الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع وجوب الطمأنينة في الصلاة
المدخل إلى المسألة:
* الحكم بركنية الفعل في الصلاة تثبت بالدليل القطعي كما تثبت بالدليل الظني خلافًا للحنفية.
* الدلالات اللفظية متعلقة باللغة، وما يقتضيه اللفظ من معنى، وما يوجبه من عمل، وكونه قطعيًّا أو ظنيًّا متعلقٌ بطرق ثبوته، لا في دلالته.
* دلالة الظني قد تكون قطعية، وقد تكون ظنية.
* إذا صح الدليل الظني أفاد العلم ووجوب العمل كالقطعي.
* إذا دلَّ الدليل الظني على الركنية أو الشرطية ولم يعارضه ما هو أقوى منه وجب العمل بدلالته، ولو كانت ظنية.
* الصلاة الشرعية: ما جمعت شيئين: القيام بالأركان، والطمأنينة فيها، وترك أحدهما مبطل مطلقًا، بخلاف الواجب فسهوه لا يبطل بالاتفاق، وفي إبطال الصلاة بتعمد تركه خلاف.
* الطمأنينة وصف زائد على مجرد الركوع والسجود والاعتدال منهما.
* قال صلى الله عليه وسلم: (ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا) فإذا ثبتت ركنية الاطمئنان في الجلسة بعد السجود ثبت مثلها في القيام من الركوع حيث لا فرق.
[م-624] يختلف الفقهاء في حكم الطمأنينة في محالها الأربعة: في الركوع، والسجود، وفي الاعتدال منهما، وقد ذهب الخلاف في المسألة إلى أربعة أقوال:
فقيل: الطمأنينة سنة في الصلاة كلها، وهو تخريج ضعيف في مذهب الحنفية،
وأحد القولين في مذهب المالكية
(1)
.
قال الدسوقي في حاشيته: «قوله: (وطمأنينة): اعلم أن القول بفرضيتها صححه ابن الحاجب، والمشهور من المذهب: أنها سنة، ولذا قال زَرُّوق كما في بن (يعني: حاشية البناني): من ترك الطمأنينة أعاد في الوقت على المشهور، وقيل: إنها فضيلة»
(2)
.
فكأنه رتب السنية على القول بإعادتها في الوقت، وليس بلازم، فالمالكية قد يقولون بالإعادة في الوقت لترك بعض الواجبات، وهذا ما يفهم من كلام زرُّوق نفسه
(3)
.
وقيل: الطمأنينة فرض فيها كلها، وبه يقول أبو يوسف من الحنفية، وهو المذهب عند الشافعية والحنابلة، وقال خليل في التوضح: على الأصح، واختاره ابن الحاجب والجلاب واللخمي من المالكية
(4)
.
(1)
. ذهب أبو حنيفة ومحمد بن الحسن أن الطمأنينة في الركوع والسجود ليست بفرض، وبهذا أخذ علماء الحنفية، واختلفوا في المراد منه:
فقيل: المراد منه أن الطمأنينة سنة في الصلاة كلها، وهو تخريج أبي عبد الله الجرجاني من علماء الحنفية، وهو قول ضعيف في المذهب.
وقيل: المراد منه وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود، وعلى هذا تخريج الإمام الكرخي.
جاء في حاشية ابن عابدين (1/ 464): «وتعديل الأركان هو سنة عندهما في تخريج الجرجاني، وفي تخريج الكرخي، واجب
…
قال في البحر: وبهذا يضعف قول الجرجاني».
وحكى المازري المالكي قولين في حكم الطمأنينة كما في شرح التلقين (2/ 524)، قال: «اختلف الناس في إيجاب الطمأنينة في الركوع والسجود
…
والمذهب على قولين عندنا: أحدهما: إيجابها. والثاني: إثباتها فضيلة
…
»، وشهر الدسوقي القول بالسنية.
وحكى القاضي عياض قولين في الاعتدال من الركوع، وفي الاعتدال في الجلوس بين السجدتين، والقول بسنية الاعتدال هو مذهب ابن القاسم، واختيار ابن رشد الجد، فصار في مذهب المالكية قولان: في الطمأنينة، وفي الاعتدال، أحدهما أنهما من السنن.
وانظر: التاج والإكليل (2/ 221)، منح الجليل (1/ 251)، حاشية الدسوقي (1/ 241)، حاشية الصاوي (1/ 316).
(2)
. حاشية الدسوقي (1/ 241).
(3)
. قال الشيخ زَرُّوق: من ترك الطمأنينة أعاد في الوقت على المشهور
…
وقيل: بعدم فرضية الطمأنينة، والقول بوجوبها هو الأصح. اهـ فتأمل كيف جعل القول بعدم الفرضية في مقابل من قال: يعيد في الوقت، ثم صرح أن القول بالوجوب هو الأصح، فلا ينافي ذلك الإعادة بالوقت.
(4)
. انظر قول أبي يوسف من الحنفية في: تبيين الحقائق (1/ 106)، البحر الرائق (1/ 316). =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ويطلق المالكية في عباراتهم الاعتدال، والطمأنينة، والسؤال: أهما لفظان لمسمى واحد، أم بينهما اختلاف؟
جاء في التاج والإكليل (2/ 221) نقلًا عن نص شارح التهذيب: «أنه يعبر عن الطمأنينة بالاعتدال، وعن الاعتدال بالطمأنينة، ونقل أنهما لمسمًّى واحد» .
والصحيح التفريق بينهما، وأن الاعتدال غير الطمأنينة، فيقصدون بالاعتدال: أن يعتدل قائمًا في رفعه من الركوع، وأن يعتدل جالسًا في رفعه من السجود، فهو خاص في هذين الموضعين.
جاء في الفواكه الدواني (1/ 181): «والفرق بين الطمأنينة والاعتدال: أن الاعتدال نصب القامة والطمأنينة: استقرار الأعضاء زمنًا ما» .
وقد بَيَّن الدسوقي في حاشيته (1/ 242) أن بين الاعتدال وبين الطمأنينة عمومًا وخصوصًا من وجه باعتبار التحقق، وإن تخالفا في المفهوم.
فيوجد الاعتدال والطمأنينة معًا: إذا نصب قامته في القيام أو في الجلوس، وبقي حتى استقرت أعضاؤه في محالها زمنًا ما.
ويوجد الاعتدال فقط: إذا نصب قامته في القيام أو في الجلوس ولم يبق حتى تستقر أعضاؤه.
وتوجد الطمأنينة فقط: فيمن استقرت أعضاؤه في غير القيام والجلوس كالركوع والسجود، فإنه ليس فيه اعتدال.
إذا عرفت الفرق بين الاعتدال والطمأنينة، فما حكم كل واحد منهما؟
اختلف المالكية في حكمهما، فالأصح عند اللخمي وابن الجلاب، وخليل أن الاعتدال والطمأنينة فرض (ركن) في الصلاة، وبعضهم يعبر عن الفرض بالواجب، ولا يريد التفريق بينهما، وتاركهما يعيد الصلاة أبدًا في الوقت وغيره.
قال ابن الحاجب في جامع الأمهات (ص: 93): الفرائض: التكبير للإحرام والفاتحة
…
والاعتدال والطمأنينة على الأصح
…
».
وقال خليل في التوضيح (1/ 327): «وأفعال الصلاة كلها فرائض إلا ثلاثة: رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، والجلسة الوسطى، والتيامن عند السلام. زاد في المقدمات: والاعتدال فإنه مختلف فيه» .
وقال في أسهل المدارك (1/ 205): «والصحيح أن الطمأنينة والاعتدال فرضان من فرائض الصلاة، فلا ينبغي أن يختلف في فرضيتهما على المذهب كما اعتمد عليه المحققون الذين اعتنوا بتحرير كل مسألة من مسائل الإسلام» .
وقال في التلقين (1/ 43): «والاعتدال في القيام للفصل بينهما مختلف فيه، والأولى أن يجب منه ما كان إلى القيام أقرب، وكذلك في الجلسة بين السجدتين» .
وانظر: التفريع لابن الجلاب (1/ 72)، التبصرة للخمي (1/ 284)، الشامل في فقه الإمام مالك (1/ 102)، كفاية الطالب الرباني (1/ 267)، الذخيرة للقرافي (2/ 205)، أسهل المدارك (1/ 204). =
والمقصود بالفرض الركنية، وهذان قولان متقابلان.
جاء في مجمع الأنهر: «وعند أبي يوسف والأئمة الثلاثة
…
فرض في الكل»
(1)
.
وقيل: الطمأنينة واجبة، وهو المشهور من مذهب الحنفية
(2)
.
....................................................
= وقيل: الطمأنينة فضيلة وهو قول في مقابل الأصح، والاعتدال سنة، وعليه فتاركهما يعيد في الوقت.
