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن ذكوان أبا عمرو، وكان عبدًا لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فأعتقته عن دبر منها، كان يقوم يقرأ لها في رمضان. اهـ ولم يذكر المصحف.
الفرض، ولهذا صح النفل راكبًا، ومتجهًا لغير القبلة، وجالسًا مع القدرة على القيام بخلاف الفريضة، والحاجة إلى فعله في النافلة أكثر؛ لطول القيام وكثرة القراءة، بخلاف الفريضة، فإنه مأمور بتخفيفها إذا صلى بالناس.
* ورد هذا النقاش:
بأن النفل والفرض عبادتان من جنس واحد، فما صح في؟ إحداهما صح في الأخرى إلا بدليل يدل على افتراقهما، وما ذكر من صحة النفل راكبًا وقاعدًا من غير عذر كل ذلك ثبت بالنص الخاص الصريح على افتراق الفريضة عن النافلة، فأين النص الخاص الصريح على اختصاص القراءة من المصحف بالنافلة حتى يقال بمقتضاه، فلا اختصاص لأحدهما بصفة إلا بنص، وما لم يرد فيه نص فالأصل أن صفتهما واحدة، فيما يجب، ويستحب، ويكره، ويباح.
فإن قيل: لم يكن من عمل الناس في الفريضة، والأصل في العبادات المنع.
فالجواب: هذا صحيح لو أنه لم يثبت فعله في النافلة من قبل بعض الصحابة، أما وقد صح ذلك في النافلة فإبطال العبادة أو كراهتها يفتقر إلى دليل، والأصل صحة العبادة.
الدليل الثالث:
(ث-434) ما رواه ابن أبي شيبة، من طريق عيسى بن طهمان، قال:
حدثني ثابت البناني، قال: كان أنس يصلي، وغلامه يمسك المصحف خلفه، فإذا تعايا في آية فتح عليه
(1)
.
[حسن]
(2)
.
لو كان حمل المصحف في الصلاة مفسد للصلاة لما جاز حمله لمصلحة مظنونة، فقد يحتاج الإمام إلى الفتح وقد لا يحتاج، وكان يمكن للإمام إذا ارتجت عليه الآية أن يدعها وينتقل لغيرها، وإذا ارتجت عليه السورة انتقل إلى سورة أخرى، فإذا جاز حمل
(1)
. المصنف (7223).
(2)
. عيسى بن طهمان حسن الحديث، قال النسائي وابن معين وأبو حاتم: لا بأس به، وخالفهم ابن حبان، فقال بضعفه.
المصحف للفتح على الإمام جاز حمل المصحف للقراءة من باب أولى.
الدليل الرابع:
وقال أبو عبد الله محمد بن نصر بن الحجاج المَرْوَزِي (المتوفى: 294)، في قيام الليل (كما في المختصر):«سئل ابن شهاب رحمه الله عن الرجل يؤم الناس في رمضان في المصحف قال: ما زالوا يفعلون ذلك منذ كان الإسلام كان خيارنا يقرؤون في المصاحف»
(1)
.
[تفرد به ابن أخي الزهري عن عمه ولعله يحتمل في نقل مثل هذا الأثر]
(2)
.
الدليل الخامس:
النهي عن القراءة من المصحف في الصلاة راجع إلى أحد أمرين:
إما لحمل المصحف وقلب الصفحة إذا فرغ من قراءتها، ووضعه إذا ركع، وأخذه إذا رفع.
وإما إلى النظر في المصحف والقراءة منه:
فأما الأول فقد دَلَّ الدليل على أن جنسه لا يفسد الصلاة:
(ح-1611) فقد روى الشيخان من طريق مالك، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزرقي،
عن أبي قتادة الأنصاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي، وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها
(3)
.
فإذا لم يؤثر الحمل والوضع والرفع فيما ليس من مصلحة الصلاة، كان حمل المصحف ووضعه ورفعه لا يؤثر من باب أولى؛ لكونه لمصلحة الصلاة، وأداء سنة
(1)
. مختصر قيام الليل (ص: 233).
(2)
. رواه أبو بكر بن أبي داود في المصاحف (460) من طريق أبي الطاهر، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عبد الله ابن أخي ابن شهاب، عن عمه: عن رجل يصلي لنفسه، أو يؤم قومًا، هل يقرأ في المصحف؟
…
وذكر الأثر دون قوله: كان خيارنا يقرؤون في المصاحف.
(3)
. صحيح البخاري (516)، وصحيح مسلم (41 - 543).
القراءة، فلم يبق إلا قلب الورقة من المصحف إذا فرغ من قراءتها، وهو عمل يسير جدًّا، لا يمكن أن يعود على الصلاة بالبطلان.
ولو سلمنا أنه من العمل الكثير فإنه ليس من الكثير المتصل، فإذا تفرق العمل الكثير لم يؤثر، ومع التسليم بأنه لا فرق بين الكثير المتصل والمتفرق، فإن الكثير إذا كان في مصلحة الصلاة ويؤدى به فرضها لا يبطلها، وسوف تكون الحركة في الصلاة موضع بحث إن شاء الله تعالى في مبحث مستقل.