قال ابن القاسم كما في البيان والتحصيل (2/ 53، 54): من ركع فرفع رأسه من الركوع فلم يعتدل حتى خر ساجدًا، فليستغفر الله ولا يعد؛ ومن خر من ركعته ساجدًا، فلا يعتد بتلك الركعة، ومن رفع رأسه من السجود فلم يعتدل جالسًا حتى سجد الأخرى، فليستغفر الله ولا يعد .... قال محمد ابن رشد: قوله فيمن رفع رأسه من الركوع أو السجود فلم يعتدل قائمًا، أنه يستغفر الله ولا يعد؛ يدل على أن الاعتدال في الرفع منها، عنده من سنن الصلاة، لا من فرائضها، ولا من فضائلها؛ إذ لو كان عنده من فرائضها لما أجزأه الاستغفار، ولو كان من فضائلها، لما لزمه الاستغفار، ويجب على هذا القول إن لم يعتدل قائمًا في الرفع من الركوع، وجالسًا في الرفع من السجود ساهيًا، أن يسجد لسهوه، وروى ابن القاسم عن مالك في المبسوطة، أنه لا سجود عليه، ولا إعادة. اهـ
وانظر: التوضيح لخليل (1/ 328)، التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة والمختلطة (1/ 223)، المقدمات الممهدات (1/ 163).
وانظر في مذهب الشافعية: نهاية المطلب (2/ 169)، طرح التثريب (3/ 161)، البيان والتحصيل (1/ 354)، الحاوي الكبير (2/ 119)، روضة الطالبين (1/ 223)، مغني المحتاج (1/ 367)، نهاية المحتاج (1/ 500، 509)، الوسيط في المذهب (2/ 86)، المجموع (3/ 410)، فتح العزيز (1/ 460).
وقال إمام الحرمين: في قلبي من عدها ركنًا في الاعتدال من الركوع، وكذا في الاعتدال من السجود شيء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للطمأنينة فيهما في قصة المسيء في صلاته. انظر: كفاية النبيه (3/ 263).
وانظر في مذهب الحنابلة: المغني (1/ 360)، المبدع (1/ 441)، الإنصاف (2/ 113)، شرح الزركشي على الخرقي (2/ 4)، الفروع (2/ 246)، الإقناع (1/ 133)، كشاف القناع (1/ 387)، مطالب أولي النهى (1/ 498).
(1)
. مجمع الأنهر (1/ 88).
(2)
. ذهب أبو حنيفة ومحمد بن الحسن أن الطمأنينة في الركوع والسجود ليست بفرض، وبهذا أخذ علماء الحنفية، واختلفوا في المراد منه:
فقيل: المراد منه وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود، وعلى هذا تخريج الإمام الكرخي، خلافًا لتخريج أبي عبد الله الجرجاني. قال في الهداية (1/ 51):« .... وفي تخريج الكرخي رحمه الله واجبة حتى تجب سجدتا السهو بتركها ساهيًا عنده» . =
قال في البحر الرائق: «تسكين الجوارح في الركوع والسجود حتى تطمئن مفاصله .... واجب على تخريج الكرخي، وهو الصحيح كما في شرح المنية، والذي نقله الجَمُّ الغفير أنه واجب عند أبي حنيفة ومحمد، فرض عند أبي يوسف»
(1)
.
قال ابن الهمام في فتح القدير: «إن مقتضى الدليل في كل من الطمأنينة، والقومة، والجلسة الوجوب»
(2)
.
(3)
.
هذا هو ملخص الأقوال في المسألة، وهي ترجع إلى قولين:
القول الأول: أن الطمأنينة من أركان الصلاة.
القول الثاني: أن الطمأنينة ليست من الأركان على خلاف بينهم: أتلحق بالواجبات أم بالسنن؟
فإذا وفقنا الله سبحانه وتعالى لمعرفة أقوال فقهائنا عليهم رحمة الله، فلننتقل إلى مذاكرة أدلتهم فيما ذهبوا إليه.
* دليل من قال: الطمأنينة ليست من أركان الصلاة:
استدلوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77].
= وقال في معارف السنن للبنوري (3/ 8): «وعلى قول الكرخي مشى في الكنز، والوقاية، والملتقى، وعامة المتون، وهو مقتضى الأدلة» .
وجاء في البحر الرائق (1/ 317): «قال علماؤنا: الطمأنينة في الركوع والسجود، وفي الانتقال من ركن إلى ركن ليس بركن، وكذلك الاستواء بين السجدتين وبين الركوع والسجود» .
وانظر: فتح القدير (1/ 302، 303)، تبيين الحقائق (1/ 107)، بدائع الصنائع (1/ 162)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 52)، حاشية ابن عابدين (1/ 464)، المبسوط (1/ 188)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 250).
(1)
. البحر الرائق (1/ 316).
(2)
. فتح القدير (1/ 302).
(3)
. حاشية ابن عابدين (1/ 464).
وجه الاستدلال:
أن الله أمر بالركوع والسجود مطلقًا، والركوع هو الانحناء، والسجود هو الانخفاض، وهذا هو الركن، وليس من شرط حصول الركن الطمأنينة فيه، لأن الطمأنينة صفة زائدة على مقدار الركوع والسجود، ولهذا لم يذكر الله الطمأنينة في الآية، ولأن الطمأنينة شرعت لإكمال الركن، وما كان مشروعيته للإكمال فهو من السنن.
كما أن الله لم يأمر بالآية بالاعتدال منهما، فدل ذلك على أنه ليس بفرض
هذا توجيه الآية لمن قال: إن الطمأنينة سنة.
* ورد هذا:
بأن الله قد أمر بالقيام في قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِين} [البقرة: 238]. والاعتدال من الركوع قيام.
وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النور: 56]. وهذا الأمر مجمل، وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، وقد داوم النبي صلى الله عليه وسلم على الطمأنينة في الركوع والسجود وعلى الاعتدال منهما والطمأنينة فيهما،
(ح-1662) فقد روى البخاري من طريق شعبة، عن ثابت، قال:
كان أنس ينعت لنا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يصلي، وإذا رفع رأسه من الركوع، قام حتى نقول: قد نسي
(1)
.
والفعل إذا وقع بيانًا لمجمل أخذ حكم ذلك المجمل، فيكون مأمورًا به، والأصل في الأمر الوجوب.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين: (ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا
…
ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)
(2)
.
فأمره بالطمأنينة في الركوع والسجود، وأمره بالاعتدال والطمأنينة فيه قائمًا
(1)
. صحيح البخاري (800).
(2)
. صحيح البخاري (6251)، ورواه مسلم بنفس الإسناد وأحال على لفظ يحيى بن سعيد (46 - 397).
وجالسًا، فدل ذلك على وجوبه، وإذا كان واجبًا في الصلاة، ثم انتفت الصلاة للإخلال به، وأمر بالإعادة أكثر من مرة من أجل ذلك دل على ركنيته.
* دليل من قال: الطمأنينة واجبة:
فهؤلاء قالوا: الأمر بالركوع والسجود ثبت بالآية الكريمة، فأفادت الآية فرضية الركوع والسجود؛ لأن الدليل قطعي، والفرض (الركن) يثبت بالدليل القطعي.
وحديث أبي هريرة في قصة الرجل المسيء صلاته، وحديثه في الصحيحين، حيث أمره بالطمأنينة، فقال في الركوع:(ثم اركع حتى تطمئن راكعًا).
وقال في السجود (ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا)، وكان قد قال له قبل ذلك:(ارجع فَصَلِّ فإنك لم تُصَلِّ)، فأمره بالإعادة، دليل على وجوب الطمأنينة، لا على ركنيتها؛ لأن الدليل الظني لا يفيد إلا الوجوب، ولا يفيد الركنية.
فإن قيل: لماذا لا يفيد الركنية؟
أجابوا: لو قلنا: إنه يفيد الركنية لكان ذلك نسخًا لإطلاق الآية، حيث أصبح حكم الآية -والذي هو مطلق الركوع والسجود- لا يكفي لصحتهما، وهذا تغيير لحكم الآية، وتغيير حكم الآية نسخ لها، وهذا لا يجوز بخبر الآحاد، لأن القطعي لا ينسخه إلا قطعي مثله من كتاب أو سنة متواترة، أما الآحاد فلا يصلح ناسخًا للكتاب عندنا، ومع ذلك لا نهمل هذا الخبر، وإنما يصلح خبر الآحاد أن يكون مكملًا للقرآن.
فالدليل القطعي يدل على فرضية (ركنية) الركوع والسجود.
وأما الطمأنينة فثبتت بدليل ظني، فنقول بوجوبها؛ لأن الواجب يثبت بالدليل الظني، بخلاف الفرض (الركن) فلا يثبت إلا بدليل قطعي، لهذا حملنا أمره بالطمأنينة وإعادة الصلاة في حديث المسيء في صلاته على الوجوب، لا على الركنية.
ومثل هذا القول قال الحنفية بحكم قراءة الفاتحة، فالقرآن طلب قراءة ما تيسر من القرآن بقوله تعالى:{فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، وهو عام في الفاتحة وغيرها، وهذا دليل قطعي، فثبت أن الفرض (الركن) هو مطلق القراءة.
وخبر الآحاد جاء بقراءة فاتحة الكتاب، (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)
وهذا دليل ظني، فحملوا قراءتها على الوجوب لا على الركنية، أي حتى لا يؤدي ذلك إلى تغيير حكم الكتاب بخبر الآحاد، وقد اصطلح الحنفية على إطلاقهم على هذا المسألة في كتب الأصول بما يسمى (الزيادة على النص) بخبر الآحاد نسخ.
بقي الجواب على أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالإعادة، قالوا: لا إشكال في ذلك، فترك الواجب نقص في الصلاة، فأمر بجبره بالإعادة، أو من باب الزجر عن المعاودة، وهذا دليل على ضعف من قال: إن الطمأنينة من سنن الصلاة.
وقوله: (فإنك لم تُصَلِّ) دليل على أن ترك ذلك ليس من باب السنن، لأن ترك السنن لا يلحق بالعدم، فالحكم بالعدم لا يكون إلا بانعدامها أصلًا وذلك لا يكون إلا بترك الركن وهذا لا يمكن الحمل عليه؛ لأنه دليل ظني، أو يكون بانتقاصها وذلك يكون بترك الواجب، وهو الراجح، ويدل عليه ما جاء في آخر حديث المسيء صلاته فإنه قال فيه:(فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئًا انتقصته من صلاتك) فسماها صلاة، والباطلة ليست صلاة.
(1)
* ويناقش:
أما التفريق بين الفرض والواجب: وأن الأول يثبت بدليل قطعي الثبوت، مثل نص القرآن، والمتواتر، وإجماع الأمة.
والواجب يثبت بدليل ظني الثبوت، كأخبار الآحاد، والقياس، وما كان مختلفًا في وجوبه كالمضمضة والاستنشاق، فهذا اصطلاح للحنفية، وظاهر كلام الإمام أحمد
(2)
.
(1)
. نهاية المطلب (2/ 162).
(2)
. قال أبو يعلى في العدة في أصول الفقه عن التفريق بين الفرض والواجب (2/ 376): هذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله، ذكره في مواضع، فقال في رواية أبي داود، وابن إبراهيم:
«المضمضة والاستنشاق لا تسمى فرضًا؛ ولا يسمى فرضًا إلا ما كان في كتاب الله تعالى.
قال أبو يعلى: فقد نفى اسم الفرض عن المضمضة والاستنشاق مع كونهما واجبين عنده.
وقال أيضًا رحمه الله في رواية المروزي، وقد سأله عن صدقة الفطر: أفرض هي؟ فقال: ما أجترئ أن أقول: إنها فرض.
وكذلك نقل الميموني عنه، وقد سأله هل يقول: بر الوالدين فرض؟ فقال: لا، ولكن أقول: واجب، ما لم يكن معصية».
ولو كان الأمر مجرد اصطلاح لم يكن هناك مشاحة فيه، وأما أن يبنى على هذا: التفريق بين دلالة السنة والكتاب، فهذا قول ضعيف جدًّا، فالدلالات متعلقها اللغة، وما تقتضيه من معنى، وما توجبه من عمل، ولا فرق في ذلك بين مصادر التشريع من كتاب وسنة، فالسنة قرينة الكتاب، ومبينة له، فإذا صحت فإنها تفيد العلم، ووجوب العمل كالقطعي.
وكون الدليل ظنيًّا أو قطعي الثبوت متعلق بطرق ثبوته، ولا علاقة له بما يقتضيه النص من معنى، وما يوجبه من عمل، فقطعي الثبوت وظني الثبوت قد تكون دلالتهما قطعية كما لو كانت الدلالة نصية لا تحتمل إلا معنى واحدًا، وقد تكون دلالتهما ظنية، كما لو كانت دلالتهما من قبيل الظاهر، الذي يحتمل معنيين أحدهما أرجح من الآخر، وقد تكون دلالتهما مجملة مفتقرة إلى مبين ومفسر، وإنما الفرق بين قطعي الثبوت وظنيه أن الظني تجوز مخالفته لدليل، فإذا دلَّ الدليل الظني على الركنية أو الشرطية ولم يعارضه ما هو أقوى منه وجب العمل بدلالته، ولو كانت ظنية.
وأما دعوى أن الزيادة على النص نسخ، فهذا أيضًا من أصول الحنفية، والجمهور على خلافه:
فالنسخ: هو رفع حكم الخطاب، وحكم الخطاب في الآية وهو الأمر بالركوع والسجود في الصلاة لم ينسخ، وإنما انضم إليه وجوب شيء آخر، وهو الطمأنينة، وهذا لا يسمى نسخًا، كما أن تخصيص العام أو تقييد المطلق لا يسمى نسخًا على الصحيح؛ لأنه لا يرفع حكم الخطاب بالكلية.
ولو سلمنا أنه نسخ، فإن نسخ القطعي بالظني جائز شرعًا، وواقع عملًا،
(ح-1663) فقد روى البخاري ومسلم من طريق مالك بن أنس، عن
عبد الله بن دينار،
عن عبد الله بن عمر، قال: بينا الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آتٍ، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشأم، فاستداروا إلى الكعبة
(1)
.
فالاستقبال إلى بيت المقدس قطعي، وخبر نسخه والتوجه إلى الكعبة جاء عن طريق خبر رجل واحد، فهو ظني، وعمل به الصحابة ممن كان يصلي بقباء، وأَقَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم عملهم، فدل على جواز رفع حكم القطعي بالظني.
ولم نستفد ركنية الطمأنينة من قوله في الحديث: (ثم اركع حتى تطمئن راكعًا) فهذا إنما يفيد الوجوب فقط، وإنما استفدنا الركنية من قوله:(ارجع فَصَلِّ فإنك لم تُصَلِّ)، فالنفي يدل على انعدام الصلاة لانعدام الطمأنينة، وأول ما يتوجه الانعدام للوجود، فإذا وجدت صورة الصلاة مع الحكم بنفي الصلاة، كان النفي متوجهًا للصلاة الشرعية (أي نفي الصحة)، وهذا بذاته يدل على ركنية الطمأنينة.
وقل مثل ذلك في قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
وكون الطمأنينة لا تسمى ركوعًا ولا سجودًا، وإنما هي صفة في الركوع والسجود وكذا في الاعتدال منهما لا يمنع أن تكون الطمأنينة ركنًا مستقلًّا بذاته، فالفاتحة ركن مستقل، والقيام لها بمقدار الفاتحة ركن مستقل آخر، وكون القيام صفة ملازمة لركنية الفاتحة، ومقدرًا بقدرها، لا يمنع أن يكون القيام ركنًا بذاته.
كما استدل الحنفية بأدلة عقلية، من قولهم: إن الرفع والاعتدال ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو وسيلة للانتقال من ركن إلى آخر.
وهذا يمكن النظر في قبوله لولا أن هذا الدليل النظري يعارضه أدلة نقلية في غاية الصحة، ولا يمكن للدليل النظري أن يعارض النصوص الشرعية، فالنظر مجاله إما في فهم النص وإما في حال غياب النص، أما إذا ورد النص الشرعي فلا يمكن معارضته بالدليل النظري.
وسوف أسوق الأدلة النقلية على ركنية الطمأنينة في المواضع الأربعة، في الركوع
(1)
. صحيح البخاري (403)، صحيح مسلم (526).
والاعتدال منه، وفي السجود، والاعتدال منه عند الكلام على أدلة الشافعية والحنابلة.
وأما قول إمام الحرمين فهو من قبيل الوهم:
(ح-1664) فقد رواه البخاري في الصحيح من طريق عبد الله بن نمير، حدثنا عبيد الله، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري،
عن أبي هريرة، في قصة المسيء صلاته، وفيه: .... ثم ارفع حتى تستوي قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها
(1)
.
ولم يتفرد به عبد الله بن نمير، بل تابعه على ذلك يحيى بن سعيد القطان فقد رواه البخاري ومسلم، من طريقه عن عبيد الله، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، بمثله، وفيه: (
…
ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) إلا أنه لم يذكر السجدة الثانية
(2)
.
وإذا ثبت الاطمئنان في الجلسة بعد السجود ثبت مثله في القيام بعد الركوع، حيث لا فرق، وكان معنى قوله:(حتى تعتدل قائمًا) بمعنى قوله: (حتى تطمئن جالسًا).
والطمأنينة تتحقق في الرفع من الركوع بالاعتدال قائمًا، وفي الركوع والسجود إذا أقام صلبه فيهما، وهو بمعنى الاعتدال، وبمعنى إتمام الركوع والسجود، فهو من تنوع الألفاظ والمقصود منها واحد، وهو تحقق الطمأنينة في أقل ما يجب على المصلي.
* دليل من قال: الطمأنينة فرض في المواضع الأربعة:
الدليل الأول:
(ح-1665) ما رواه البخاري ومسلم من طريق يحيى بن سعيد (القطان)، عن عبيد الله (العمري)، قال: حدثنا سعيد المقبري، عن أبيه،
عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل، فصلى، ثم جاء، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام، فقال: ارجع فَصَلِّ فإنك
(1)
. صحيح البخاري (6251)، ورواه مسلم بنفس الإسناد وأحال على لفظ يحيى بن سعيد (46 - 397).
(2)
. صحيح البخاري (757، 793، 6252).
لم تُصَلِّ، فصلى، ثم جاء، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ارجع فَصَلِّ، فإنك لم تُصَلِّ، ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق، فما أحسن غيره، فعلمني، قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، وافعل ذلك في صلاتك كلها
(1)
.
وجه الاستدلال من أكثر من وجه:
الأول: قوله: (ارجع فَصَلِّ فإنك لم تُصَلِّ) فأمره بإعادة الصلاة، والإعادة لا تجب إلا بفساد الصلاة.
الوجه الثاني: نفى عنه الصلاة الشرعية، لانعدام الطمأنينة في الركوع، والسجود، والاعتدال منهما، والصلاة لا تنتفي إلا بخلل أركانها.