وأما النظر في المصحف والقراءة منه فليس من مبطلات الصلاة؛ لأن المنع إن كان من أجل النظر في المصحف فإن نظره إلى المصحف كنظره إلى سائر الأشياء التي ينظر إليها في صلاته، الأصل فيه الإباحة، والمحرم منه رفع بصره إلى السماء كما في الحديث الصحيح:(ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: لَيَنْتَهُنَّ عن ذلك أو لَتُخْطَفَنَّ أبصارهم)، وهذا ليس منه، ولأنه لو نظر إلى مكتوب، وفهمه بقلبه لم تفسد صلاته بالإجماع، فكذلك نظره إلى المصحف.
وإذا كان النظر والفكر لا يبطل الصلاة بالاتفاق في غير المصحف، ففيه أولى، فقد حكى أبو الطيب الطبري وغيره من الشافعية الإجماع على أنه لو تفكر طويلًا، أو نظر طويلًا لم تبطل صلاته، فكذلك إذا جمع بينهما.
وإن كان المنع من أجل القراءة من المصحف، لا من أجل النظر إليه، فإن قراءة القرآن هي من عمل الصلاة، فكيف تكون سببًا في المنع، والله أعلم.
الدليل السادس:
أكثر أهل العلم على أن النظر في المصحف عبادة، قال النووي: لم أر فيه خلافًا، فإذا نظر فيه، فقرأ بلسانه ما يشرع له قراءته لم تبطل صلاته؛ لأن انضمام العبادة إلى عبادة أخرى لا يفسدها.
* دليل من فرق بين الفرض والنفل:
أثر عائشة وأثر أنس رضي الله عنهما في القراءة من المصحف ثابت في صلاة النفل، ولم يَأْتِ دليل على إباحته في الفريضة، والأصل في العبادات المنع، ولا يصح قياس
الفريضة على النافلة؛ لأنه من قياس الأعلى على الأدنى، والنفل أوسع من الفرض، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في الفرض.
ولأن النفل خاصة قيام الليل يحتاج فيه المصلي إلى تطويل القراءة، فيحتاج القراءة من المصحف بخلاف الفريضة، ولأن القراءة من المصحف فيها فضيلة قراءة كامل القرآن، فيستفيد المسلم من تدبر كامل الكتاب، والإفادة من مواعظه بخلاف القراءة من الحفظ، فأكثر المسلمين لا يحفظون القرآن.
وسبق الجواب على هذا الدليل بما يكفي في أدلة القائلين بالجواز.
* التفريق بين الحافظ وغيره:
أن الحافظ ليس محتاجًا لحمل المصحف والقراءة منه، فيحرم أو يكره له -بحسب الخلاف- حمل المصحف والنظر إليه، بخلاف غير الحافظ فإنه محتاج للنظر إلى المصحف.
* دليل من قال يكره في الفرض وفي أثناء النفل دون أوله:
أما كراهته في الفرض فسبق ذكر الأدلة والجواب عليه.
وأما التفريق بين جواز النظر في المصحف من ابتداء النفل لا في أثنائه:
فذلك أن الذي ينظر في المصحف في أثناء النفل إذا شك في قراءته فسيحمله ذلك على تقليب صفحات المصحف إلى أن يصل إلى موضع قراءته، فكان ذلك شغلًا في صلاته، والذي يصلي في المصحف من ابتداء النفل سوف يفتحه قبل أن يدخل في الصلاة، ويجعل أمامه الموضع الذي يريد قراءته في صلاته، فينظر من غير أن يشتغل بشيء إلا بتحويل الورقة التي أكمل قراءتها، وذلك يسير
(1)
.
* الراجح:
أن النظر في المصحف لا بأس به مطلقًا في الفرض والنفل، وكون الحاجة إليه في النفل أكثر منه الفرض فذلك لا يعني كراهته في الفرض، فالكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، وهي تقوم على أمرين:
إما النهي غير الجازم، ولم يحفظ ذلك في النصوص الشرعية.
(1)
. انظر البيان والتحصيل (1/ 463).
وإما أن يترتب على الفعل ترك سنن مؤكدة بلا مصلحة تعود للعبادة، وهو ما يعبر به عند الأصوليين بخلاف الأولى، وهو أدنى درجات الكراهة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:(إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر) حين تيمم لرد السلام، فذكر الله لا يكره أبدًا؛ ولكنه في الطهر أكمل، فعبر عنه الفقهاء بخلاف الأكمل والأولى، وهذا أيضًا لا يتحقق في حمل المصحف في الفريضة، وإذا ترك وضع اليدين بعضهما على بعض في الصلاة بسبب حمل المصحف فقد تركهما إلى ما هو أولى منهما في العبادة، من كثرة القراءة وطول القيام، والمصاحف اليوم خفيفة الحمل، تحمل في الجيب، وبقدر الكف، فلو أن رجلًا نظر في المصحف في صلاة الصبح لم أكره له هذا الفعل إن احتاج إلى ذلك، والله أعلم.
* * *