* واعترض على هذا الاستدلال:
بأن الأمر بإعادة الصلاة ليس دليلًا على الخلل في الأركان، وإنما هو لجبر النقص الحاصل بترك الواجب، وترك الواجب لا يبطل الصلاة، ويجبر بالسجود إن كان ساهيًا.
(ح-1666) ويدل لذلك ما رواه النسائي من طريق ابن عجلان، عن علي بن يحيى الزرقي، عن أبيه،
عن عمه وكان بَدْرِيًّا في قصة الرجل المسيء في صلاته، وفيه: .... قال: إذا أردت الصلاة فتوضأ، فأحسن الوضوء، ثم قم فاستقبل القبلة، ثم كبر، ثم اقرأ، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع رأسك حتى تطمئن قاعدًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، فإذا صنعت ذلك فقد قضيت صلاتك، وما انتقصت من ذلك فإنما انتقصته من صلاتك
(2)
.
وروى أبو داود في السنن من طريق أنس بن عياض، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد المقبري،
عن أبي هريرة في قصة الرجل المسيء صلاته، وقال في آخره: فإذا فعلت
(1)
. صحيح البخاري (793)، وصحيح مسلم (45 - 397).
(2)
. سنن النسائي (644).
هذا فقد تمت صلاتك، وما انتقصت من هذا شيئًا فإنما انتقصته من صلاتك
…
(1)
.
وجه الاستدلال:
قوله: (وما انتقصت من ذلك فإنما انتقصته من صلاتك) فلو كان ترك الطمأنينة مفسدًا لما سماها صلاة، والباطلة لا تسمى صلاة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم تركه يتم صلاته، ولو كان عدم الاطمئنان مفسدًا لفسدت الصلاة من أول ركعة، ولما أقره على الاستمرار فيها بعد فسادها.
* ورد هذا الجواب:
الجواب الأول:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أمره بالإعادة فحسب لربما احتمل هذا الجواب، وإنما أمره بالإعادة، معللًا ذلك بقوله:(فإنك لم تُصَلِّ)، ومن صحت صلاته لا يقال له: إنك لم تُصَلِّ، فهذا دليل على نفي الصلاة الشرعية في حقه، وحمل النفي على الكمال لا يصح؛ لأن طلب الكمال لا يوجب إعادة الصلاة عدة مرات.
الجواب الثاني:
أن حديث رفاعة وإن كان حسنًا في الجملة إلا أن فيه حروفًا قد اختلف رواة حديث رفاعة في ذكرها ومنها قوله: (وما انتقصت من ذلك فإنما انتقصته من صلاتك)، فالصحيح أنه حرف شاذ، لا يصلح للحجة، والله أعلم]
(2)
.
(1)
. سنن أبي داود (856).
(2)
. الحديث يرويه علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمه رفاعة.
وقد رواه عن علي بن خلاد بزيادة (وما انتقصت من شيء فإنما تنتقص من صلاتك) ثلاثة:
…
الأول: يحيى بن علي بن خلاد، عن أبيه.
أخرجه الطيالسي (1382)، وأبو داود (861)، والنسائي في المجتبى (667)، وفي الكبرى (1631)، وابن خزيمة (545)، والطحاوي في مشكل الآثار (2244)، والبيهقي (2/ 380) من طريق إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير، عن يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن جده رفاعة.
ورواه الترمذي (302) من طريق إسماعيل بن جعفر، عن يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد، عن جده رفاعة، ولم يذكر عن أبيه، وهو وهم.
ويحيى بن علي بن خلاد مجهول، لم يَرْوِ عنه إلا إسماعيل بن جعفر، ولم يوثقه إلا ابن حبان، والله أعلم. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الراوي الثاني: محمد بن عجلان، عن علي بن خلاد، واختلف على ابن عجلان فيه:
فرواه يحيى بن سعيد القطان، كما في مسند أحمد (4/ 340)، ومسند أبي يعلى (6623)، ومسند البزار (3726) والمعجم الكبير للطبراني (4523)، وصحيح ابن حبان (1787).
وأبو خالد الأحمر كما في مصنف ابن أبي شيبة (2958)، ومن طريق ابن أبي شيبة رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1976)، والطبراني في الكبير (5/ 37) ح 4524.
وبكر بن مضر كما في سنن النسائي (1053)، والسنن الكبرى للبيهقي (2/ 521).
وسليمان بن بلال كما في المعجم الكبير للطبراني (5/ 36) ح 4521، أربعتهم رووه عن ابن عجلان به، بذكر زيادة هذا الحرف (وما انتقصت من ذلك فإنما تنتقص من صلاتك).
وخالفهم الليث بن سعد، فرواه عن ابن عجلان به، دون ذكر (وما انتقصت شيئًا
…
). .
أخرجه النسائي في المجتبى (1313) والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 521) عن قتيبة بن سعيد. والطبراني في الكبير (5/ 37) ح 4522 من طريق عبد الله بن صالح (كاتب الليث) كلاهما عن الليث بن سعد، حدثني محمد بن عجلان به.
وتابعه حيوة بن شريح، عن ابن عجلان في عدم ذكر هذه الزيادة.
أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (2245) من طريق حجاج بن رشدين، عن حيوة به.
وحجاج بن رشدين ضعفه ابن عدي، وقال مسلمة بن قاسم في كتاب الصلة: لا بأس به، وقال الخليلي: هو أمثل من أبيه. وقال أبو زرعة: لا علم لي به. ولم يذكر ابن يونس فيه جرحًا. انظر لسان الميزان (2/ 560).
ومع الاختلاف على ابن عجلان في ذكر هذا الحرف، فقد اختلف عليه في إسناده:
فرواه من سبق عن ابن عجلان، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمه.
ورواه النضر بن عبد الجبار (ثقة)، كما في مشكل الآثار (1594) قال: أخبرنا ابن لهيعة والليث، عن محمد بن عجلان، عن من أخبره عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمه، وساقه مختصرًا.
فزاد في الإسناد رجلًا مبهمًا بين ابن عجلان وبين علي بن يحيى بن خلاد.
…
وابن عجلان مدلس فإن كان هذا الطريق محفوظًا فهو علة في رواية ابن عجلان فإنه معروف بالتدليس، والله أعلم.
وأخرجه البخاري في القراءة خلف الإمام (112) من طريق بكير بن الأشج، عن ابن عجلان، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن رفاعة، ولم يقل: عن أبيه.
فالاختلاف على ابن عجلان في إسناده ولفظه مما يضعف روايته، ويخشى أن يكون قد سمعه من يحيى بن علي بن خلاد المجهول، والله أعلم.
الطريق الثالث: داود بن قيس، عن علي بن يحيى بن خلاد، بزيادة (وما انتقصت من شيء
…
).
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3739)، والنسائي في المجتبى (1314)، وفي الكبرى =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (1238)، والطبراني في الكبير (4520) والحاكم في المستدرك (883). وهذا أصح الطرق الثلاثة ممن روى هذه الزيادة، والله أعلم.
…
وخالف هؤلاء كل من:
…
إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، كما في سنن أبي داود (858) كما في إسناد الباب، وسنن النسائي (المجتبى)(1136)، وفي الكبرى (722)، وسنن ابن ماجه (460)، وسنن الدارمي (1329)، ومسند البزار (3727)، و ابن الجارود في المنتقى (194)، وشرح معاني الآثار (1/ 35) والمعجم الكبير للطبراني (5/ 37) رقم: 4525 وسنن الدارقطني (1/ 95)، ومستدرك الحاكم (1/ 241) والسنن الكبرى للبيهقي (1/ 44) و (2/ 345).
ومحمد بن إسحاق، كما في سنن أبي داود (860)، وصحيح ابن خزيمة (597، 638)، والمعجم الكبير للطبراني (5/ 39) ح: 4528، والسنن الكبرى للبيهقي (1/ 133، 134)، فروياه عن علي بن يحيى بن خلاد دون ذكر زيادة:(وما انتقصت من شيء .... ).
وتابعهما على عدم ذكر الزيادة كل من محمد بن عمرو، وشريك بن أبي نمر، وعبد الله بن عون، على اختلاف عليهم في الإسناد:
فأما رواية محمد بن عمرو عن علي بن يحيى بن خلاد:
فرواها يزيد بن هارون، عن محمد بن عمرو، واختلف على يزيد فيه:
فرواه أحمد في مسنده (4/ 340) عن يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد بن عمرو، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن رفاعة. ولم يقل: عن أبيه فأسقط (يحيى بن خلاد).
ورواه ابن حبان (1787) من طريق أحمد بن سنان، عن يزيد بن هارون به إلا أنه قال: عن علي ابن يحيى بن خلاد أحسبه عن أبيه. فلم يجزم بكونه عن أبيه.
وخالفه خالد بن عبد الله، فرواه أبو داود (859) من طريقه، عن محمد بن عمرو، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن رفاعة بن رافع، بذكر (يحيى بن خلاد) والد علي بن يحيى، جازمًا.
فأخشى أن يكون إسناد خالد بن عبد الله بذكر (عن أبيه) مزيدة في الإسناد، وليست منه خاصة أن تحفة الأشراف (3/ 169) ح 3604، ذكر إسناده ونص على أنه لم يقل (عن أبيه) كرواية يزيد بن هارون، وكذلك نسخة سنن أبي داود في شرح عون المعبود (844)، والمسند الجامع (3730)، والله أعلم.
وأما رواية شريك بن أبي نمر: فأخرجها الطحاوي في شرح مشكل الآثار (2243) وفي شرح معاني الآثار (1/ 232) عنه، عن علي بن يحيى به، بإسقاط كلمة (أبيه)، واختصر الحديث فلم يذكر فيه الوضوء.
وأما رواية عبد الله بن عون فأخرجها الطبراني في الكبير (4530) من طريق شريك (سيئ الحفظ)، عن عبد الله بن عون به، بإسقاط كلمة عن أبيه، ولم يذكر الوضوء.
فالخلاصة: أن الحديث بزيادة (وما انتقصته من شيء فإنما تنتقصه من صلاتك).
روى هذه الزيادة يحيى بن علي (مجهول) وابن عجلان (صدوق) على اختلاف فيه عليه في إسناده ولفظه، وداود بن قيس، رووه عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمه رفاعة. =
والحكم نفسه يقال لزيادة أنس بن عياض فقد تفرد بهذه الزيادة عن عبيد الله ابن عمر، وقد خالفه جماعة من الثقات رووه عن عبيد الله بن عمر، ولم يقل أحد منهم هذا الحرف، منهم عبد الله بن نمير، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى وحماد بن أسامة، وعيسى بن يونس، وعبد الرحيم بن سليمان، وعقبة بن خالد، كلهم رووه عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وليس فيه هذا الحرف.
كما رواه يحيى بن سعيد القطان، عن عبيد الله، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، وليس فيه ما ذكره أنس بن عياض، مما يدل على شذوذ هذه الزيادة
(1)
.
= ورواه دون هذه الزيادة كل من: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، ومحمد بن إسحاق، ومحمد بن عمرو، وشريك بن أبي نمر، وعبد الله بن عون.
هذه هي الطرق التي وقفت عليها من حديث رفاعة في قصة المسيء في صلاته، وحديث المسيء في صلاته قد رواه الشيخان البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
ورواه رفاعة بن رافع خارج الصحيحين، وهي قصة واحدة لوجود التطابق بين أحداث القصة، وقد روى البخاري في صحيحه حديثًا من رواية علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن رفاعة بن رافع، انظر فتح الباري (ح 799)، وإنما تجنب البخاري إخراج هذا الحديث في صحيحه للاختلاف على علي بن يحيى بن خلاد في ألفاظه، فالرواة عنه يزيد بعضهم على بعض بألفاظ لم يتفقوا عليها عنه، ولم ترد في حديث أبي هريرة، مما يجعل الباحث لا يجزم بكونها محفوظة في الحديث إلا ما وافق منها حديث أبي هريرة في الصحيحين، وأما ما انفرد فيه حديث رفاعة مما اختلف على الرواة في ذكره ففي النفس منه شيء؛ لوجود الاختلاف الكثير في إسناده وألفاظه ومنها هذه اللفظة موضع الشاهد (وما انتقصت من شيء فإنما تنتقصه من صلاتك).
وقد تكلم على هذا الاختلاف أبو داود في السنن (858، 860، 861)، وابن أبي حاتم في العلل (1/ 82، 83)، والحاكم في المستدرك (1/ 242، 243)، والبيهقي في السنن (2/ 373).
(1)
. رواه عبد الله بن نمير كما في صحيح البخاري (6251)، وصحيح مسلم (46 - 397)، وأكتفي بالصحيحين عن غيرهما.
وحماد بن أسامة كما في صحيح البخاري (6667)، وصحيح مسلم (46 - 397)، وأكتفي بهما عن غيرهما.
وعيسى بن يونس كما في صحيح ابن خزيمة (454)، ومستخرج أبي عوانة (1610)، وحديث أبي العباس السراج (2528)،
وعبد الأعلى بن عبد الأعلى كما في حديث أبي الفضل الزهري (302)، وحديث أبي العباس السراج (2527).
وعبد الرحيم بن سليمان (ثقة) وعقبة بن خالد (صدوق)، كما في مستخرج أبي عوانة (1584)، ستتهم رووه عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، ليس فيه ما ذكره أنس بن عياض.
كما رواه البخاري (757، 793، 6252)، ومسلم (45 - 397) من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، وليس فيه ما ذكره أنس بن عياض، فاتفاق كل هؤلاء على عدم ذكر هذا الحرف من حديث عبيد الله بن عمر يدل على ضبطهم ووهم أنس بن عياض، وإنما يعرف هذا الحرف من مسند رفاعة بن رافع، فلعله دخل على أنس بن عياض حديثه في حديث أبي هريرة، والله أعلم.
الجواب الثالث:
على فرض صحة الزيادة في حديث رفاعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سمى فعله صلاة بحسب ما يعتقده المصلي، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالركوع والسجود، فيلزم على هذا الفهم أن تُسَمِّيَ ما لا ركوع ولا سجود فيها صلاة أيضًا؛ لأنه من جملة ما انتقصه من صلاته.
الدليل الثاني:
(ح-1667) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي معاوية ووكيع، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر،
عن أبي مسعود الأنصاري، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل صلبه فيها في الركوع والسجود
(1)
.
[صحيح]
(2)
.
(1)
. المصنف (36295).
(2)
. هذا الإسناد مداره على الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر، عن أبي مسعود الأنصاري، وقد رواه عامة أصحاب الأعمش عنه، وقد روي عنه بلفظ:(لا يقيم صلبه) ورواه بعضهم: (لا يقيم ظهره) وهما بمعنى واحد، فالظهر يطلق عليه صلب.
وقد رواه عن الأعمش:
أبومعاوية، كما في المصنف (2956، 36295)، وسنن الترمذي (265)، والمنتقى لابن الجاورد مقرونًا بغيره (195)، وصحيح ابن خزيمة مقرونًا بغيره (591، 666)، وصحيح ابن حبان (1892)، ومختصر الأحكام (247)، وسنن الدارقطني (1315).
ووكيع كما في المسند (4/ 122)، ومصنف ابن أبي شيبة (2956، 36295)، وسنن ابن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ماجه (870)، وصحيح ابن خزيمة مقرونًا بغيره (591، 666)، وصحيح ابن حبان (1892)، ومستخرج أبي عوانة مقرونًا بغيره (1611)، وسنن الدارقطني (1315، 1316).
وشعبة، كما في مسند أحمد (4/ 119)، ومسند أبي داود الطيالسي (646)، وسنن أبي داود (855)، والبغوي كما في الجعديات (735)، وشرح مشكل الآثار (205)، صحيح ابن حبان (1893)، والسنن الكبرى للبيهقي (2/ 169).
والثوري كما في مصنف عبد الرزاق (2856، 3736)، وشرح مشكل الآثار (206، 3896، 3899)، والسنن الكبرى للبيهقي (2/ 126).
وابن عيينة كما في مسند الحميدي (459)،
وعبد الله بن نمير، كما في مسند أحمد (4/ 120)، وشعار أصحاب الحديث لأبي أحمد الحاكم (55).
وابن أبي زائدة كما في المسند (4/ 120).
وأبو عوانة كما في المعجم الكبير للطبراني (17/ 213) ح 581،
ويعلى بن عبيد كما في سنن الدارمي (1366)، والمنتقى لابن الجارود مقرونًا بغيره (195)، وسنن الدارقطني (1316).
وعيسى بن يونس، كما في المجتبى من سنن النسائي (1111)، وفي الكبرى (703)،
والفضيل بن عياض، كما في المجتبى من سنن النسائي (1027)،
ومحمد بن ربيعة مقرونًا بغيره كما في المنتقى لابن الجارود (195)، ومستخرج أبي عوانة مقرونًا بغيره (1611).
وعبيد الله بن موسى مقرونًا بغيره كما في المنتقى لابن الجارود (195)، ومستخرج أبي عوانة (1611)، وسنن الدارقطني (1316)، والسنن الكبرى للبيهقي (2/ 126، 169)، وفي معرفة الصحابة لأبي نعيم (5401).
ومحمد بن فضيل مقرونًا بغيره، كما في صحيح ابن خزيمة (591، 666)، ومختصر الأحكام للطوسي (245).
وابن أبي عدي كما في صحيح ابن خزيمة (592)،
وجرير بن عبد الحميد كما في مختصر الأحكام للطوسي (246).
وعبد الرحمن بن محمد المحاربي مقرونًا بغيره كما في مستخرج أبي عوانة (1611)، وسنن الدارقطني (1316).
ويعقوب بن إبراهيم أبو يوسف، كما في شرح مشكل الآثار (3900)،
وعبد الله بن إدريس، كما في سنن الدارقطني (1315)،
وحماد بن سعيد مقرونًا بغيره كما في سنن الدارقطني (1315)،
وأبو أسامة حماد بن أسامة كما في سنن الدارقطني (1316). =
وجه الاستدلال:
قال الشافعي وأحمد وإسحاق: «من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة .... »
(1)
.
لكن السؤال: ما معنى: (يقيم صلبه في الركوع والسجود)؟، أتكون إقامة الصلب (الظهر) صفة في الركوع والسجود كما يفيده حرف (في) أم المقصود بإقامة الصلب اعتداله منهما؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:
فقيل: المقصود به هو الاعتدال، وبه قال القاضي عبد الوهاب المالكي، وابن يونس في الجامع، وابن عبد البر، وابن تيمية، وجماعة من العلماء
(2)
.
قال القاضي عبد الوهاب في الإشراف: «والرفع من الركوع واجب
…
فإن انحط ساجدًا، وهو راكع فلا يجزئه على الظاهر من المذهب، ورأيت في بعض الكتب عن مالك أو عن بعض أصحابه: إنه يجزئه، وليس بشيء يعول عليه، ودليلنا على أنه لا يجزيه خلافًا لأبي حنيفة قوله عليه السلام: (لا يجزئ الرجل صلاة لا يقيم فيها
= وعمر بن حفص كما في مسند أبي العباس السراج (326)، كلهم رووه عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر، عن أبي مسعود.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقال الدارقطني: هذا إسناد ثابت صحيح، وصححه ابن خزيمة وابن حبان وذلك بتخريجه في صحيحيهما، وكذا صححه البيهقي.
وخالف الجماعة إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، فرواه عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله مرفوعًا.
رواه أبو عوانة (1613)، والطوسي في مستخرجه (248)، والبيهقي في السنن (2/ 126) من طريق يحيى بن أبي بكير، عن إسرائيل به.
وهذا إسناد شاذ، ولا أدري من أين الوهم، أهو من يحيى أم من شيخه.
قال الدارقطني في العلل (6/ 176): «تفرد به يحيى بن أبي بكير عن إسرائيل» . والله أعلم.
(1)
. سنن الترمذي (2/ 51).
(2)
. الجامع لمسائل المدونة (2/ 419، 420)، الإشراف (1/ 246)، الاستذكار (2/ 164)، شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 561)، التاج والإكليل (2/ 220)، مجموع الفتاوى (22/ 534).
صلبه في الركوع والسجود)»
(1)
.
وهذا ما فهمه ابن عبد البر المالكي، فقد نقل عن مالك أنه قال:«من لم يرفع رأسه ويعتدل في ركوعه وسجوده ويقم في ذلك صلبه لم تجزئه صلاته»
(2)
.
وفسر ابن عبد البر إقامة الصلب في الركوع والسجود بالاعتدال، وقال: ولا خلاف بين العلماء في ذلك، وإنما اختلفوا في الطمأنينة بعد الاعتدال ولم نعد قول أبي حنيفة وبعض أصحابنا خلافًا؛ لأنهم محجوجون بالآثار، وبما عليه الجمهور
(3)
.
وقال ابن عبد البر نقلًا من التاج والإكليل: الاعتدال فرض لقوله صلى الله عليه وسلم: لا ينظر الله إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده»
(4)
.
وقال في الاستذكار: «وعلى هذا جماعة من أهل العلم فيمن لم يقم صلبه من ركوعه وسجوده»
(5)
.
فجعل (من) بدلًا من قوله: (في ركوعه وفي سجوده).
وقال ابن تيمية: «هذا الحديث نص صريح في وجوب الاعتدال
…
وذلك أن قوله: (يقيم ظهره في الركوع والسجود) أي: عند رفعه رأسه منهما، فإن إقامة الظَّهْر تكون من تمام الركوع والسجود؛ لأنه إذا ركع كان الركوع من حين ينحني إلى أن يعود فيعتدل، ويكون السجود من حين الخرور من القيام أو القعود إلى حين يعود فيعتدل، فالخفض والرفع هما طرفا الركوع والسجود، وتمامهما، فلهذا قال:(يقيم صلبه في الركوع والسجود)، ويبين ذلك أن وجوب هذا من الاعتدالين كوجوب إتمام الركوع والسجود»
(6)
.
وقال محمد بن إسماعيل الصنعاني المعروف بالأمير: قوله: «(لا يقيم الرجل
(1)
. الإشراف (1/ 246).
(2)
. الاستذكار (2/ 164).
(3)
. المرجع السابق (2/ 306، 307)، وانظر: شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 561).
(4)
. التاج والإكليل (2/ 220).
(5)
. الاستذكار (2/ 165).
(6)
. مجموع الفتاوى (22/ 534).
فيها صلبه في الركوع) عند الانتصاب منه (والسجود) عند القعود بين السجدتين وهذا هو الاطمئنان .... »
(1)
.
وقيل: معنى (يقيم صلبه -وفي رواية ظهره- في الركوع والسجود): أي يطمئن فيهما، فعبر عن الطمأنينة في الركوع والسجود بإقامة الصلب، وعبر بنفي الإجزاء الدال على ركنية الطمأنينة.
فالشرع تارة يعبر عن الطمأنينة فيهما بإتمام الركوع والسجود.
وتارة يعبر عنها بإقامة الصلب في الركوع والسجود.
وقد يصرح بالطمأنينة كما قال للمسيء في صلاته: (ثم اركع حتى تطمئن راكعًا
…
ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا)، وكلها بمعنى واحد، اختاره بعض الحنفية، وهو ظاهر كلام الماوردي في الحاوي، ونص عليه أحمد، واحتج به ابن قدامة في المغني على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود، وصرح به المناوي في فيض القدير
(2)
.
قال في الفتاوى الهندية نقلًا من شرح منية المصلي: «ويكره أن يبزق في الصلاة، وكذا ترك الطمأنينة في الركوع والسجود، وهو أن لا يقيم صلبه كذا في المحيط، وكذا في القومة التي بينهما وفي الجلسة التي بين السجدتين»
(3)
.
ففرق بين القومة (وهي الاعتدال) وبين إقامة الصلب في الركوع والسجود.
وقال ابن هانئ في مسائل الإمام أحمد: «سمعت أبا عبد اللَّه -وقد صلينا يومًا إلى جنب رجل لا يتم ركوعه، ولا سجوده- يقول: يا هذا أقم صلبك في الركوع والسجود، وأحسن صلاتك»
(4)
.
فقوله: (لا يتم ركوعه) أي لا يطمئن فيه، فوجهه إلى إقامة صلبه في الركوع والسجود.
ولو أراد الشارع من إقامة الصلب في الركوع والسجود الاعتدال، لقال: (حتى يقيم
(1)
. التنوير شرح الجامع الصغير (11/ 88).
(2)
. الحاوي الكبير (2/ 118، 119)، المغني لابن قدامة (1/ 360).
(3)
. الفتاوى الهندية (1/ 107).
(4)
. مسائل ابن هانئ للإمام أحمد (1950).
صلبه من الركوع والسجود)، فالتعبير بـ (في) دليل على أن إقامة الصلب فيهما، لا منهما.
قال في مجمع بحار الأنوار: وفيه: (حتى يقيم ظهره .. ) أي: لا يجوز صلاة من لا يُسَوِّي ظهره في الركوع والسجود، والمراد الطمأنينة
(1)
.
وقال المناوي في فيض القدير: (لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود) أي لا تصح صلاة من لا يسوي ظهره فيهما والمراد منه الطمأنينة وهي واجبة فيهما
…
»
(2)
.
ولعل هذا القول أقوى من الأول، ولو أن الحديث أطلق إقامة الصلب لكان المتبادر حمله على الاعتدال، لأن أكثر ما يقام الصلب في حال الاعتدال لا في حال الركوع والسجود، ولكنه لما قيد ذلك في الركوع والسجود، حمل معنى إقامة الصلب أي تسويته راكعًا وذلك يعني افتراض الطمأنينة، وأيًا كان المعنى، فهو دليل على الركنية، حيث عبر بنفي الإجزاء، سواء أقلنا: إن ذلك في الركوع والسجود، أم حملنا ذلك على الطمأنينة في الاعتدال منهما، فالحديث رد على مذهب الحنفية القائلين بأن الطمأنينة ليست من الفرائض، والله أعلم.
الدليل الثالث:
(ح-1668) ما رواه البخاري من طريق شعبة، عن سليمان، قال: سمعت زيد بن وهب، قال:
رأى حذيفة رجلًا لا يتم الركوع والسجود، قال: ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمدًا صلى الله عليه وسلم عليها
(3)
.
الدليل الرابع:
(ح-1669) ما رواه البخاري من طريق همام، حدثنا قتادة،
حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أتموا الركوع والسجود، فوالذي نفسي بيده، إني لأراكم من بعد ظهري إذا
(1)
. مجمع بحار الأنوار (4/ 344)، وانظر: مرعاة المفاتيح (3/ 194).
(2)
. فيض القدير (6/ 390)، وانظر: التيسير بشرح الجامع الصغير له أيضًا (2/ 490).
(3)
. صحيح البخاري (791).
ما ركعتم، وإذا ما سجدتم
(1)
.
ورواه مسلم من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة به
(2)
.
* ويناقش:
بأن هذا الدليل يدل على وجوب إتمام الركوع والسجود، والركنية قدر زائد على الوجوب.
الدليل الخامس:
(ح-1670) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو النضر، قال: حدثنا أيوب بن عتبة، حدثنا عبد الله بن بدر، عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان،
عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا ينظر الله عز وجل إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده
(3)
.
[رواه ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر، فقال في لفظه: (لا يقيم صلبه في الركوع والسجود)، وهو المحفوظ]
(4)
.
(1)
. صحيح البخاري (6644)،.
(2)
. صحيح مسلم (111 - 425).
(3)
. المسند (4/ 22).
(4)
. اختلف في إسناده على عبد الله بن بدر،
فقيل: عن عبد الله بن بدر، عن عبد الرحيم بن علي بن شيبان، عن أبيه مرفوعًا.
رواه أيوب بن عتبة، واختلف عليه في إسناده:
فرواه أبو النضر هاشم بن القاسم، كما في مسند أحمد (4/ 22)، والطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 551)،
وحجاج بن محمد كما في تاريخ دمشق لابن عساكر (38/ 421) من طريق عثمان بن عبد الله بن أبي جميل القرشي (فيه جهالة) عن حجاج بن محمد، كلاهما عن أيوب بن عتبة، عن عبد الله بن بدر، عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان، عن أبيه به، بلفظ:(لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده).
وخالفهما يزيد بن هارون كما في مسند أحمد (4/ 23)، فرواه عن أيوب بن عتبة، حدثنا عبد الله بن بدر، قال: حدثني عبد الله بن علي بن شيبان السحيمي، قال: حدثني أبي، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا ينظر الله إلى صلاة عبد لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده.
وقوله: (عبد الله بن علي بن شيبان) خطأ قطعًا، والبلاء من أيوب بن عتبة، فإنه منكر الحديث، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= خاصة ما روى عنه أهل العراق، وهذا منه.
قال أبو داود عن أيوب: صحيح الكتاب. وقال عنه أخرى منكر الحديث.
وضعفه علي بن المديني، وقال البخاري: هو عندهم لين. وقال النسائي: مضطرب الحديث.
وخالف ملازم بن عمرو اليمامي، أيوب بن عتبة، كما في مسند أحمد (4/ 23)، ومصنف ابن أبي شيبة (2957)، وعنه ابن ماجه (871)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1678).
ورواه البخاري في التاريخ الكبير (6/ 260)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (5/ 551)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 394)، وفي المشكل (3901)، وابن خزيمة (593، 667، 872)، وابن حبان (1891)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 149)، فرواه عن عبد الله بن بدر، أن عبد الرحمن بن علي حدثه، أن أباه علي بن شيبان حدثه، أنه خرج وافدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فصلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فلمح بمؤخر عينه إلى رجل لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا معشر المسلمين، إنه لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود.
وهذا إسناد صحيح، وملازم بن عمرو قد وثقه أحمد، وابن معين وأبو زرعة، والنسائي والدارقطني، وقال أبو داود: ليس به بأس، وقال أبو حاتم الرازي: صدوق لا بأس به، وبقية رجاله ثقات، وهو مقدم على أيوب بن عتبة،
وعبد الله بن بدر جد ملازم بن عمرو، ثقة أيضًا، قال عثمان بن سعيد الدارمي عن يحيى بن معين، وأبو زرعة وأحمد العجلي ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات.
وعبد الرحمن بن علي بن شيبان، وثقه ابن حبان والعجلي، وابن حجر وأبو العرب التميمي وابن حزم، وقد روى عنه ثلاثة، عبد الله بن بدر، وهو أكثر من روى عنه، وعلي بن عبد الرحمن، ويزيد ابن عبد الرحمن بن علي بن شيبان، وروايتهما عنه في سنن أبي داود، فيكون المحفوظ من لفظه:(لا يقيم صلبه في الركوع والسجود) كحديث أبي مسعود البدري، وليس (لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده). والله أعلم.
وقيل: عن عبد الله بن بدر، عن عبد الرحمن بن علي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون ذكر أبيه.
ورواه عبد الوارث بن سعيد، واختلف عليه فيه:
فرواه عبد الصمد بن عبد الوارث كما في مسند الإمام أحمد (4/ 23)، ومعجم الصحابة للبغوي (1831)، عن أبيه، قال: حدثنا أبو عبد الله الشَّقَرِيِّ، قال: حدثني عمر بن جابر اليمامي، عن عبد الله بن بدر، عن عبد الرحمن بن علي، عن أبيه
…
فذكره.
ورواه مسدد كما في التاريخ الكبير للبخاري (6/ 261)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/ 147).
وعمران بن ميسرة كما في التاريخ الكبير (6/ 261)،
وشيبان بن فروخ كما في معجم الصحابة للبغوي (1830)، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم (4676).
وسعيد المري كما في معجم الصحابة لابن قانع (4676)، =
الدليل السادس:
(ح-1671) ما رواه الإمام أحمد من طريق أبي جعفر السويدي، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة،
عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته. قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها
= وإسحاق بن أبي إسرائيل كما في الكامل لابن عدي (4/ 363)، خمستهم (مسدد، وعمران، وشيبان، والمري، وإسحاق) رووه عن عبد الوارث بن سعيد، عن أبي عبد الله الشَّقَرِيِّ، عن عمر بن جابر، عن عبد الله بن بدر، عن عبد الرحمن بن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البغوي: هكذا قال شيبان في هذا الحديث عن عبد الرحمن بن عليِّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوهم فيه، وإنما رواه عبد الرحمن بن علي، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: عن عبد الله بن بدر، عن عبد الرحمن بن علي، عن طلق بن علي.
رواه عكرمة بن عمار، واختلف عليه إسنادًا ومتنًا،
فرواه عبيد بن عقيل المقرئ كما في المعجم الكبير للطبراني (8/ 338) ح 8261،
وأبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي كما في معجم الصحابة لابن قانع (2/ 40)،
والنضر بن محمد كما في الترغيب والترهيب للأصبهاني الملقب بقوام السنة (1915).
وغسان بن عبيد كما في الثالث عشر من فوائد ابن المقرئ (52)، رووه عن عكرمة بن عمار، عن عبد الله بن بدر، عن عبد الرحمن بن علي، عن طلق بن علي، بلفظ: لا ينظر الله إلى صلاة عبد لا يقيم ظهره في ركوعه وسجوده.
وخالفهم وكيع بن الجراح كما في المسند (4/ 22) فرواه عن عكرمة بن عمار، عن عبد الله بن زيد أو بدر، -أنا أشك- عن طلق بن علي. بلفظ:(لا ينظر الله إلى صلاة عبد لا يقيم فيها صلبه من خشوعها وسجودها).
ورواه مسدد كما في إتحاف الخيرة (1927) عن عكرمة، عن عبد الله بن بدر من دون شك.
فخالف في إسناده ولفظه.
ورواه معاوية بن أبي سلام، كما في العلل لابن أبي حاتم (436)،
ويحيى بن أبي كثير كما في أسد الغابة ط دار الفكر (2/ 467) كلاهما، عن عكرمة، عن طلحة السحيمي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو حاتم في العلل (2/ 363): أرى أنه عكرمة بن عمار.
فتبين من الاختلاف على عكرمة من اضطرابه فيه، والله أعلم، والمحفوظ رواية ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، والله أعلم.
أو قال: لا يقيم صلبه في الركوع والسجود
(1)
.
[غريب من حديث الوليد بن مسلم لم يروه عنه إلا أبو جعفر السويدي والحكم بن موسى، وأنكره أبو حاتم وابن المديني وغيرهما]
(2)
.
(1)
. المسند (5/ 310).
(2)
. اختلف فيه على الأوزاعي،
فرواه الحكم بن موسى كما في مسند الدارمي (1367)، وأبو يعلى الموصلي في المعجم (150)، وابن خزيمة في صحيحه (663)، وابن المنذر في الأوسط (3/ 174)، والطبراني في الأوسط (8179)، وفي الكبير (3/ 242) ح 3283، والحاكم في المستدرك (835)، وعنه البيهقي في السنن الكبرى (3996)، وفي الخلافيات (2244)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (2003)، ودحيم في فوائده (59)، والبغوي في معجم الصحابة (431).
وأبو جعفر السويدي كما في مسند أحمد (5/ 310) كلاهما عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه مرفوعًا.
أعله أبو حاتم الرازي والدارقطني بتفرد الحكم بن موسى، عن الوليد بن مسلم.
قال الدارقطني كما في العلل (6/ 141): «تفرد به: الحكم بن موسى عن الوليد بن مسلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه» .
وقال أبو حاتم كما في العلل لابنه (487): «كذا حدثنا الحكم بن موسى! ولا أعلم أحدًا روى عن الوليد هذا الحديث غيره» .
فانظر كيف علل أبو حاتم الحديث لتفرد الحكم بن موسى، وهو وإن كان ثقة، إلا أنه ليس من أصحاب الوليد بن مسلم، فالوليد شامي، والحكم بن موسى عراقي، فكأنه يقول: أين أصحاب الوليد بن مسلم لو كان هذا من حديثه.
وروى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ت بشار (9/ 126) بإسناده، عن عثمان بن سعيد الدارمي، قال: قدم علي بن المديني بغداد، فحدثه الحكم بن موسى بحديث أبي قتادة:(إن أسوأ الناس سرقة)، فقال له علي: لو غيرك حدث به كنا نصنع به، أي لأنك ثقة ولا يرويه غير الحكم. اهـ وانظر: بغية الطلب في تاريخ حلب (6/ 2878).
ولم يتفرد به الحكم بن موسى، فقد تابعه أبو جعفر السويدي (محمد بن النُّوشَجان وثقه أبو داود) كما في مسند أحمد (5/ 310).
وقال أبو زرعة كما في العلل لابن أبي حاتم (2/ 424): حدثني محمد بن أبي عتاب؛ قال: حدثني أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبو جعفر السويدي، عن الوليد بن مسلم، كما رواه الحكم بن موسى».
وقال الخطيب في تاريخ بغداد (9/ 126): «وقد تابع الحكم عليه أبو جعفر السويدي فرواه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عن الوليد بن مسلم هكذا».
وقال الطبراني: «لم يرو هذا الحديث عن الأوزاعي إلا الوليد، ولا رواه عن الوليد إلا الحكم بن موسى، وسليمان بن أحمد الواسطي» .
وسليمان الواسطي متروك: فهل الحمل على الوليد بن مسلم، لأن متابعة أبي جعفر السويدي تخرج الحكم بن موسى من العهدة.
أم أن الحمل على كل من الحكم وأبي جعفر السويدي.
فأبو حاتم كأنه يرى أن الحمل على من رواه عن الوليد بن مسلم، ويستدل لذلك بأن الوليد بن مسلم قد صنف كتاب الصلاة، وليس فيه هذا الحديث. اهـ
ولأن الحديث لو كان من حديث الوليد بن مسلم لوجدته عند أصحابه من أهل الشام، وهم أولى من تفرد الأغراب عنه.
وقد يقال: علته عنعنة الوليد بن مسلم، وهذه العلة هي أقرب ما يعلل به هذا الحديث؛ فهي أولى من اعتبار العلة تفرد الأوزاعي، لأن الأوزاعي إمام، وأولى من إعلال الحديث بالحكم بن موسى وهو لم يتفرد به، فلم يبق الحمل إلا على الوليد بن مسلم، والوليد بن مسلم كان يسوي حديث الأوزاعي، والله أعلم.
قال المعلمي في مقدمته على الفوائد المجموعة (ص: 11): «إذا استنكر الأئمة المحققون المتن، وكان ظاهر السند الصحة، فإنهم يتطلبون له علة، فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقًا حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست قادحة مطلقًا، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذلك المنكر .... » .
وقد أعله بعنعنة الوليد بن مسلم البوصيري في إتحاف الخيرة (2/ 195).
وقد خالف الوليد بن مسلم عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين (كاتب الأوزاعي صدوق ربما أخطأ، قال أبو حاتم: كان كاتب ديوان ولم يكن صاحب حديث)، فرواه عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
أخرجه ابن حبان في صحيحه (1888)، والحاكم في المستدرك (836)، والبيهقي في شعب الإيمان (2848)، من طريق هشام بن عمار.
وأخرجه الطبراني في الأوسط (4665) من طريق محمد بن عثمان التنوخى، كلاهما عن عبد الحميد بن أبي العشرين به.
وقد اختلف العلماء في أيهما أصح؟ قال ابن أبي حاتم كما في العلل (2/ 423): قلت لأبي: فأيهما أشبه عندك؟ قال: جميعًا منكرين؛ ليس لواحد منهما معنى. قلت: لم؟ قال: لأن حديث ابن أبي العشرين لم يرو أحد سواه، وكان الوليد صنف (كتاب الصلاة)، وليس فيه هذا الحديث. اهـ
وقال الدارقطني في العلل (6/ 141): «يشبه أن يكون حديث أبي هريرة أثبت، والله أعلم» .
وقال الحاكم: كلا الإسنادين صحيحان ولم يخرجاه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ولعل كلام أبي حاتم هو الأقرب، والله أعلم، في الباب حديث أبي سعيد، وعبد الله بن مغفل، ومرسل النعمان، وكلها بأسانيد ضعيفة خلا مرسل النعمان فإسناده صحيح.
أما حديث أبي سعيد الخدري، فرواه أبو داود الطيالسي (2333)، وأحمد (3/ 56)، وابن أبي شيبة في المصنف (2960)، وأبو يعلى (1311)، وعبد بن حميد كما في المنتخب (990)، والبزار كما في كشف الأستار (536) من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد.
وهذا الحديث غريب من حديث سعيد، تفرد به علي بن زيد بن جدعان، وليس بالقوي، فالحديث صالح في الشواهد.
وأما حديث عبد الله بن مغفل، فرواه الطبراني في الصغير (335)، وفي الأوسط (3392)، وفي الدعاء (61)، من طريق زيد بن الحريش، حدثنا عثمان بن الهيثم، حدثنا عوف، عن الحسن،
عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسرق الناس من يسرق صلاته. قيل: يا رسول الله وكيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها، وأبخل الناس من بخل بالسلام.
قال الطبراني: لم يروه عن عوف إلا عثمان بن الهيثم تفرد به زيد بن الحريش، ولا يروى عن عبد الله بن مغفل إلا بهذا الإسناد.
وزيد بن الحريش الأهوازي لم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة، وروى له ابن حبان حديثًا واحدًا في صحيحه (1345)، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة، والحاكم في المستدرك، والبيهقي، وروى له الطبراني في معاجمه الثلاثة، وقد تفرد بهذا الحديث، فلا يحتمل تفرده.
وقد ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (3/ 561)، وسكت عليه.
وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 251)، وقال: ربما أخطأ.
وقال ابن القطان الفاسي كما في اللسان (3/ 550): مجهول الحال. اهـ.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 120): رواه الطبراني في الثلاثة ورجاله ثقات. اهـ ولم أقف عليه في الكبير.
والمعروف عن الحسن البصري أنه مرسل، فقد رواه ابن أبي شيبة في المصنف (2967)، حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته، قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها.
قال الإمام أحمد: ليس في المرسلات شيء أضعف من مرسلات الحسن وعطاء،؛ فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد. تهذيب الكمال (20/ 83)، شرح علل الترمذي (1/ 192)، جامع التحصيل (ص: 78)، تهذيب التهذيب (7/ 182).
وقال ابن سيرين: حدثوا عمن شئتم يعني من المراسيل إلا عن الحسن وأبي العالية، فإنهما لا يباليان عمن أخذا الحديث. جامع التحصيل (ص: 78).
وروى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، قال: ربما حَدَّثْنا الحسن بالحديث، ثم =
وقد يعترض على الحديث بأن الراوي قد تردد في لفظه: أقال: لا يتم ركوعها، ولا سجودها، أم قال: لا يقيم صلبه في الركوع والسجود؟
والجواب:
أن معناهما واحد، وهو وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود، فمن أتم ركوعه وسجوده، فقد أقام صلبه فيهما.
قال ابن تيمية: «وهذا التردد في اللفظ ظاهره أن المعنى المقصود من اللفظين واحد، وإنما شك في اللفظ كما في نظائر ذلك»
(1)
.
الدليل السابع:
(ث-437) ما رواه البخاري من طريق عبد الرحمن بن نمر، عن الزهري،
= أسمعه بعد يحدث به، فأقول: من حدثك يا أبا سعيد؟ فيقول: ما أدري غير أني سمعته من ثقة، فأقول: أنا حدثتك به. جامع التحصيل (ص: 78).
وخالفهم ابن المديني ويحيى بن سعيد القطان، وأبو زرعة.
روى محمد بن أحمد المقدمي، قال: سمعت علي بن المديني يقول: مرسلات الحسن البصري التي رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل ما يسقط منها. شرح علل الترمذي (1/ 537).
وهذا المرسل قد رواه عنه يونس بن عبيد، وهو من أثبت أصحاب الحسن.
وقال ابن عدي: سمعت الحسن بن عثمان يقول: سمع أبا زرعة يقول: كل شيء يقول الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدت له أصلًا ثابتًا ما خلا أربعة أحاديث. شرح علل الترمذي (1/ 536).
وقال يحيى بن سعيد القطان: إلا حديثًا أو حديثين. شرح علل الترمذي (1/ 536).
فلا أقل من الاعتبار بمرسل الحسن البصري، إذا رواه عنه الثقات، والله أعلم.
وأما مرسل النعمان فرواه مالك في الموطأ (1/ 167) عن يحيى بن سعيد، عن النعمان بن مرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما ترون في الشارب، والسارق والزاني؟ وذلك قبل أن ينزل فيهم، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هن فواحش، وفيهن عقوبة، وأسوأ السرقة الذي يسرق صلاته، قالوا: وكيف يسرق صلاته يا رسول الله؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها.
وهذا مرسل صحيح الإسناد إلى النعمان بن مرة.
وعن مالك رواه الشافعي في مسنده (ص: 163).
ورواه البيهقي في السنن الكبرى (8/ 364) من طريق ابن بكير، ومن طريق الشافعي، كلاهما عن مالك.
ورواه عبد الرزاق (3740) عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد به. وهذه متابعة للإمام مالك.
(1)
. مجموع الفتاوى (22/ 536).
حدثني حرملة، مولى أسامة بن زيد: أنه بينما هو مع عبد الله بن عمر، إذ دخل الحجاج بن أيمن، فلم يتم ركوعه ولا سجوده، فقال: أعد، فلما ولى، قال لي ابن عمر: من هذا؟ قلت: الحجاج بن أيمن بن أم أيمن. فقال ابن عمر: لو رأى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبه فذكر حُبَّهُ وما ولدت أمُّ أيمن
(1)
.
* الراجح:
أن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة، وفرض من فروضها، في الركوع، وفي الاعتدال منه، وفي السجود، وفي الاعتدال منه، والله أعلم.
* * *
(1)
. صحيح البخاري (3737).